صفحة جزء
فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا إنا إذا لمن الظالمين

قوله تعالى: فإن عثر على أنهما استحقا إثما قال المفسرون: لما نزلت الآية الأولى ، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عديا وتميما ، فاستحلفهما عند المنبر: أنهما لم يخونا شيئا مما دفع إليهما ، فحلفا ، وخلى سبيلهما ، ثم ظهر الإناء الذي كتماه ، فرفعهما أولياء الميت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت فإن عثر على أنهما استحقا إثما ومعنى "عثر": اطلع ، أي: إن عثر أهل الميت ، أو من يلي أمره ، على أن الشاهدين اللذين هما آخران من غيرنا (استحقا إثما) لميلهما عن الاستقامة في شهادتهما (فآخران يقومان مقامهما) أي: مقام هذين الخائنين (من الذين استحق عليهم الأوليان) .

قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، والكسائي: "استحق" بضم التاء ، "الأوليان" على التثنية . وفي قوله: من الذين استحق عليهم قولان . [ ص: 449 ] أحدهما: أنهما الذميان . والثاني: الوليان ، فعلى الأول في معنى (استحق عليهم) أربعة أقوال .

أحدها: استحق عليهم الإيصاء ، قال ابن الأنباري: المعنى: من القوم الذين استحق فيهم الإيصاء ، استحقه الأوليان بالميت ، وكذلك قال الزجاج : المعنى: من الذين استحقت الوصية أو الإيصاء عليهم .

والثاني: أنه الظلم ، والمعنى: من الذين استحق عليهم ظلم الأوليان ، فحذف الظلم ، وأقام الأوليين مقامه ، ذكره ابن القاسم أيضا .

والثالث: أنه الخروج مما قاما به من الشهادة ، لظهور خيانتهما .

والرابع: أنه الإثم ، والمعنى: استحق منهم الإثم ، ونابت "على" عن "من" كقوله: على الناس يستوفون [المطففين 2] أي: منهم . وقال الفراء: "على" بمعنى "في" كقوله: على ملك سليمان [البقرة: 102] أي: في ملكه ، ذكر القولين أبو علي الفارسي . وعلى هذه الأقوال مفعول "استحق" محذوف مقدر . وعلى القول الثاني في معنى (استحق عليهم) قولان .

أحدهما: استحق منهم الأوليان ، وهو اختيار ابن قتيبة .

والثاني: جنى عليهم الإثم ، ذكره الزجاج .

فأما "الأوليان" ، فقال الأخفش: الأوليان: اثنان ، واحدهما: الأولى ، والجمع: الأولون . ثم للمفسرين فيهما قولان .

أحدهما: أنهما أولياء الميت ، قاله الجمهور . قال الزجاج : " الأوليان " في قول أكثر البصريين يرتفعان على البدل مما في "يقومان" والمعنى: فليقم الأوليان بالميت مقام هذين الخائنين . وقال أبو علي: لا يخلو الأوليان أن يكون [ ص: 451 ] ارتفاعهما على الابتداء ، أو يكون خبر مبتدأ محذوف ، كأنه قال: فآخران يقومان مقامهما ، هما الأوليان ، أو يكون بدلا من الضمير الذي في "يقومان" . والتقدير: فيقوم الأوليان .

والقول الثاني: أن "الأوليان": هما الذميان ، والمعنى: أنهما الأوليان بالخيانة ، فعلى هذا يكون المعنى: يقومان ، إلا من الذين استحق عليهم . قال الشاعر:


فليت لنا من ماء زمزم شربة مبردة باتت على طهيان



أي: بدلا من ماء زمزم . وروى قرة عن ابن كثير ، وحفص ، وعاصم: "استحق" بفتح التاء والحاء "الأوليان" على التثنية ، والمعنى: استحق عليهم الأوليان بالميت وصيته التي أوصى بها ، فحذف المفعول . وقرأ حمزة ، وأبو بكر عن عاصم: "استحق" برفع التاء ، وكسر الحاء ، "الأولين" بكسر اللام ، وفتح النون على الجمع ، والتقدير: من الأولين الذين استحق فيهم الإثم ، أي: جني عليهم ، لأنهم كانوا أولين في الذكر . ألا ترى أنه قد تقدم ذوا عدل منكم على قوله: أو آخران من غيركم وروى الحلبي عن عبد الوارث "الأولين" بفتح الواو وتشديدها ، وفتح اللام ، وسكون الياء ، وكسر النون ، وهي تثنية: أول . وقرأ الحسن البصري: "استحق" بفتح التاء والحاء ، "الأولون" تثنية "أول" على البدل من قوله: فآخران . وقال ابن قتيبة: أشبه الأقوال بالآية أن الله تعالى أراد أن يعرفنا كيف يشهد بالوصية عند حضور الموت ، فقال: ذوا عدل منكم أي: عدلان من المسلمين [تشهدونهما على الوصية] ، وعلم أن من الناس من يسافر فيصحبه في سفره أهل الكتاب دون المسلمين ، وينزل القرية التي لا يسكنها غيرهم ، ويحضره الموت ، فلا يجد [ ص: 452 ] من يشهده من المسلمين ، فقال: أو آخران من غيركم ، أي: من غير أهل دينكم ، [ ( إذا ضربتم في الأرض ) أي: سافرتم فأصابتكم مصيبة الموت وتم الكلام . فالعدلان من المسلمين للحضر والسفر خاصة إن أمكن إشهادهما في السفر] والذميان في السفر خاصة إذا لم يوجد غيرهما [ثم قال] تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم أراد: تحبسونهما من بعد صلاة العصر إن ارتبتم في شهادتهما ، وخشيتم أن يكونا قد خانا ، أو بدلا ، فإذا حلفا ، مضت شهادتهما . فإن عثر [بعد هذه اليمين] أي: ظهر على أنهما استحقا إثما ، أي: حنثا في اليمين بكذب [في قول] أو خيانة [في وديعة] ، فآخران ، أي: قام في اليمين مقامهما رجلان من قرابة الميت الذين استحق منهم الأوليان ، وهما الوليان ، يقال: هذا الأولى بفلان ، ثم يحذف من الكلام "بفلان" ، فيقال: هذا الأولى ، وهذان الأوليان ، و "عليهم" بمعنى: "منهم" . فيحلفان بالله: لقد ظهرنا على خيانة الذميين ، وكذبهما ، وما اعتدينا عليهما ، ولشهادتنا أصح ، لكفرهما وإيماننا ، فيرجع على الذميين بما اختانا ، وينقض ما مضى من الحكم بشهادتهما تلك . وقال غيره: لشهادتنا ، أي: ليميننا أحق ، وسميت اليمين شهادة ، لأنها كالشهادة على ما يحلف عليه أنه كذلك .

قال المفسرون: فلما نزلت هذه الآية قام عمرو بن العاص ، والمطلب بن أبي وداعة السهميان ، فحلفا بالله ، ودفع الإناء إليهما وإلى أولياء الميت .

التالي السابق


الخدمات العلمية