صفحة جزء
قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين

قوله تعالى: قال الله إني منزلها عليكم قرأ نافع ، وعاصم ، وابن عامر: "منزلها" بالتشديد ، وقرأ الباقون خفيفة . وهذا وعد بإجابة سؤال عيسى . واختلف العلماء: هل نزلت ، أم لا؟ على قولين .

أحدهما: أنها نزلت ، قاله الجمهور . فروى وهب بن منبه عن أبي عثمان النهدي ، عن سلمان الفارسي قال: لما رأى عيسى أنهم قد جدوا في طلبها لبس جبة من شعر ، ثم توضأ ، واغتسل ، وصف قدميه في محرابه حتى استويا ، وألصق الكعب بالكعب ، وحاذى الأصابع بالأصابع ، ووضع يده اليمنى على اليسرى فوق صدره ، وطأطأ رأسه خضوعا ، ثم أرسل عينيه بالبكاء ، فما زالت تسيل دموعه على خده ، وتقطر من أطراف لحيته حتى ابتلت الأرض من دموعه حيال وجهه ، ثم رفع رأسه إلى السماء ، فقال: اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء ، فبينما عيسى كذلك ، هبطت علينا مائدة من السماء ، سفرة حمراء بين غمامتين ، غمامة من تحتها ، وغمامة من فوقها ، وعيسى يبكي ويتضرع ، ويقول: إلهي اجعلها سلامة ، لا تجعلها عذابا ، حتى استقرت بين يديه ، والحواريون من حوله ، فأقبل هو وأصحابه حتى قعدوا حولها ، وإذا عليهم منديل مغطى ، فقال عيسى: أيكم أوثق بنفسه وأقل بلاء عند ربه فليأخذ هذا المنديل ، وليكشف لنا عن هذه الآية . قالوا: يا روح الله أنت أولانا بذلك ، فاكشف عنها ، فاستأنف وضوءا جديدا ، وصلى ركعتين ، وسأل [ ص: 460 ] ربه أن يأذن له بالكشف عنها ، ثم قعد إليها ، وتناول المنديل ، فإذا عليها سمكة مشوية ، ليس فيها شوك ، وحولها من كل البقل ما خلا الكراث ، وعند رأسها الخل ، وعند ذنبها الملح ، وحولها خمسة أرغفة ، على رغيف تمر ، وعلى رغيف زيتون ، وعلى رغيف خمس رمانات . فقال: شمعون رأس الحواريين: يا روح الله أمن طعام الدنيا هذا ، أمن طعام الجنة؟ فقال عيسى: سبحان الله أما تنتهون! ما أخوفني عليكم . قال شمعون: لا وإله بني إسرائيل ما أردت بهذا سوءا . قال عيسى: ليس ما ترون عليها من طعام الدنيا ، ولا من طعام الجنة ، إنما هو شيء ابتدعه الله ، فقال له: "كن" فكان أسرع من طرفة عين . فقال الحواريون: يا روح الله إنما نريد أن ترينا في هذه الآية آية ، فقال: سبحان الله! ما اكتفيتم بهذه الآية؟! ثم أقبل على السمكة فقال: عودي بإذن الله حية طرية ، فعادت تضطرب على المائدة ، ثم قال: عودي كما كنت ، فعادت مشوية ، فقال: يا روح الله كن أنت أول من يأكل منها ، فقال: معاذ الله بل يأكل منها من سألها ، فلما رأوا امتناعه ، خافوا أن يكون نزولها عقوبة ، فلما رأى عيسى ذلك دعا لها الفقراء والزمنى واليتامى ، فقال: كلوا من رزق ربكم ، ودعوة نبيكم ، ليكون مهنؤها لكم ، وعقوبتها على غيركم ، فأكل منها ألف وسبعمائة إنسان ، يصدرون عنها شباعا وهي كهيئتها حين نزلت ، فصح كل مريض ، واستغنى كل فقير أكل منها ، ثم نزلت بعد ذلك عليهم ، فازدحموا عليها ، فجعلها عيسى نوبا بينهم ، فكانت تنزل عليهم أربعين يوما ، تنزل يوما وتغب يوما ، وكانت تنزل عند ارتفاع الضحى ، فيأكلون منها حتى إذا قالوا ، ارتفعت إلى السماء وهم ينظرون إلى ظلها في الأرض . وقال قتادة: كانت تنزل عليهم بكرة وعشية ، [ ص: 461 ] حيث كانوا . وقال غيره: نزلت يوم الأحد مرتين . وقيل: نزلت غدوة وعشية يوم الأحد ، فلذلك جعلوه عيدا . وفي الذي كان على المائدة ثمانية أقوال .

أحدها: أنه خبز ولحم ، روي عن عمار بن ياسر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "نزلت المائدة من السماء خبزا ولحما" . والثاني: أنها سمكة مشوية ، وخمس أرغفة ، وتمر ، وزيتون ، ورمان ، وقد ذكرناه عن سلمان . والثالث: ثمر من ثمار الجنة ، قاله عمار بن ياسر . وقال قتادة: ثمر من ثمار الجنة ، وطعام من طعامها .

والرابع: خبز ، وسمك ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، وأبو عبد الرحمن السلمي . والخامس: قطعة من ثريد ، رواه الضحاك عن ابن عباس .

والسادس: أنه أنزل عليها كل شيء إلا اللحم ، قاله سعيد بن جبير .

والسابع: سمكة فيها طعم كل شيء من الطعام ، قاله عطية العوفي .

والثامن: خبز أرز وبقل ، قاله ابن السائب .

والقول الثاني: أنها لم تنزل ، روى قتادة عن الحسن أن المائدة لم تنزل ، لأنه لما قال الله تعالى: فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين قالوا: لا حاجة لنا فيها . وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد ، قال: أنزلت مائدة عليها ألوان من الطعام ، فعرضها عليهم ، وأخبرهم أنه العذاب إن كفروا ، فأبوها فلم تنزل . وروى ليث عن مجاهد قال: هذا مثل ضربه الله تعالى [ ص: 462 ] لخلقه ، لينهاهم عن مسألة الآيات لأنبيائه ، ولم ينزل عليهم شيء ، والأول أصح .

قوله تعالى: فمن يكفر بعد منكم أي: بعد إنزال المائدة .

وفي العذاب المذكور قولان .

أحدهما: أنه المسخ . والثاني: جنس من العذاب لم يعذب به أحد سواهم .

قال الزجاج : ويجوز أن يعجل لهم في الدنيا ، ويجوز أن يكون في الآخرة . وفي "العالمين" قولان . أحدهما: أنه عام . والثاني: عالمو زمانهم . وقد ذكر المفسرون أن جماعة من أصحاب المائدة مسخوا . وفي سبب مسخهم ثلاثة أقوال .

أحدها: أنهم أمروا أن لا يخونوا ، ولا يدخروا ، فخانوا وادخروا ، فمسخوا قردة وخنازير ، رواه عمار بن ياسر عن النبي صلى الله عليه وسلم .

والثاني: أن عيسى خص بالمائدة الفقراء ، فتكلم الأغنياء بالقبيح من القول ، وشككوا الناس فيها ، وارتابوا ، فلما أمسى المرتابون بها ، وأخذوا مضاجعهم ، مسخهم الله خنازير ، قاله سلمان الفارسي .

والثالث: أن الذين شاهدوا المائدة ، ورجعوا إلى قومهم ، فأخبروهم ، فضحك بهم من لم يشهد ، وقالوا: إنما سحر أعينكم ، وأخذ بقلوبكم ، فمن أراد الله به خيرا ، ثبت على بصيرته ، ومن أراد به فتنة ، رجع إلى كفره . فلعنهم عيسى ، فأصبحوا خنازير ، فمكثوا ثلاثة أيام ، ثم هلكوا ، قاله ابن عباس .

التالي السابق


الخدمات العلمية