صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 30 ] وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين .

وقوله تعالى : وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين

لما ذكر الله تعالى المؤمنين نعمه عليهم بقوله تعالى :

[ ص: 2982 ] واذكروا إذ أنتم قليل ذكر النبي صلى الله عليه وسلم نعمته عليه خاصة ، في حفظه من مكر قريش به ليشكره تعالى في نجاته من مكرهم ، واستيلائه عليهم ، وذلك أن قريشا ، لما أسلمت الأنصار ، وأخذ نور الإسلام في الانتشار ، فرقوا أن يتفاقم أمره ، فاجتمعوا في دار الندوة ـ ( وهي دار بناها قصي بن كلاب ليصلح فيها بين قريش ، ثم صارت لمشاورتهم ، وهي الآن مقام الحنفي ، والندوة الجماعة من القوم ، وندا بالمكان اجتمع فيه ، ومنه النادي ) ـ ليتشاوروا في أمره صلى الله عليه وسلم .

فقال أبو البحتري بن هشام : رأيي أن تحبسوه في بيت ، وتشدوا وثاقه ، وتسدوا بابه ، غير كوة ، تلقون إليه طعامه وشرابه منها ، وتتربصوا به ريب المنون .

وهذا ما أشير إليه بقوله تعالى : ليثبتوك أي : ليحبسوك ويوثقوك ، لأن كل من حبس شيئا وربطه فقد جعله ثابتا لا يقدر على الحركة منه .

ثم اعترض هذا الرأي شيخ نجدي دخل معهم ، فقال : بئس الرأي ! يأتيكم من يقاتلكم من قومه ، ويخلصه من أيديكم ! ثم قال هشام بن عمرو : رأيي أن تحملوه على جمله ، وتخرجوه من بين أظهركم ، فلا يسركم ما صنع ، واسترحتم .

وهذا ما أشير إليه بقوله تعالى : أو يخرجوك يعني من مكة ، ثم اعترض النجدي أيضا بقوله : بئس الرأي ! يفسد قوما غيركم ، ويقاتلكم بهم . فقال أبو جهل - لعنه الله - : أنا أرى أن تأخذوا من كل بطن غلاما ، وتعطوه سيفا ، فيضربوه ضربة رجل واحد ، فيتفرق دمه في القبائل ، فلا يقوى بنو هاشم على حرب قريش كلهم ، فإذا طلبوا العقل عقلناه واسترحنا ، وهذا ما ذكره تعالى بقوله : أو يقتلوك

ثم قال النجدي اللعين : صدق هذا الفتى ، هو أجودكم رأيا ، فتفرقوا على رأي أبي جهل ، مجمعين على قتله ، فأخبر جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمره أن لا يبيت في مضجعه ، وأذن الله له في الهجرة ، فأمر عليا ، فنام في مضجعه ، وقال له : اتشح ببردتي ، [ ص: 2983 ] فإنه لن يخلص إليك أمر تكرهه .

ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم ، وأخذ قبضة من تراب ، فأخذ الله بأبصارهم عنه ، وجعل ينثر التراب على رؤوسهم وهو يقرأ : يس والقرآن الحكيم إلى قوله فهم لا يبصرون

ومضى مع أبي بكر إلى الغار ، وبات المشركون يحرسون عليا ، يحسبون أنه النبي . فلما أصبحوا ساروا إليه ليقتلوه ، فرأوا عليا ، فقالوا : أين صاحبك ؟ فقال : لا أدري ! فاتبعوا أثره ، فلما بلغوا الغار ، رأوا نسج العنكبوت على بابه ، فقالوا : لو دخله لم يبق لنسج العنكبوت أثر . وخيب الله سعيهم ، وأبطل مكرهم .

ثم مكث صلى الله عليه وسلم فيه ثلاثا ، ثم خرج إلى المدينة
.

روي ذلك عن ابن عباس من طرق عند ابن إسحاق ، والإمام أحمد والحاكم والبيهقي ، دخلت روايات بعضهم في بعض .

وقوله تعالى : ويمكر الله أي : يدبر ما يبطل مكرهم . وقوله : والله خير الماكرين أي : أعظمهم تأثيرا ، قاله المهايمي وأفاد أيضا في مناسبة هذه الآية مع ما قبلها ; أن هذه تشير إلى أن المتقي كما يجعل الله له فرقانا يمنع من الاجتراء على أهله وماله وعرضه ظاهرا يحفظه من مكر من مكر به ، بل يمكر له على ماكره . انتهى .

ثم أخبر تعالى عن كفر قريش وعتوهم وتمردهم ودعواهم الباطل عند سماع آياته تعالى بقوله :

التالي السابق


الخدمات العلمية