صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 41 ] واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنـزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شيء قدير .

واعلموا أنما غنمتم من شيء أي : قل أو كثر من الكفار فأن لله أي : الذي منه النصر المتفرع عليه الغنيمة خمسه شكرا له على نصره وإعطائه الغنيمة وللرسول أي : الذي هو الأصل في أسباب النصر ولذي القربى وهم بنو هاشم والمطلب واليتامى أي : من مات آباؤهم ولم يبلغوا ، لأنهم ضعفاء ، والمساكين لأنهم أيضا ضعفاء كاليتامى وابن السبيل وهو المسافر الذي قطع عليه الطريق ويريد الرجوع إلى بلده ، ولا يجد ما يتبلغ به .

وفي هذه الآية مسائل :

الأولى : قال الفقهاء : ( الغنيمة ) المال المأخوذ من الكفار بإيجاف الخيل والركاب ، أي : ما ظهر عليه المسلمون بالقتال . وهل هي والفيء والنفل شيء واحد أو لا ؟ وسنفصله في آخر المسائل .

[ ص: 2998 ] الثانية : ( ما ) في : ( أنما ) بمعنى الذي والعائد محذوف ، وكان حقها - على أصولهم - أن تكتب مفصولة .

قال الشهاب : وقد أجيز في ( ما ) هذه أن تكون شرطية .

الثالثة : قوله تعالى : من شيء بيان للموصول ، محله النصب ، على أنه حال من عائد الموصول ، قصد به الاعتناء بشأن الغنيمة ، وألا يشذ عنها شيء ، أي : ما غنمتموه كائنا ما كان يقع عليه اسم الشيء ، حتى الخيط والمخيط .

الرابعة : ( الخمس ) بضم الميم ، وسكونها ، لغتان قد قرئ بهما .

الخامسة : أفادت الآية أن الواجب في المغنم تخميسه ، وصرف الخمس إلى من ذكره الله تعالى ، وقسمة الباقي بين الغانمين بالعدل ، للراجل سهم ، وللفارس ذي الفرس العربي ثلاثة أسهم ، سهم له وسهمان لفرسه .

هكذا قسم النبي صلى الله عليه وسلم عام خيبر .

ومن الفقهاء من يقول : للفارس سهمان .

والأول هو الذي دلت عليه السنة الصحيحة ، ولأن الفرس يحتاج إلى مؤونة نفسه وسائسه ، ومنفعة الفارس به أكثر من منفعة رجلين .

ومنهم من يقول : يسوى بين الفرس العربي والهجين في هذا ، الهجين يسمى البرذون والأكديش .

ويجب قسمتها بينهم بالعدل ، فلا يحابى أحد ، لا لرياسته ولا لنسبه ولا لفضله ، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه يقسمونها .

وفي صحيح البخاري أن سعد بن أبي وقاص رأى أن له فضلا على من دونه فقال النبي صلى الله عليه وسلم : هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم ؟ وفي مسند أحمد أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال : ثكلتك أمك ابن أم [ ص: 2999 ] سعد وهل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم . كذا في ( " السياسة الشرعية " ) لابن تيمية .

في ( " زاد المعاد " ) لابن القيم : كان صلى الله عليه وسلم إذا ظفر بعدوه ، أمر مناديا فجمع الغنائم كلها ، فبدأ بالأسلاب فأعطاها لأهلها ، ثم أخرج خمس الباقي فوضعه حيث أراه الله وأمره به من مصالح الإسلام ، ثم يرضخ من الباقي لمن لا سهم له من النساء والصبيان والعبيد ، ثم قسم الباقي بالسوية بين الجيش : للفارس ثلاثة أسهم ، وللراجل سهم ، وكان ينفل من صلب الغنيمة بحسب ما يراه من المصلحة .

وقيل : بل كان النفل من الخمس ، وجمع لسلمة بن الأكوع في بعض مغازيه ، بين سهم الراجل والفارس ، فأعطاه خمسة أسهم ، لعظم غنائه في تلك الغزوة .

قال ابن تيمية : وما زالت الغنائم تقسم بين الغانمين في دولة بني أمية وبني العباس ، لما كان المسلمون يغزون الروم والترك والبربر .

السادسة : ذهب الجمهور إليه أن ذكر الله تعالى في قوله : فأن لله للتعظيم ، أي : تعظيم الرسول ، كما في قوله تعالى : والله ورسوله أحق أن يرضوه أو لبيان أنه لا بد في الخمسة من إخلاصها لله تعالى ، وأن المراد قسمة الخمس على المعطوفين عليه ، وتمسك بعضهم بظاهر ذلك ، فأوجب سهما سادسا لله تعالى ، يصرف في وجوه الخير ، أو يؤخذ للكعبة قال : لأن كلام الحكيم لا يعرى عن الفائدة ، ولأنه ثبت اختصاصه في آية الصدقات في قوله تعالى : وفي سبيل الله فكذا هنا .

وهذا مروي عن أبي العالية ، والربيع والقاسم وأسباطه ويؤيد ما للجمهور ، ما رواه البيهقي بإسناد صحيح عن عبد الله بن شقيق عن رجل قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو بوادي القرى ، وهو معترض فرسا ، فقلت : يا رسول الله ! ما تقول في الغنيمة ؟ فقال : « لله خمسها وأربعة أخماسها للجيش » . قلت : فما أحد أولى به [ ص: 3000 ] من أحد ؟ قال ، « لا ، ولا السهم تستخرجه من جيبك ، ليس أنت أحق به من أخيك المسلم » . ومن لطائف الحسن أنه أوصى بالخمس من ماله وقال : ألا أرضى من مالي بما رضي الله لنفسه ؟

السابعة : خمس النبي صلى الله عليه وسلم الذي جعله الله له ، كان أمره في حياته مفوضا إليه ، يتصرف فيه بما شاء ، ويرده في أمته كيف شاء .

روى الإمام أحمد أن أبا الدرداء قال لعبادة بن الصامت : يا عبادة ! كلمات رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة كذا وكذا في شأن الأخماس ؟ فقال عبادة : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم في غزوهم إلى بعير من المقسم ، فلما سلم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتناول وبرة بين أنملتيه فقال : « إن هذه من غنائمكم ، وإنه ليس لي فيها إلا نصيبي معكم إلا الخمس ، والخمس مردود عليكم ، فأدوا الخيط والمخيط ، وأكبر من ذلك وأصغر ، ولا تغلوا فإن الغلول نار وعار على أصحابه في الدنيا والآخرة ، وجاهدوا الناس ، في الله تبارك وتعالى ، القريب والبعيد ، ولا تبالوا في الله لومة لائم ، وأقيموا حدود الله في الحضر والسفر ، وجاهدوا في سبيل الله ، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة ، ينجي الله تبارك وتعالى به من الغم والهم » .

قال ابن كثير : هذا حديث حسن عظيم .

وروى أبو داود والنسائي عن عمرو بن عبسة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم إلى بعير من المغنم ، فلما سلم أخذ وبرة من جنب البعير ثم قال : « ولا يحل لي من غنائمكم مثل هذا إلا الخمس والخمس مردود عليكم » - واستدل به على أنه عليه الصلاة والسلام كان يصرفه لمصالح المسلمين .

[ ص: 3001 ] وكان له صلى الله عليه وسلم من الغنائم شيء يصطفيه لنفسه ، عبد أو أمة أو فرس أو سيف أو نحو ذلك ، رواه أبو داود عن محمد بن سيرين والشعبي مرسلا ، وأحمد والترمذي عن ابن عباس .

وللعلماء فيما يصنع بخمسه صلى الله عليه وسلم من بعده مذاهب :

فمن قائل : يكون لمن يلي الأمر من بعده ، قال ابن كثير : روي هذا عن أبي بكر وعلي وقتادة وجماعة . وجاء فيه حديث مرفوع .

ومن قائل : يصرف في مصالح المسلمين ، قال الأعمش عن إبراهيم : كان أبو بكر وعمر يجعلان سهم النبي صلى الله عليه وسلم في الكراع والسلاح .

ومن قائل : بأنه يصرف لقرابته صلى الله عليه وسلم .

ومن قائل : بأنه مردود على بقية الأصناف : ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل . واختاره ابن جرير . وللمسألة حظ من النظر .

الثانية : أجمعوا على أن المراد ( بذوي القربى ) قرابته صلى الله عليه وسلم .

وذهب الجمهور إلى أن سهم ذوي القربى يصرف إلى بني هاشم وبني المطلب خاصة ، لأن بني المطلب وازروا بني هاشم في الجاهلية ، وفي أول الإسلام ودخلوا معهم في الشعب غضبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحماية له ، مسلمهم طاعة لله ولرسوله ، وكافرهم حمية للعشيرة ، وأنفة وطاعة لأبي طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وأما بنو عبد شمس وبنو نوفل ، وإن كانوا ابني عمهم ، لم يوافقوهم ، بل حاربوهم ونابذوهم ، ومالؤوا بطون قريش على حرب الرسول ، ولهذا كان ذمهم أبو طالب في قصيدته بقوله منها :

[ ص: 3002 ]

جزى الله عنا عبد شمس ونوفلا عقوبة شر عاجلا غير آجل



( نوفل : هو ابن خويلد ، كان من شياطين قريش ، قتله علي بن أبي طالب يوم بدر ) .


بميزان قسط لا يخيس شعيرة     له شاهد من نفسه غير عائل



( لا يخيس ، من قولهم : خاس بالعهد إذا نقضه وأفسده . والعائل : الحائر ) .


لقد سفهت أحلام قوم تبدلوا     بني خلف قيضا بنا والغياطل



( قيضا : عوضا ، والغياطل : بنو سهم ) .


ونحن الصميم من ذؤابة هاشم     وآل قصي في الخطوب الأوائل



( الصميم : الخالص من كل شيء ، والذؤابة : الجماعة العالية ، وأصله الخصلة من شعر الرأس ) .

وقال جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل : مشيت أنا وعثمان بن عفان ، إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقلنا : أعطيت بني المطلب من خمس خيبر وتركتنا ، ونحن وهم بمنزلة واحدة منك ؟ فقال : « إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد » . - رواه مسلم .

وفي رواية : أنهم لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام - أفاده ابن كثير - .

وقد روي عن ابن عباس وزين العابدين والباقر أنه يسوى في العطاء بين غنيهم وفقيرهم ، ذكورهم وإناثهم ، لأن اسم القرابة يشملهم ، ولأنهم عوضوه لما حرمت عليهم الزكاة ، وقياسا على المال المقر به لبني فلان .

واعتبر الشافعي أن سهمهم استحق بالقرابة ، فأشبه الميراث . قال : فللذكر منه مثل حظ الأنثيين . انتهى .

وقال في ( " العناية " ) : إنه كان لعبد مناف ـ جد النبي صلى الله عليه وسلم ـ خمس بنين : هاشم وعبد شمس ونوفل والمطلب وأبو عمرو ، وكلهم أعقبوا إلا أبا عمرو .

التاسعة : سهم اليتامى : قيل يخص به فقراؤهم ، وقيل : يعم الأغنياء والفقراء ، [ ص: 3003 ] حكاه ابن كثير . والأظهر الثاني ، والسر فيه ما قدمناه في سورة البقرة ، فتذكره فإنه مهم .

العاشرة : المساكين : المحاويج الذين لا يجدون ما يسد خلتهم ويكفيهم ، وابن السبيل : ذكرنا معناه أولا .

الحادية عشرة : قال بعضهم : يقتضي ما ذكر في هذه الآية وما في صدر هذه السورة من الأنفال ، وما في سورة الحشر من قوله تعالى : ما أفاء الله على رسوله

أن القسمة في الأموال المظفور بها ثلاثية : نفل : وغنيمة ، وفيء ، ويقتضي إطلاق جعل النفل لله ولرسوله ، والغنيمة لمن ذكر مخمسة ، والفيء لمن ذكر بلا قيد . التخميس أن لكل من الثلاثة حكما يخالف الآخر ، وإن النفل ما يعطى لمن له من العناية والمقاتلة ما ليس لغيره ، وفاء لعدته بذلك ، قبل إحراز الغنيمة كالسلب ، وإن الغنيمة ما أحرز بالقتال ، سوى ما شرط التنفيل به ، لأنه لا يخمس ، والفيء ما أخذ من الكفار بغير قتال ، كالأموال التي يصالحون عليها ، والجزية والخراج ، ونحو ذلك ، وإلى هذا التفصيل ذهب الجمهور .

وذهب بعضهم إلى اتحاد الثلاثة ، وعدم التفرقة بينها ، وإلى دخولها في الغنيمة ، وقال : ما أطلق في آية الأنفال ، وآية الحشر ، مقيد بآية الغنيمة هذه . وهذا هو مراد قول بعضهم : إنهما منسوختان بهذه ، بمعنى أن إطلاقهما مقيد بهذه ـ والله أعلم ـ .

وقوله تعالى : إن كنتم آمنتم بالله أي : فاعملوا بما ذكر ، وارضوا بهذه القسمة فالإيمان يوجب العمل بالعلم ، والرضا بالحكم .

وقد جاء في الصحيحين من حديث عبد الله بن عباس ، في حديث وفد عبد القيس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم : « وآمركم بأربع ، وأنهاكم عن أربع : آمركم بالإيمان بالله » . [ ص: 3004 ] ثم قال : « هل تدرون ما الإيمان بالله ؟ شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وأن تؤدوا الخمس من المغنم » ، الحديث - فجعل أداء الخمس من جملة الإيمان ، وقد بوب البخاري على ذلك في باب الإيمان من صحيحه ، فقال : ( باب أداء الخمس من الإيمان ) ، وساق الحديث المذكور .

وقوله تعالى : وما أنـزلنا معطوف على : ( بالله ) أي : إن كنتم آمنتم بالله وبالمنزل على عبدنا أي : محمد عليه الصلاة والسلام ، أي : من الآيات والملائكة والنصر ، يوم الفرقان أي : يوم بدر ، فإنه فرق فيه بين الحق والباطل . و ( الفرقان ) بمعناه اللغوي ، والإضافة فيه للعهد يوم التقى الجمعان يعني جمع المؤمنين وجمع الكافرين ، فالتعريف للعهد ، وكان التقاؤهما يوم الجمعة لسبع عشرة مضت من رمضان ، والمؤمنون يومئذ ثلاثمائة وبضعة عشرة رجلا ، والمشركون ما بين الألف والتسعمائة ، فهزم الله المشركين ، وقتل منهم زيادة على سبعين ، وأسر منهم مثل ذلك .

والله على كل شيء قدير فيقدر على نصر القليل على الكثير ، كما فعل بكم يوم بدر .

التالي السابق


الخدمات العلمية