صفحة جزء
[ ص: 3060 ] سورة التوبة

هي مدنية بإجماعهم . قيل : سوى آيتين في آخرها لقد جاءكم رسول من أنفسكم فإنهما نزلتا بمكة . وفيه نظر . فقد روى البخاري عن البراء أنها آخر سورة نزلت ، واستثنى بعضهم ما كان للنبي . . - لما ورد أنها نزلت في قوله صلى الله عليه وسلملأبي طالب : لأستغفرن لك ما لم أنه عنك .

وهي مائة وتسع وعشرون آية ولهذه السورة عشرة أسماء :

1- براءة : سميت بها لافتتاحها بها ، ومرجع أكثر ما ذكر فيها إليها .

2- التوبة : لتكرارها فيها ، كقوله تعالى : فإن تبتم فهو خير لكم فإن تابوا وأقاموا الصلاة وقوله : ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء وقوله : فإن يتوبوا يك خيرا لهم وقوله: عسى الله أن يتوب عليهم وقوله : لقد تاب الله على النبي وقوله تعالى : ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة وقوله : التائبون العابدون وهما أشهر أسمائها .

3- الفاضحة : أخرج البخاري عن سعيد بن جبير قال : قلت لابن عباس :

سورة [ ص: 3061 ] التوبة ، قال : التوبة هي الفاضحة ، ما زالت تنزل : ومنهم ومنهم ، حتى ظنوا أنها لم تبق أحدا منهم إلا ذكر فيها .

4- سورة العذاب : رواه الحاكم عن حذيفة ، وذلك لتكرره فيها .

5- المقشقشة : رواه أبو الشيخ عن ابن عمر ، والقشقشة معناها التبرئة ، وهي مبرئة من النفاق .

6- المنقرة : أخرجه أبو الشيخ عن عبيد بن عمير لأنها نقرت عما في قلوب المشركين . أي بحثت .

7- البحوث : بفتح الباء ، صيغة مبالغة ، رواه الحاكم عن المقداد .

8- الحافرة : ذكره ابن الغرس ، لأنها حفرت عن قلوب المنافقين ، أي بحثت عنها ، مجازا .

9- المثيرة : رواه ابن أبي حاتم عن قتادة لأنها أثارت مثالبهم وعوراتهم أي أخرجتها من الخفاء إلى الظهور .

10- المبعثرة : لأنها بعثرت أسرارهم أي أظهرتها .

11- المدمدمة : أي المهلكة لهم .

12- المخزية .

13- المنكلة : أي المعاقبة لهم .

14- المشردة : أي الطاردة لهم والمفرقة جمعهم .

وليس في السور أكثر أسماء منها ومن الفاتحة .

تنبيه :

للسلف في وجه ترك كتابة البسملة في هذه السورة والتلفظ بها أقوال :

1-

روى الحاكم في ( المستدرك ) عن ابن عباس قال : سألت علي بن أبي طالب : لم لم تكتب في ( براءة ) البسملة؟ قال : لأنها أمان . وبراءة نزلت بالسيف .

أي فنزولها لرفع [ ص: 3062 ] الأمان الذي يأبى مقامه التصدير بما يشعر ببقائه من ذكر اسمه تعالى ، مشفوعا بوصف الرحمة . ولذا قال ابن عيينة : اسم الله سلام وأمان ، فلا يكتب في النبذ والمحاربة . قال الله تعالى : ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا قيل له : فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد كتب إلى أهل الحرب البسملة . قال : إنما ذلك ابتداء منه يدعوهم ، ولم ينبذ إليهم . ألا تراه يقول : سلام على من اتبع الهدى؟

فمن دعي إلى الله عز وجل فأجاب ، ودعي إلى الجزية فأجاب ، فقد اتبع الهدى ، فظهر الفرق . وكذا قال المبرد : إن التسمية افتتاح للخير ، وأول هذه السورة وعيد ونقض عهود ، فلذلك لم تفتتح بالتسمية .

2- عن ابن عباس قال : قلت لعثمان : ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال ، وهي من المثاني ، وإلى براءة وهي من المئين ، فقرنتم بينهما ، ولم تكتبوا سطر البسملة ، ووضعتموها في السبع الطوال ، ما حملكم على ذلك؟ قال عثمان : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه السور ذوات العدد ، وكان إذا نزل عليه شيء دعا بعض من كان يكتب فيقول : ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا ، وإذا نزلت عليه الآية يقول : ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا ، وكانت ( الأنفال ) من أوائل ما نزل بالمدينة ، وكانت ( براءة ) من آخر القرآن نزولا ، وكانت قصتها شبيهة بقصتها ، وظننت أنها منها . وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها أو من غيرها ، من أجل ذلك قرنت بينهما ، ولم أكتب البسملة ، ووضعتها في السبع الطوال . أخرجه أبو داود والترمذي وقال : حديث حسن ورواه الإمام أحمد والنسائي وابن حبان في صحيحه ، والحاكم وصححه .

[ ص: 3063 ] قال الزجاج : والشبه الذي بينهما أن في ( الأنفال ) ذكر العهود ، وفي ( براءة ) نقضها .

3- أخرج أبو الشيخ عن أبي روق قال : ( الأنفال ) و ( براءة ) سورة واحدة .

ونقل مثله عن مجاهد ، وأخرجه ابن أبي حاتم عن سفيان . وقال ابن لهيعة : يقولون إن ( براءة ) من ( الأنفال ) ، ولذلك لم تكتب البسملة في ( براءة ) ، وشبهتهم اشتباه الطرفين ، وعدم البسملة . ويرده تسمية النبي صلى الله عليه وسلم كلا منهما .

وقال الحاكم : استفاض النقل أنهما سورتان .

وقال أبو السعود : اشتهارها بهذه الأسماء- يعني الأربعة عشر اسما المتقدمة- يقضي بأنها سورة مستقلة ، وليست بعضا من سورة الأنفال ، وادعاء اختصاص الاشتهار بالقائلين باستقلالها خلاف الظاهر ، انتهى .

ونقل صاحب ( الإقناع) أن البسملة ثابتة لـ ( براءة) في مصحف ابن مسعود قال : ولا يؤخذ بها .

وعن مالك أن أولها لما سقط سقطت معه البسملة ، فقد ثبت أنها كانت تعدل البقرة لطولها ، كذا في ( الإتقان) .

ثم اعلم على أن القراء أجمعوا على ترك البسملة في آخر هذه السورة اتباعا لسقوطها في الرسم من مصحف الإمام ، إلا ابن منادر فإنه يسمي في أولها ، كما في مصحف ابن مسعود .

وقال السخاوي في ( جمال القراء) : إنه اشتهر تركها فى أول براءة .

وروي عن عاصم التسمية فى أولها، وهو القياس . لأن إسقاطها ، إما لأنها نزلت بالسيف أو لأنهم لم يقطعوا بأنها سورة مستقلة ، بل من الأنفال . ولا يتم الأول ، لأنه مخصوص بمن نزلت فيه ، ونحن إنما نسمي للتبرك وأما الابتداء بما بعد أول براءه ، فلا نص للمتقدمين من أئمة القراء فيه ، وظاهر إطلاق كثير التخيير فيها ، واختار السخاوي [ ص: 3064 ] الجواز ، وقال: ألا ترى أنه يجوز بغير خلاف أن يقول : ( بسم الله الرحمن الرحيم وقاتلوا المشركين وإلى منعها ذهب الجعبري ، وتعقبه السخاوي فقال : إن كان نقلا فمسلم، وإلا فرد عليه ، لأنه تفريغ على غير أصل .

وقال ابن الجزري في ( النشر ) : من اعتبر بقاء أثر العلة التي من أجلها حذفت البسملة أولها ، وهي نزولها بالسيف ، لم يبسمل . ومن لم يعتبر ذلك، أو لم يرها، بسمل بلا نظر والله أعلم .

وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

[ 1 ] براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين .

وقوله تعالى :

براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين خبر لمحذوف ، وتنوينه للتفخيم ، أي : هذه براءة ، أو مبتدأ مخصص بصفة ، وخبره : ( إلى الذين ) .

و ( البراءة ) في اللغة انقطاع العصمة ، يقال : برئت من فلان براءة ، أي : انقطعت بيننا العصمة ، ولم يبق بيننا علقة .

فإن قيل : حق البراءة أن تنسب إلى المعاهد ، فلم لم تنسب إليهم ، ونسبت إلى الله ورسوله ؟

أجيب : أن ( عاهدتم ) إخبار عن سابق صدر من الرسول صلى الله عليه وسلم والجماعة ، فنسب إلى الكل ، كما هو الواقع ، وإن كان بإذن الله أيضا .

وأما البراءة فهي إخبار عن متجدد ، فكيف ينسب إليهم ، وهم لم يحدثوه بعد ، وإنما يسند إلى من أحدثه ؟

وقال الناصر : إن سر ذلك أن نسبة العهد إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في مقام نسب فيه النبذ إلى المشركين ، لا يحسن أدبا ، ألا ترى إلى وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 3065 ] لأمراء السرايا حيث يقول لهم :

« إذا نزلت بحصن فطلبوا النزول على حكم الله ، فأنزلهم على حكمك ، فإنك لا تدري أصادفت حكم الله فيهم أو لا ! وإن طلبوا ذمة الله ، فأنزلهم على ذمتك ، فلأن تخفر ذمتك ، خير من أن تخفر ذمة الله » !

فانظر إلى أمره صلى الله عليه وسلم بتوقير ذمة الله ، مخافة أن تخفر ، وإن كان لم يحصل بعد ذلك الأمر المتوقع ، فتوقير عهد الله ، وقد تحقق من المشركين النكث ، وقد تبرأ منه الله ورسوله بألا ينسب العهد المنبوذ إلى الله أحرى وأجدر . فلذلك نسب العهد إلى المسلمين دون البراءة منه .

وقال الشهاب : ولك أن تقول : إنما أضاف العهد إلى المسلمين ، لأن الله علم أن لا عهد لهم ، فلذا لم يضف العهد إليه ، لبراءته منهم ، ومن عهدهم في الأزل .

وهذا نكتة الإتيان بالجملة اسمية خبرية ، وإن قيل : إنها إنشائية للبراءة منهم ، ولذا دلت على التجدد . انتهى .

قال ابن إسحاق : نزلت براءة في نقض ما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين من العهد الذي كانوا عليه فيما بينه وبينهم ، ألا يصد عن البيت أحد جاءه ، ولا يخاف أحد في الشهر الحرام . وكان ذلك عهدا عاما بينه وبين الناس من أهل الشرك .

وكانت بين ذلك عهود بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قبائل من العرب خصائص إلى آجال مسماة ، فنزلت فيه وفيمن تخلف من المنافقين عنه في ( تبوك ) ، وفي قول من قال منهم ، فكشف الله سرائر أقوام كانوا يستخفون بغير ما يظهرون .

[ ص: 3066 ] وقال ابن كثير : وأول هذه السورة نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من غزوة ( تبوك ) ، وهم بالحج ، ثم ذكر أن المشركين يحضرون عامهم هذا الموسم على عادتهم في ذلك ، وأنهم يطوفون بالبيت عراة فكره مخالطتهم ، وبعث أبا بكر الصديق رضي الله عنه أميرا على الحج تلك السنة ، ليقيم للناس مناسكهم ، ويعلم المشركون ألا يحجوا بعد عامهم هذا ، وأن ينادي بالناس : براءة من الله ورسوله فلما قفل ، وأتبعه بعلي بن أبي طالب ، لكونه مبلغا عنه صلى الله عليه وسلم ، ولكونه عصبة له ، كما سيأتي .

وقوله تعالى :

التالي السابق


الخدمات العلمية