صفحة جزء
[ ص: 3211 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[ 79 ] الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم .

الذين يلمزون أي : يعيبون المطوعين أي : المتبرعين من المؤمنين في الصدقات فيزعمون أنهم تصدقوا رياء والذين أي : ويلمزون الذين لا يجدون إلا جهدهم أي : لا يجدون ما يتصدقون به إلا قليلا ، وهو مقدار طاقتهم .

فيسخرون منهم أي : يهزؤون بهم ، ويقولون إن الله غني عن صدقتهم ، سخر الله منهم أي : جازاهم على سخرهم ولهم عذاب أليم

روى البخاري في " صحيحه " عن أبي مسعود رضي الله عنه قال : لما نزلت آية الصدقة ، كنا نحامل فجاء رجل فتصدق بشيء كثير ، فقالوا : مرائي . وجاء رجل فتصدق بصاع ، فقالوا : إن الله لغني عن صدقة هذا ، فنزلت : الذين يلمزون الآية ، رواه مسلم أيضا .

وروى الإمام أحمد عن أبي السليل ، عن رجل حدثه عن أبيه أو عمه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « من يتصدق بصدقة أشهد له بها يوم القيامة » ؟ فجاء رجل لم أر رجلا أشد منه سوادا ، ولا أصغر منه ولا آدم ، بناقة لم أر أحسن منها ، فقال : يا رسول الله ، دونك هذه الناقة . قال : فلمزه رجل فقال : هذا يتصدق بهذه ، فوالله لهي خير منه ، فسمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « كذبت ! بل هو خير منك ومنها ثلاث مرات » ، ثم قال : « ويل لأصحابك إلا من قال بالمال هكذا وهكذا » ، وجمع بين كفيه عن يمينه وعن شماله .

[ ص: 3212 ] قال ابن إسحاق : كان المطوعون من المؤمنين في الصدقات عبد الرحمن بن عوف ، وعاصم بن عدي أخا بني عجلان ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رغب في الصدقة ، وحض عليها ، فقام عبد الرحمن بن عوف فتصدق بأربعة آلاف ، وقام عاصم بن عدي وتصدق بمائة وسق من تمر ، فلمزوها وقالوا : ما هذا إلا رياء .

وكان الذي تصدق بجهده أبا عقيل ، أخا بني أنيف ، أتى بصاع من تمر ، فأفرغها في الصدقة فتضاحكوا به ، وقالوا : إن الله لغني عن صاع أبي عقيل .

وروى الحافظ البزار في مسنده عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « تصدقوا فإني أريد أن أبعث بعثا » ، فجاء عبد الرحمن بن عوف فقال : يا رسول الله ! عندي أربعة آلاف ، ألفين أقرضهما لربي ، وألفين لعيالي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « بارك الله لك فيما أعطيت ، وبارك لك فيما أمسكت » .

وبات رجل من الأنصار فأصاب صاعين من تمر ، فقال : يا رسول الله ! أصبت صاعين من تمر ، صاع أقرضه لربي ، وصاع لعيالي . قال ، فلمزه المنافقون وقالوا : ما أعطى الذي أعطى ابن عوف إلا رياء ، وقالوا ألم يكن الله ورسوله غنيين عن صاع هذا ؟ فأنزل الله الآية .


وقوله صلى الله عليه وسلم « أريد أن أبعث بعثا » أي : لغزو الروم ، وذلك في غزوة تبوك .

تنبيهات :

الأول : قال السيوطي في ( " الإكليل " ) : في هذه الآية تحريم اللمز والسخرية بالمؤمنين . انتهى .

الثاني : في : الذين يلمزون وجوه الإعراب : خبر مبتدأ بتقدير : ( هم الذين ) أو مفعول أعني أو أذم الذين ، أو مجرور بدل من ضمير : ( سرهم ) ، وجوز أيضا أن يكون [ ص: 3213 ] مبتدأ خبره : سخر الله منهم وقيل : فيسخرون ودخلت ( الفاء ) لما في ( الذين ) من الشبه بالشرط . وأما : ( الذين لا يجدون ) إلخ فقيل : معطوف على : الذين يلمزون وقيل : على : ( المؤمنين ) ، والأحسن أنه معطوف على المطوعين

قال في ( " الفتح " ) : ويكون من عطف الخاص على العام ، والنكتة فيه التنويه بالخاص ، لأن السخرية من المقل أشد من المكثر غالبا .

الثالث : قال في ( " الفتح " ) : قراءة الجمهور : المطوعين بتشديد الطاء والواو . وأصله المتطوعين ، أدغمت التاء في الطاء . انتهى .

أي : لقرب المخرج ، والتطوع التنفل ، وهو الطاعة لله تعالى بما ليس بواجب .

و ( الجهد ) ، قال الليث : هو شيء قليل يعيش به المقل ، وبضم الجيم قرأ الجمهور . وقرأ ابن هرمز وجماعة بالفتح ، فقيل : هما لغتان بمعنى واحد .

وقيل : المفتوح بمعنى المشقة ، والمضموم بمعنى الطاقة ، وقيل : المضموم قليل يعاش به ، والمفتوح : العمل .

والمختار أنهما بمعنى ، وهو الطاقة وما تبلغه القوة . قال الفراء : الضم لغة أهل الحجاز ، والفتح لغيرهم . والهزء والسخرية بمعنى .

وقوله تعالى :

التالي السابق


الخدمات العلمية