صفحة جزء
[ ص: 3217 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[ 81 ] فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون .

فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله المخلفون : هم الذين استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين ، فأذن لهم في التخلف كما قلنا ، أو لأنه خلفهم في المدينة في غزوة تبوك .

وإيثار : ( المخلفون ) على ( المتخلفون ) ، لأنه صلى الله عليه وسلم منع بعضهم من الخروج ، فغلب على غيرهم ، أو المراد من خلفهم كسلهم أو نفاقهم ، أو لأن الشيطان أغراهم بذلك ، وحملهم عليه .

وقوله تعالى : بمقعدهم متعلق ب ( فرح ) ، أي : بقعودهم عن غزوة تبوك . ف ( مقعد ) على هذا ، مصدر ميمي ، أو هو اسم مكان ، والمراد به المدينة .

وقوله : خلاف رسول الله أي : خلفه ، وبعد خروجه ، حيث خرج ولم يخرجوا .

ف خلاف ظرف بمعنى خلف وبعد .

يقال : فلان أقام خلاف الحي أي : بعدهم ، ظعنوا ولم يظعن ، ويؤيده قراءة من قرأ : ( خلف رسول الله ) ، فانتصابه على أنه ظرف ل ( مقعدهم ) ، إذ لا فائدة لتقييد فرحهم بذلك .

قال الشهاب : واستعمال ( خلاف ) بمعنى ( خلف ) ، لأن جهة الخلف خلاف الأمام ، وجوز أن يكون ( الخلاف ) بمعنى ( المخالفة ) ، فهو مصدر ( خالف ) ، كالقتال ، ويعضده قراءة من قرأ ( خلف رسول الله ) بضم الخاء ، وفي نصبه وجهان :

الأول : أنه مفعول له ، والعامل إما ( فرح ) ، أي : فرحوا لأجل مخالفته صلى الله عليه وسلم بالقعود ، وإما ( مقعدهم ) ، لأجل مخالفته صلى الله عليه وسلم ، فهو علة إما للفرح أو للقعود .

[ ص: 3218 ] والثاني : أنه حال ، والعامل أحد المذكورين ، أي : فرحوا مخالفين له صلى الله عليه وسلم بالقعود ، أو فرحوا بالقعود مخالفين له .

وقوله تعالى : وكرهوا إلخ أي : لما في قلوبهم من مرض النفاق .

قال أبو السعود : وإنما أوثر ما عليه النظم الكريم على أن يقال : وكرهوا أن يخرجوا إلى الغزو ، إيذانا بأن الجهاد في سبيل الله ، مع كونه من أجل الرغائب ، وأشرف المطالب ، التي يجب أن يتنافس بها المتنافسون ، قد كرهوه ، كما فرحوا بأقبح القبائح ، الذي هو القعود خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم .

قال الزمخشري : في قوله تعالى : وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم تعريض بالمؤمنين ، وبتحملهم المشاق العظام لوجه الله تعالى ، وبما فعلوا من بذل أموالهم وأرواحهم في سبيل الله تعالى ، وإيثارهم ذلك على الدعة والخفض ـ أي : ( الراحة والتنعم بالمآكل والمشارب ) ـ وكره ذلك المنافقون ، وكيف لا يكرهونه ؟ وما فيهم ما في المؤمنين من باعث الإيمان ، وداعي الإيقان .

قال الشهاب : ووجه التعريض ظاهر ، لأن المراد كرهوه ، لا كالمؤمنين الذين أحبوه .

وقوله تعالى : وقالوا لا تنفروا في الحر أي : قالوا لإخوانهم لا تنفروا إلى الجهاد في الحر ، فإنه لا يستطاع شدته .

وذلك أن الخروج في غزوة تبوك كان في شدة الحر ، عند طيب الظلال والثمار ، وذلك تثبيتا لهم على التخلف ، وتواصيا فيما بينهم بالشر والفساد ، أو قالوا للمؤمنين تثبيطا لهم عن الجهاد ، ونهيا عن المعروف ، وإظهارا لبعض العلل الداعية لهم إلى ما فرحوا به من القعود وكراهية الجهاد ، ونهي الغير عن ذلك - أفاده أبو السعود - .

وقوله تعالى : قل أي : ردا عليهم وتجهيلا لهم : نار جهنم أي : التي ستدخلونها [ ص: 3219 ] بما فعلتم : أشد حرا أي : مما تحذرون من الحر المعهود ، وتحذرون الناس منه ، فما لكم لا تحذرونها ، وتعرضون أنفسكم لها ، بإيثار القعود على النفير .

وقوله تعالى : لو كانوا يفقهون اعتراض تذييلي من جهته تعالى ، غير داخل تحت القول المأمور به ، مؤكد لمضمونه .

وجواب ( لو ) إما مقدر ، أي : لو كانوا يفقهون أنها كذلك ، أو كيف هي ، أو أن مآلهم إليها لما فعلوا ما فعلوا ، أو لتأثروا بهذا الإلزام ، وإما غير منوي ، على أن لو لمجرد التمني المنبئ عن امتناع تحقق مدخولها ، أي : لو كانوا من أهل الفقه الفطانة ، كما في قوله تعالى : قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون

كذا في ( أبي السعود ) .

تنبيهان :

الأول : قال الزمخشري : قوله تعالى : قل نار جهنم إلخ ، استجهال لهم ، لأن من تصون من مشقة ساعة ، فوقع بسبب ذلك التصون في مشقة الأبد ، كان أجهل من كل جاهل . ولبعضهم :


مسرة أحقاب تلقيت بعدها مساءة يوم أريها شبه الصاب

    فكيف بأن تلقي مسرة ساعة
وراء تقضيها مساءة أحقاب



- انتهى -

[ ص: 3220 ] أي : فهم كما قال الآخر :


كالمستجير من الرمضاء بالنار



وقال آخر :


عمرك بالحمية أفنيته     خوفا من البارد والحار


وكان أولى لك أن تتقي     من المعاصي حذر النار



الثاني : روى الإمام مالك والشيخان عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « نار بني آدم التي يوقدون بها جزء من سبعين جزءا » ، زاد الإمام أحمد : « من نار جهنم » .

وروى الشيخان عن النعمان بن بشير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن أهون أهل النار عذابا يوم القيامة ، لمن له نعلان وشراكان من نار يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل ، لا يرى أن أحدا من أهل النار أشد عذابا منه ، وإنه أهونهم عذابا » .

ثم أخبر تعالى عن عاجل أمرهم وآجله من الضحك القليل ، والبكاء الطويل ، المؤدي إليه أعمالهم السيئة ، التي من جملتها ما ذكر من الفرح ، بقوله سبحانه :

التالي السابق


الخدمات العلمية