صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 110 ] لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم .

لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم أي : لا يزال هدمه سبب شك ونفاق زائد على شكهم ونفاقهم ، لا يزول وسمه عن قلوبهم ، ولا يضمحل أثره إلا أن تقطع قلوبهم أي : قطعا ، وتتفرق أجزاء ، فحينئذ يسلون عنه .

وأما ما دامت سالمة مجتمعة ، فالريبة باقية فيها متمكنة ، فيجوز أن يكون ذكر التقطيع تصويرا لحال زوال الريبة عنها ، ويجوز أي : يراد حقيقة تقطيعها وتمزيقها بالموت ، أو بعذاب النار .

وقيل : معناه إلا أن يتوبوا توبة تتقطع بها قلوبهم ندما وأسفا على تفريطهم والله عليم أي : بنياتهم حكيم أي : فيما أمر بهدم بنيانهم ، حفظا للمسلمين عن مقاصدهم الرديئة .

تنبيهات :

الأول : قال الزمخشري : في مصاحف أهل المدينة والشام : ( الذين اتخذوا ) بغير واو ، لأنها قصة على حيالها ، وفي سائرها بالواو على عطف قصة مسجد الضرار الذي أحدثه المنافقون على سائر قصصهم .

الثاني : سبب نزول هذه الآيات أنه كان بالمدينة ، قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها ، رجل من الخزرج يقال له أبو عامر الراهب ، وكان قد تنصر في الجاهلية ، وقرأ علم أهل الكتاب ، وكان فيه عبادة في الجاهلية ، وله شرف في الخزرج كبير .

فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجرا إلى المدينة ، واجتمع المسلمون عليه ، وصار للإسلام كلمة عالية ، وأظهرهم الله يوم بدر ، [ ص: 3264 ] شرق اللعين أبو عامر بريقه ، وبارز بالعداوة ، وظاهر بها ، وخرج فارا إلى كفار مكة يمالئهم على حرب النبي صلى الله عليه وسلم ، فاجتمعوا بمن وافقهم من أحياء العرب ، وقدموا عام ( أحد ) ، فكان أبو عامر في أول المبارزة إلى قومه من الأنصار فخاطبهم واستمالهم إلى نصره وموافقته .

فلما عرفوا كلامه قالوا : لا أنعم الله بك عينا ، يا فاسق ، يا عدو الله ! ونالوا منه وسبوه . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دعاه إلى الله قبل فراره ، وقرأ عليه من القرآن ، فأبى أن يسلم وتمرد .

فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يموت بعيدا طريدا فنالته هذه الدعوة . وذلك أنه لما فرغ الناس من ( أحد ) ، ورأى أمر الرسول صلى الله عليه وسلم في ارتفاع وظهور ، ذهب إلى هرقل ملك الروم يستنصره على رسول الله ، فوعده ومناه ، وأقام عنده ، وكتب إلى جماعة من قومه من الأنصار ، من أهل النفاق والريب يعدهم ويمنيهم أنه سيقدم بجيش يقاتل به رسول الله صلى الله عليه وسلم ويغلبه ويرده عما هو فيه ، وكان أمرهم أن يتخذوا له معقلا ومرصدا له إذا قدم عليهم بعد ذلك ، فشرعوا في بناء مسجد مجاور لمسجد قباء ، فبنوه وأحكموه ، وفرغوا منه ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتجهز إلى تبوك .

فأتوه فقالوا : يا رسول الله ! إنا قد بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية ، وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه .

فقال : « إني على جناح سفر ، وحال شغل ، ولو قدمنا ، إن شاء الله تعالى ، أتيناكم ، فصلينا لكم فيه » .

فلما نزل بذي أوان - موضع على ساعة من المدينة - أتاه خبر المسجد ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك بن الدخشم ومعن بن عدي أو أخاه عامرا ، فقال : انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله ، فاهدماه وحرقاه .

فخرجا سريعين ، حتى أتيا بني سالم بن عوف ، وهم رهط مالك بن الدخشم ، فقال مالك لمعن : أنظرني حتى أخرج إليك بنار من أهلي ، فدخل أهله ، فأخذ سعفا من النخل ، فاشعل فيه نارا ، ثم خرجا يشتدان ، حتى دخلا المسجد ، وفيه أهله ، فحرقاه وهدماه ، وتفرقوا عنه ، ونزل فيهم ما نزل
- ذكره ابن كثير ، وأسند أطرافه إلى ابن إسحاق وابن مردويه - .

[ ص: 3265 ] وروي أن بني عمرو بن عوف الذين بنوا مسجد قباء ، أتوا عمر بن الخطاب في خلافته ، فسألوه أن يأذن لمجمع بن جارية أن يؤمهم في مسجدهم فقال : لا ، ونعمة عين ! أليس هو إمام مسجد الضرار ؟ قال مجمع : يا أمير المؤمنين ! لا تعجل علي ، فوالله ! لقد صليت فيه وأنا لا أعلم ما أضمروا عليه ، ولو علمت ما صليت معهم فيه ، وكنت غلاما قارئا للقرآن ، وكانوا شيوخا لا يقرؤون ، فصليت بهم ولا أحسب إلا أنهم يتقربون إلى الله ، ولم أعلم ما في نفوسهم . فعذره عمر ، فصدقه وأمره بالصلاة في مسجد قباء .

الثالث : ما قدمناه من أن المسجد في الآية هو مسجد قباء ، لأن السياق في معرضه ، وبيان أحقية الصلاة فيه من ذاك ، لأنه أسس على طاعة الله وطاعة رسوله ، وجمع كلمة المؤمنين .

ولما في الآية من الإشعار بالحث على تعاهده بالصلاة فيه ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزوره راكبا وماشيا ، ويصلي فيه ركعتين - كما في الصحيح - .

وقد روي عن عويم بن ساعدة الأنصاري أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاهم في مسجد قباء فقال : « إن الله تعالى قد أحسن عليكم الثناء في الطهور في قصة مسجدكم ، فما هذا الطهور الذي تطهرون فيه ؟ » فقالوا ، يا رسول الله ! ما خرج منا رجل ولا امرأة من الغائط إلا غسل فرجه أو مقعدته بالماء ، - رواه الإمام أحمد وأبو داود والطبراني ، واللفظ له - .

وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى فقال : هو مسجده - رواه الإمام أحمد ومسلم ـ .

[ ص: 3266 ] قال ابن كثير : ولا منافاة ، لأنه إذا كان مسجد قباء قد أسس على التقوى من أول يوم ، فمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق الأولى والأحرى . انتهى .

ومرجعه إلى أن هذا الوصف ، وإن كان يصدق عليهما - إلا أن الأحرى به بعد هو المسجد النبوي ، أي : فالحديث ليس في معرض تعيين ما في الآية ، بل في بيان الأحق بهذا الوصف الآن .

وقال السهروردي : كل منهما مراد ، لأن كلا منهما أسس على التقوى من أول يوم تأسيسه .

والسر في إجابته صلى الله عليه وسلم السؤال عن ذلك ، دفع ما توهمه السائل من اختصاص ذلك بمسجد قباء ، والتنويه بمزية هذا عن ذاك .

الرابع : قال السهيلي ـ نور الله مرقده ـ : في الآية ـ يعني قوله تعالى : من أول يوم - من الفقه ، صحة ما اتفق عليه الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين مع عمر رضي الله عنه حين شاورهم في التاريخ ، فاتفق رأيهم على أن يكون من عام الهجرة ، لأنه الوقت الذي عز فيه الإسلام ، والحين الذي أمن فيه النبي صلى الله عليه وسلم ، وبنيت المساجد ، وعبد الله كما يجب ، فوافق رأيهم هذا ظاهر التنزيل ، وفهمنا الآن بفعلهم أن قوله تعالى : من أول يوم أن ذلك اليوم هو أول أيام التاريخ الذي يؤرخ به الآن .

فإن كان الصحابة أخذوه من هذه الآية ، فهو الظن بهم ، لأنهم أعلم الناس بتأويل كتاب الله وأفهمهم بما في القرآن من الإشارات ، وإن كان ذلك على رأي واجتهاد ، فقد علمه الله وأشار إلى صحته قبل أن يفعل ، إذ لا يعقل قول القائل : فعلته أول يوم إلا بالإضافة إلى عام معلوم ، أو شهر معلوم ، أو تاريخ معلوم .

وليس ههنا إضافة في المعنى إلا إلى هذا التاريخ المعلوم ، لعدم القرائن الدالة على غيره من قرينة لفظ أو حال ، فتدبره ، ففيه معتبر لمن ادكر ، وعلم لمن رأى بعين فؤاده واستبصر .

الخامس : ( التأسيس ) وضع الأساس ، وهو أصل البناء ، وأوله ، وبه إحكامه ، ففي [ ص: 3267 ] الآية شبه التقوى والرضوان تشبيها, مكنيا مضمرا في النفس ، بما يعتمد عليه أصل البناء .

و أسس بنيانه تخييل فهو مستعمل في معناه الحقيقي ، أو هو مجاز بناء على جوازه ، فتأسيس البنيان بمعنى إحكام أمور دينه ، أو تمثيل لحال من أخلص لله وعمل الأعمال الصالحة ، بحال من بنى بناء محكما مؤسسا يستوطنه ويتحصن به . أو البنيان استعارة أصلية ، و ( التأسيس ) ترشيح أو تبعية ، و ( الشفا ) : الحرف والشفير .

و ( جرف الوادي ) : جانبه الذي يتحفر أصله بالماء ، وتجرفه السيول ، فيبقى واهيا .

و ( الهار ) : الهائر ، وهو المتصدع الذي أشفى على التهدم والسقوط . قيل : هو مقلوب ، وأصله ( هاور ) ، أو ( هاير ) . وقيل : حذفت عينه اعتباطا ، فوزنه ( فال ) . والإعراب على رائه كباب ، وقيل : لا قلب فيه ولا حذف ، ووزنه في الأصل ( فعل )

بكسر العين ، ككتف ، وهو هور أو هير ، ومعناه ساقط أو مشرف على السقوط . وفاعل ( انهار ) ، إما ضمير البنيان ، وضمير ( به ) للمؤسس ، أي : سقط بنيان الباني بما عليه . أو لـ ( الشفا ) ، وضمير ( به ) للبنيان .

والظاهر في التقابل أن يقال : أم من أسس بنيانه على ضلال وباطل وسخط من الله ، ولذا قال في " الكشاف " : المعنى أفمن أسس بنيان دينه على قاعدة محكمة قوية ، وهي الحق الذي هو تقوى الله ورضوانه ، خير أم من أسسه على قاعدة هي أضعف القواعد وأرخاها ، وأقلها بقاء وهو ( الباطل والنفاق ) ، الذي مثله مثل شفا جرف هار في قلة الثبات والاستمساك .

وضع ( شفا الجرف ) في مقابلة التقوى ، لأنه جعل مجازا عما ينافي ( التقوى ) ، يعني أنه شبه الباطل بشفا جرف هار ، في قلة الثبات ، فاستعير للباطل بقرينة مقابلته للتقوى ، والتقوى حق ، ومنافي الحق هو الباطل .

وقوله فانهار ترشيح ، وباؤه للتعدية ، أو للمصاحبة ، ( فشفا جرف هار ) ، استعارة تصريحية تحقيقية ، والتقابل باعتبار المعنى المجازي المراد منها .

فإن قلت لماذا غاير بينهما حيث أتى بالأول على طريقة الكناية والتخييل ، وبالثاني على طريق الاستعارة والتمثيل ؟

[ ص: 3268 ] قلت : التفنن في الطريق رعاية لحق البلاغة ، وعدولا عن الظاهر ، مبالغة في الطرفين ، إذ جعل أولئك مبنيا على تقوى ورضوان ، هو أعظم من كل ثواب ، وحال هؤلاء على فساد أشرف بهم على أشد نكال وعذاب ، ولو أتى به على مقتضى الظاهر لم يفده ، ما فيه من التهويل .

وقولنا : ( فانهار ترشيح ) ، أوضحه " الكشاف " بقوله : لم جعل الجرف الهائر مجازا بعضها عن الباطل ، قيل : فانهار به في نار جهنم على معنى فطاح به الباطل في نار جهنم ، إلا أنه رشح المجاز فجيء بلفظ الانهيار الذي هو للجرف ، وليصور أن المبطل كأنه أسس بنيانا على شفا جرف من أودية جهنم ، فانهار به ذلك الجرف ، فهوى في قعرها .

السادس : دلت الآية على أن كل مسجد بني على ما بني عليه مسجد الضرار ، أنه لا حكم له ولا حرمة ، ولا يصح الوقف عليه .

وقد حرق الراضي بالله كثيرا من مساجد الباطنية والمشبهة والمجبرة وسبل بعضها . نقله بعض المفسرين .

قال الزمخشري : قيل : كل مسجد بني مباهاة أو رياء وسمعة أو لغرض سوى ابتغاء وجه الله ، أو بمال غير طيب ، فهو لاحق بمسجد الضرار .

وعن شقيق أنه لم يدرك الصلاة في مسجد بني عامر ، فقيل له : مسجد بني فلان لم يصلوا فيه بعد ، فقال : لا أحب أن أصلي فيه ، فإنه بني على ضرار ، كل مسجد بني على ضرار ، أو رياء وسمعة فإن أصله ينتهي إلى المسجد الذي بني ضرارا .

وعن عطاء : لما فتح الله تعالى الأمصار على يد عمر رضي الله عنه ، أمر المسلمين أن يبنوا المساجد ، وألا يتخذوا في مدينة مسجدين ، يضار أحدهما صاحبه . انتهى .

وقال الإمام ابن القيم في ( " زاد المعاد " ) في فوائد غزوة تبوك :

ومنها تحريق أمكنة المعصية التي يعصى الله ورسوله فيها وهدمها ، كما حرق رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجد الضرار وأمر بهدمه ، وهو مسجد يصلى فيه ، ويذكر اسم الله فيه . لما كان بناؤه ضرارا وتفريقا بين المؤمنين ، ومأوى للمنافقين ، وكل مكان هذا شأنه ، فواجب [ ص: 3269 ] على الإمام تعطيله ، إما بهدم أو تحريق ، وإما بتغيير صورته ، وإخراجه عما وضع له .

وإذا كان هذا شأن مسجد الضرار ، فمشاهد الشرك التي تدعو سدنتها إلى اتخاذ من فيها أندادا من دون الله ، أحق بذلك وأوجب ، وكذلك محال المعاصي والفسوق ، كالحانات وبيوت الخمارين ، وأرباب المنكرات .

وقد حرق عمر رضي الله عنه قرية بكاملها يباع فيها الخمر ، وحرق حانوت رويشد الثقفي وسماه ( فويسقا ) ، وأحرق قصر سعد عليه لما احتجب عن الرعية .

وهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحريق بيوت تاركي حضور الجماعة والجمعة ، وإنما منعه من فيها من النساء والذرية الذين لا تجب عليهم ، كما أخبر هو عن ذلك . انتهى .

ثم قال ابن القيم : ومنها أن الوقف لا يصح على غير بر ولا قربة ، كما لم يصح وقف هذا المسجد .

وعلى هذا فيهدم المسجد إذا بني على قبر ، كما ينبش الميت إذا دفن في المسجد ـ نص على ذلك الإمام أحمد وغيره - فلا يجتمع في دين الإسلام مسجد وقبر ، بل أيهما طرأ على الآخر منع منه ، وكان الحكم للسابق ، فلو وضعا معا لم يجز .

ولا يصح هذا الوقف ، ولا يجوز ، ولا تصح الصلاة في هذا المسجد ، لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، ولعنه من اتخذ القبر مسجدا ، أو أوقد عليه سراجا .

قال ابن القيم : فهذا دين الإسلام الذي بعث به رسوله ونبيه ، وغربته بين الناس كما ترى . انتهى .

السابع : قال بعض المفسرين اليمانيين : في الآية دلالة على فضل المسجد الموصوف بهذه الصفة ، يعني التأسيس على التقوى ، وفيها أن نية القربة في عمارة المسجد شرط ، لأن [ ص: 3270 ] النية هي التي تميز الأفعال .

وفيها : أنه لا يجوز تكثير سواد الكفار - ذكر ذلك الحاكم ـ لأنه قال تعالى :

لا تقم فيه أبدا وأراد بـ ( القيام ) الصلاة .

الثامن : قال ابن كثير : في الآية دليل على استحباب الصلاة في المساجد القديمة المؤسسة من أول بنائه على عبادة الله وحده ، لا شريك له ، وعلى استحباب الصلاة مع الجماعة الصالحين ، والعباد العاملين المحافظين على إسباغ الوضوء ، والتنزه عن ملابسة القاذورات .

وقد روى الإمام أحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم الصبح ، فقرأ الروم فأوهم ، فلما انصرف قال : « إنه يلبس علينا القرآن ، إن أقواما منكم يصلون معنا لا يحسنون الوضوء ، فمن شهد الصلاة معنا فليحسن الوضوء » . فدل هذا على أن إكمال الطهارة يسهل القيام في العبادة ، ويعين على إتمامها وإكمالها ، والقيام بمشروعاتها .

التاسع : ذهب أبو العالية والأعمش إلى أن المراد من الطهارة في الآية ، الطهارة من الذنوب ، والتوبة منها ، والتطهر من الشرك .

قال الرازي : وهذا القول متعين ، لأن التطهر من الذنوب والمعاصي هو المؤثر في القرب من الله تعالى ، واستحقاق ثوابه ومدحه ، ولأنه تعالى وصف أصحاب مسجد الضرار بمضارة المسلمين ، والكفر بالله ، والتفريق بين المسلمين ، فوجب كون هؤلاء بالضد من صفاتهم ، وما ذلك إلا كونهم مبرئين عن الكفر والمعاصي . انتهى .

أقوال : لا تسلم دعوى التعين ، فإن اللفظ يتناول الطهارتين الباطنة والظاهرة . بل الثانية ما رواه أصحاب السنن والإمام أحمد وابن خزيمة في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأهل قباء : « قد أثنى الله عليكم في الطهور ، فماذا تصنعون » ؟ فقالوا : نستنجي بالماء .

[ ص: 3271 ] وروى البزار عن ابن عباس قال : هذه الآية في أهل قباء ، سألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : إنا نتبع الحجارة بالماء .

فإن صح ذلك كان المراد من الآية ، وتكون حثا على الطهارة المذكورة ، ومدحا لها . وكون ذويها على الضد من صفات أولئك ، يستفاد من عموم هذا ، ومن قوله تعالى : لمسجد أسس على التقوى الآية .

العاشر : قال القاشاني : لما كان عالم الملك تحت قهر عالم الملكوت ، وتسخيره ، لزم أن يكون لنيات النفوس وهيئاتها تأثير فيما يباشرها من الأعمال ، فكل ما فعل بنية صادقة لله تعالى عن هيئة نورانية ، صحبته بركة ويمن وجمعية وصفاء ، وكل ما فعل بنية فاسدة شيطانية عن هيئة مظلمة ، صحبته تفرقة وكدورة ومحق وشؤم .

ألا ترى الكعبة كيف شرفت وعظمت وجعلت متبركة لكونها مبنية على يدي نبي من أنبياء الله ، بنية صادقة ، ونفس شريفة صافية ، عن كمال إخلاص لله تعالى ؟ ونحن نشاهد أثر ذلك في أعمال الناس ، ونجد أثر الصفاء والجمعية في بعض المواضع والبقاع ، والكدورة والتفرقة في بعضها .

وما هو إلا لذلك ، فلهذا قال : لمسجد أسس على التقوى الآية ، لأن الهيئات الجسمانية مؤثرة في النفوس ، كما أن الهيئات النفسانية مؤثرة في الأجسام ، فإذا كان موضع القيام مبنيا على التقوى وصفاء النفس ، تأثرت النفس باجتماع الهمة ، وصفاء الوقت ، وطيب الحال ، وذوق الوجدان ، وإذا كان مبنيا على الرياء والضرار ، تأثرت بالكدورة والتفرقة والقبض .

وفيه إشعار بأن زكاء نفس الباني ، وصدق نيته ، مؤثر في البناء ، وأن تبرك المكان ، وكونه مبنيا على الخير ، يقتضي أن يكون فيه أهل الخير والصلاح ، ممن يناسب حاله حال بانيه ، وأن محبة الله واجبة لأهل الطهارة لقوله : والله يحب المطهرين

التالي السابق


الخدمات العلمية