صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى :

[4] وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم .

وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم أي : ليفقهوا عنه ما يدعوهم إليه ، فلا يكون لهم حجة على الله ولا يقولوا : لم نفهم ما خوطبنا به كما قال : ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته

* فإن قلت * : لم يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العرب وحدهم ، وإنما بعث إلى الناس جميعا : قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا بل إلى الثقلين وهم على ألسنة مختلفة . فإن لم تكن للعرب حجة ، فلغيرهم الحجة . [ ص: 3707 ] وإن لم تكن لغيرهم حجة، فلو نزل بالعجمية لم تكن للعرب حجة أيضا ؟ ( قلت) : لا يخلو إما أن ينزل بجميع الألسنة أو بواحد منها ، فلا حاجة إلى نزوله بجميع الألسنة ; لأن الترجمة تنوب عن ذلك وتكفي التطويل; فبقي أن ينزل بلسان واحد فكان أولى الألسنة لسان قوم الرسول ; لأنهم أقرب إليه . فإذا فهموا عنه وتبينوه وتنوقل عنهم وانتشر ; قامت التراجم ببيانه وتفهيمه ، كما ترى الحال وتشاهدها من نيابة التراجم في كل أمة من أمم العجم ، مع ما في ذلك من اتفاق أهل البلاد المتباعدة والأقطار المتنازحة والأمم المختلفة والأجيال المتفاوتة على كتاب واحد ، واجتهادهم في تعلم لفظه وتعلم معانيه ، وما يتشعب من ذلك من جلائل الفوائد ، وما يتكاثر في إتعاب النفوس وكد القرائح فيه ، من القرب والطاعات المفضية إلى جزيل الثواب ، ولأنه أبعد من التحريف والتبديل وأسلم من التنازع والاختلاف ، ولأنه لو نزل بألسنة الثقلين كلها مع اختلافها وكثرتها ، وكان مستقلا بصفة الإعجاز في كل واحد منها ، وكلم الرسول العربي كل أمة بلسانها ، كما كلم أمته التي هو منها يتلوه عليهم معجزا ; لكان ذلك أمرا قريبا من الإلجاء . ومعنى : بلسان قومه بلغة قومه - كذا في (" الكشاف ") - .

وقال بعض المحققين : يقول قائل : ألا تدل هذه الآية على أن بعثة النبي صلى الله عليه وسلم كانت للعرب خاصة ؟ نقول : لا ; لأنه جرت سنة الله أن يختار أمة واحدة ويعدها لتهذيب الأمم الأخرى ، كما يعد فردا واحدا منها لتهذيب سائر أفرادها . ولما كانت الأمة العربية هي المختارة لتهذيب الأمم وتعديل عوجها وإقامة منار العدل في ذلك العالم المظلم ; فقد وجب أن التهذيب الإلهي ينزل بلغتها خاصة حتى تستعد وتتهيأ لأداء وظيفتها . وقد أتم الله نعمته عليها ، فقامت بما عهد إليها بما أدهش العالم أجمع ، ولله في خلقه شؤون .

تنبيه :

استدل بالآية من ذهب إلى أن اللغات اصطلاحية . قال : لأنها لو كانت توقيفية لم تعلم إلا بعد مجيء الرسول ، والآية صريحة في علمها قبله .

[ ص: 3708 ] وقوله تعالى : فيضل الله من يشاء أي : لمباشرته أسبابه المؤدية إليه ، أو يخذله ولا يلطف به لعلمه أنه لا ينجع فيه الإلطاف : ويهدي من يشاء لما فيه من الإنابة والإقبال إلى الحق . (والفاء) فصيحة ، كأنه قيل : فبينوه ، فأضل الله من شاء إضلاله وهدى من شاء . والحذف للإيذان بأن مسارعة كل رسول إلى ما أمر به ، وجريان كل من أهل الخذلان والهداية على سنته ، أمر محقق غني عن الذكر والبيان : وهو العزيز الحكيم أي : فلا يغالب ، ولا يقضي إلا بما فيه الحكمة .

ثم أشير إلى تفصيل ما أجمل في قوله تعالى : وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه بقوله سبحانه :

التالي السابق


الخدمات العلمية