صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى :

[43-44] سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا .

سبحانه فإنه صريح في أن المراد بيان أنه يلزم مما يقولونه محذور عظيم ، من حيث لا يحتسبون . وأما ابتغاء السبيل إليه تعالى بالتقرب ، فليس مما يختص بهذا التقرير ، ولا هو مما يلزمهم من حيث لا يشعرون . بل هو أمر يعتقدونه رأسا . انتهى . ومعنى : سبحانه أي : تنزه عن الولد والشريك تنزها حقيقا به : وتعالى عما يقولون علوا كبيرا أي : تعاظم عن ذلك تعاظما كبيرا . فإن مثل هذه الفرية والبهتان ، مما يتنزه عنه مقامه الأسمى .

قال الشهاب : وذكر العلو ، بعد عنوانه بـ ( ذي العرش ) . في أعلى مراتب البلاغة . وقوله تعالى :

تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا أي : تنزه الله ، وتقدسه وتجله السماوات والأرض ومن فيهن من المخلوقات عما يصفه به المشركون . وتشهد جميعها له بالوحدانية في إلهيته وربوبيته ، كما قال : تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا وقوله تعالى : وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم أي : لأنها بخلاف لغاتكم .

قال ابن كثير : وهذا عام في الحيوانات والجمادات والنباتات ، على أشهر القولين . ثم استدل بما صح من تسبيح الطعام ، والحصا ، مما خرج في الصحيحين والمسانيد ، مما هو مشهور . [ ص: 3933 ] واختاره الراغب في (" مفرداته ") وقال : إنه تسبيح على الحقيقة بدلالة قوله : ولكن لا تفقهون تسبيحهم ودلالة قوله : ومن فيهن بعد ذكر السماوات والأرض لا يصح أن يكون تقديره ( يسبح له من في السماوات ويسجد له من في الأرض ) لأن هذا من نفقهه ، ولأنه محال أن يكون ذلك تقديره . ثم يعطف عليه بقوله : ومن فيهن والأشياء كلها تسبح له وتسجد بعضها بالتسخير وبعضها بالاختيار . والآية تدل على أن المذكورات تسبح باختيار ، لما ذكر من الدلالة . انتهى .

وذهب كثيرون إلى أن التسبيح المذكور مجازي ، على طريقة الاستعارة التمثيلية أو التبعية ، كـ : ( نطقت الحال ) فإنه استعير فيه للتسبيح للدلالة على وجود فاعل قادر حكيم واجب الوجود ، منزه عن الولد والشريك ، كما يدل الأثر على مؤثره . فجعلت تلك الدلالة الحالية كأنه تنزيه له عما يخالفه .


وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد



قالوا : والخطاب في قوله تعالى : ولكن لا تفقهون تسبيحهم للمشركين . أي : لإخلالكم بالنظر الصحيح الذي به يفهم تسبيحهم . وقد بالغ في رد القول الأول واختيار الثاني ، الإمام ابن حزم في كتابه " الملل والنحل " ولا بأس بإيراده ، لما فيه من الغرائب .

قال رحمه الله في الرد على من قال : ( إن في البهائم رسلا ) : إنما يخاطب الله تعالى بالحجة من يعقلها . قال الله تعالى : { يا أولي الألباب } ، وقد علمنا بضرورة الحسن ؛ أن الله تعالى إنما خص بالنطق - الذي هو التصرف في العلوم ومعرفة الأشياء على ما هي عليه ، والتصرف في الصناعات على اختلافها - الإنسان خاصة . وأضفنا إليهم ، بالخبر الصادق ، الجن والملائكة . ثم قال رحمه الله : وقد قاد السخف بعضهم إلى أن جعل للجمادات تمييزا لمثل قوله تعالى : وإن من شيء إلا يسبح بحمده ونحوه من الآيات . ولا حجة لهم فيه ؛ [ ص: 3934 ] لأن القرآن واجب أن يحمل على ظاهره ، كذلك كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم . ومن خالف ذلك كان عاصيا لله عز وجل ، مبدلا لكلماته ، ما لم يأت نص في أحدهما ، أو إجماع متيقن ، أو ضرورة حس على خلاف ظاهره ، فيوقف عند ذلك . ويكون من حمله على ظاهره حينئذ ناسبا الكذب إلى الله عز وجل ، أو كاذبا عليه وعلى نبيه عليه السلام ، نعوذ بالله من كلا الوجهين .

وإذ قد بينا قبل بالبراهين الضرورية ؛ أن الحيوان ( غير الإنسان والجن والملائكة ) لا نطق له . نعني أنه لا تصرف له في العلوم والصناعات . وكان هذا القول مشاهدا بالحس معلوما بالضرورة ، لا ينكره إلا وقح مكابر لحسه ، وبينا أن كل ما كان بخلاف التمييز المعهود عندنا ، فإنه ليس تمييزا . وكان هذا أيضا يعلم بالضرورة والعيان والمشاهدة ؛ فوجب أنه بخلاف ما يسمى في الشريعة واللغة نطقا وقولا وتسبيحا وسجودا . فقد وجب أنها أسماء مشتركة اتفقت ألفاظها . وأما معانيها فمختلفة ، لا يحل لأحد أن يحملها على غير هذا ؛ لأنه إن فعل كان مخبرا أن الله تعالى قال ما يبطله العيان والعقل الذي به عرفنا الله تعالى ، ولولاه ما عرفناه .

فاللفظ مشترك والمعنى هو ما قام الدليل عليه ، بيان ذلك : أن التسبيح عندنا إنما هو قول ( سبحان الله وبحمده ) وبالضرورة نعلم أن الحجارة والخشب والهوام والحشرات والألوان لا تقول ) سبحان الله ، بالسين والباء والحاء والألف والنون واللام والهاء ) هذا ما لا يشك فيه من له مسكة عقل . فإذ لا شك في هذا ، فباليقين علمنا أن التسبيح الذي ذكره الله تعالى هو حق وهو معنى غير تسبيحنا نحن بلا شك . فإذ لا شك في هذا فإن التسبيح في أصل اللغة هو تنزيه الله تعالى عن السوء . فإذا قد صح هذا ؛ فإن كل شيء في العالم بلا شك منزه لله تعالى عن السوء الذي هو صفة الحدوث . وليس في العالم شيء إلا وهو دال ( بما فيه من دلائل الصنعة واقتضائه صانعا لا يشبهه ) على أن الله تعالى منزه عن كل [ ص: 3935 ] سوء ونقص ، وهذا هو الذي لا يفهمه ولا يفقهه كثير من الناس ، كما قال تعالى : ولكن لا تفقهون تسبيحهم فهذا هو تسبيح كل شيء بحمد الله تعالى بلا شك . وهذا المعنى حق لا ينكره موحد . فإن كان قولنا هذا متفقا على صحته ، وكانت الضرورة توجب أنه ليس هو التسبيح المعهود عندنا ، فقد ثبت قولنا وانتفى قول من خالفنا بظنه .

وأيضا فإن الله تعالى يقول : وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم والكافر الدهري شيء لا يشك في أنه شيء ، وهو لا يسبح بحمد الله تعالى البتة ، فصح ضرورة أن الكافر يسبح ؛ إذ هو من جملة الأشياء التي تسبح بحمد الله تعالى . وإن تسبيحه ليس هو قوله ( سبحان الله وبحمده ) بلا شك . ولكن تنزيه الله تعالى بدلائل خلقه وتركيبه عن أن يكون الخالق مشبها لشيء مما خلق . وهذا يقيني لا شك فيه .

فصح بما ذكرنا أن لفظة ( التسبيح ) هي من الأسماء المشتركة ، وهي التي تقع على نوعين فصاعدا . انتهى كلامه .

ومحصله : نفي أن يكون للجمادات تسبيح وتمييز بالمعنى الموجود في الإنسان . وهو حق لا شبهة فيه ولا يسوغ لأحد إنكاره . إلا أنه لا ينفي أن يكون له تسبيح وفيه تمييز يناسبه ، فيرجع الخلاف لفظيا . وقد وافق العلم الحديث الآن - كما قاله بعض الفضلاء - على أن في الجماد أثرا من الحياة . وأن فيه جميع الصفات الجوهرية التي تميز الأحياء . وأن ما فيه في الجواهر الفردة ودقائق المادة ليست ميتة ، بل هي عناصر حية متحركة لها صورة من صور الحياة الدنيا المشاهدة في جميع أنواع المادة مثل الجذب ، والدفع ، والتأثر بالمؤثرات الخارجية ، وتغير قوة التوازن ، وتجمع الدقائق على أشكال منتظمة ، طبقا لتراكيب محدودة ، وإفراز مركبات كيماوية مختلفة . وبالجملة ؛ فما يقوله العلم الجديد عن مشابهة الأجسام غير الحية للأجسام الحية يطابق تصورات الأقدمين والشعراء في ذلك . انتهى .

وقوله تعالى : إنه كان حليما غفورا أي : حيث لم يعاجلهم بالعقوبة ، مع كفرهم وقصورهم في النظر . ولو تابوا لغفر لهم ما كان منهم .

[ ص: 3936 ] ثم مثل تعالى حالة المشركين مع التنزيل الكريم ، حينما يقرؤه عليهم الرسول ، صلوات الله عليه ، يدعوهم إلى العمل بما فيه من التوحيد ، ورفض الشرك وغير ذلك من ضلالهم ، بمن طمس على بصيرته وبصره وسمعه ، بقوله تعالى :

التالي السابق


الخدمات العلمية