صفحة جزء
[ ص: 4103 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[96] آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله نارا قال آتوني أفرغ عليه قطرا [97] فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا [98] قال هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقا .

آتوني زبر الحديد أي: ناولوني قطعه: حتى إذا ساوى بين الصدفين أي: بين جانبي الجبلين: قال انفخوا أي: في الأكوار والحديد: حتى إذا جعله أي: المنفوخ فيه: نارا أي: كالنار بالإحماء: قال آتوني أفرغ عليه قطرا أي: نحاسا مذابا ليلصق بالحديد، ويتدعم البناء به ويشتد.

فما اسطاعوا أن يظهروه أي: يعلوه بالصعود لارتفاعه وملاسته: وما استطاعوا له نقبا لثخنه وصلابته.

قال هذا أي: السد: رحمة من ربي على القاطنين عنده. لأمنهم من شر من سد عليهم به، ورحمة على غيرهم، لسد الطريق عليهم: فإذا جاء وعد ربي بدحره وخرابه: جعله دكاء بالمد أي: أرضا مستوية، وقرئ ((دكا)) أي: مدكوكا مسوا بالأرض وكان وعد ربي حقا أي: كائنا لا محالة. وهذا آخر حكاية قول ذي القرنين .

تنبيهات:

الأول: قدمنا أنه ليس في القرآن شيء من التاريخ من حيث هو قصص وأخبار . وإنما هي الآيات والعبر والأحكام والآداب تجلت في سياق الوقائع. ولذا يجب صرف العناية إلى وجوه تلك الفوائد والثمرات، وما يستنبط من تلك الآيات. وقد أشار نبأ ذي القرنين الإسكندر إلى فوائد شتى. نذكر ما فتح علينا منها، ونكل ما لم نحط به علما إلى العليم الخبير.

[ ص: 4104 ] فمن فوائدها: الاعتبار برفع الله بعض الناس درجات على بعض . ورزقه من يشاء بغير حساب ملكا ومالا. لما له من خفي الحكم وباهر القدرة. فلا إله سواه.

ومنها: الإشارة إلى القيام بالأسباب، والجري وراء سنة الله في الكون من الجد والعمل. وأن على قدر بذل الجهد يكون الفوز والظفر، فإن ما قص عن الإسكندر من ضربه في الأرض إلى مغرب الشمس، ومطلعها وشمالها وعدم فتوره ووجدانه اللذة في مواصلة الأسفار وتجشم الأخطار، وركوب الأوعار والبحار، ثم إحرازه ذلك الفخار، الذي لا يشق له غبار، أكبر عبرة لأولي الأبصار.

ومنها: تنشيط الهمم لرفع العوائق . وأنه ما تيسرت الأسباب، فلا ينبغي أن يعد ركوب البحر ولا اجتياز القفر، عذرا في الخمول والرضاء بالدون. بل ينبغي أن ينشط ويمثل في مرارته، حلاوة عقباه من الراحة والهناء. كما قضى الإسكندر عمره ولم يذق إلا حلاوة الظفر ولذة الانتصار: إذ لم يكن من الذين تقعدهم المصاعب عن نيل ما يبتغون.

ومنها: وجوب المبادرة لمعالي الأمور من الحداثة. إذ من الخطأ التسويف فيه إلى الاكتهال. فإن الإسكندر لما تبوأ ملك أبيه كان في حدود العشرين من عمره.

وأتى ما أتى وهو في ريعان الشباب وقوة الفناء. فهاجم أعظم ملوك عصره وأكبر جيوشهم. كأنه القضاء المبرم. ولم يقف في وجهه عدد ولا عدد. وخاض غمرات الردى غير هياب ولا وجل. وأضاف كل العالم الشرقي إلى المملكة اليونانية وهو شاب. وقضى وهو في الثالثة والثلاثين من عمره، كما دونه محققو المؤرخين.

ومنها: أن من قدر على أعدائه وتمكن منهم، فلا ينبغي له أن تسكره لذة السلطة بسوقهم بعصا الإذلال ، وتجريعهم غصص الاستعباد والنكال. بل يعامل المحسن بإحسانه والمسيء بقدر إساءته. فإن ما حكي عن الإسكندر من قوله: قال أما من ظلم إلى آخره، نهاية في العدل وغاية الإنصاف.

[ ص: 4105 ] ومنها: أن على الملك، إذا اشتكي إليه جور مجاورين، أن يبذل وسعه في الراحة والأمن، دفاعا عن الوطن العزيز، وصيانة للحرية والتمدن، من مخالب التوحش والخراب، قياما بفريضة دفع المعتدين وإمضاء العدل بين العالمين. كما لبى الإسكندر دعوة الشاكين في بناء السد. وقد أطبق المؤرخون على أنه بنى عدة حصون وأسوار، لرد غارات البرابرة، وصد هجماتهم.

ومنها: أن على الملك التعفف عن أموال رعيته ، والزهد في أخذ أجرة، في مقابلة عمل يأتيه، ما أغناه الله عنه، ففي ذلك حفظ كرامته وزيادة الشغف بمحبته. كما تأبى الإسكندر تفضلا وتكرما.

ومنها: التحدث بنعمة الله تعالى إذا اقتضاه المقام . كقول الإسكندر في مقام تعففه عن أموالهم، والشفقة عليهم: ما مكني فيه ربي خير كقول سليمان : فما آتاني الله خير مما آتاكم وقد قيل: إن دخل الإسكندر من البلاد التي فتحها كان نحو ستين مليون ليرة إنكليزية.

ومنها: تدعيم الأسوار والحصون في الثغور، وتقويتها بذوب الرصاص وبوضع صفائح النحاس، خلال الصخور الصم، صدقا في العمل ونصحا فيه. لينتفع به على تطاول الأجيال. فإن البناء غير الرصين لا ثمرة فيه.

ومنها: مشاطرة الملك العمال في الأعمال ومشارفتهم بنفسه إذا اقتضى الحال، تنشيطا لمهمتهم وتجرئة لهم وترويحا لقلوبهم. وقد كان الإسكندر يقاسم العمال الأتعاب. ويدير العمل بنفسه، كما بينه الذكر الحكيم في قوله: آتوني أفرغ عليه قطرا

ومنها: تعريف الغير ثمرة العمل المهم، ليعرفوا قدره فيظهروا شكره. ولذا قال: هذا رحمة من ربي

[ ص: 4106 ] ومنها الإعلام بالدور الأخروي، وانقضاء هذا الدور الأولي، لتبقى النفوس طامحة إلى ذلك العالم الباقي والنعيم السرمدي. ولذا قال: فإذا جاء وعد ربي

ومنها: الاعتبار بتخليد جميل الثناء، وجليل الآثار . فإن من أنعم النظر فيما قص عنه في هذه الآيات الكريمة، يتضح له جليا حسن سجاياه وسمو مزاياه. من الشجاعة وعلو الهمة والعفة والعدل. ودأبه على توطيد الأمن وإثابته المحسنين وتأديبه للظالمين. والإحسان إلى النوع البشري، ولا سيما في زمان كان فيه أكثر عوائد وأخلاق الأمم المتمدنة وغير المتمدنة، وحشية فاسدة.

ومنها: الاهتمام بتوحيد الكلمة لمن يملك أمما متباينة. كما كان يرمي إليه سعي الإسكندر. فإنه دأب على توحيد الكلمة بين الشعوب ومزج تلك الأمم المختلفة ليربطها بصلات الحب والعوائد. وقد حكي أنه كان يجيش من كل أمة استولى عليها، جيشا عرمرما، يضيفه إلى جيشه المكدوني اليوناني. ويأمر رجاله أن يتزوجوا من بناتهم، لتوثيق عرى المحبة والارتباط، وإزالة البغض والشحناء.

ومنها: الاعتبار بما يبلغه الإنسان، وما فيه من بليغ الاستعداد. يقضي على المرء أن يعيش أولا طفلا مرضعا. لا يعلم ما حوله ولا يطلب غير ما تحتاج إليه طبيعته الضعيفة، قياما بما تقتضيه أسباب الحياة، وهو ملقى إذ ذاك لا إرادة له. وعرضة لأسقام تذيقه الآلام، وقد تجرعه كأس الحمام قبل أن يرى ويدرك شيئا من هذا النظام. فإذا استظهرت فيه عوامل الحياة على دواعي الممات، وسرت بجسمه قوى الشبيبة، وصرف ما أنعم الله عليه، إلى ما خلق لأجله، ترعرع إنسانا عظيما ظافرا بمنتهى أمله.

التنبيه الثاني: في ذي القرنين . اتفق المحققون على أن اسمه الإسكندر بن فيلبس، وقال ابن القيم في (إغاثة اللهفان) في الكلام على الفلاسفة: ومن ملوكهم الإسكندر المقدوني وهو ابن فيلبس وليس بالإسكندر ذي القرنين الذي قص الله تعالى نبأه في القرآن بل بينهما [ ص: 4107 ] قرون كثيرة وبينهما في الدين أعظم تباين.

فذو القرنين كان رجلا صالحا موحدا لله تعالى يؤمن بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. وكان يغزو عباد الأصنام وبلغ مشارق الأرض ومغاربها. وبنى السد بين الناس وبين يأجوج ومأجوج. وأما هذا المقدوني، فكان مشركا يعبد الأصنام هو وأهل مملكته. وكان بينه وبين المسيح نحو ألف وستمائة سنة. والنصارى تؤرخ له.

وكان أرسطاطاليس وزيره. وكان مشركا يعبد الأصنام. انتهى. كلامه.

وفيه نظر. فإن المرجع في ذلك هم أئمة التاريخ وقد أطبقوا على أنه الإسكندر الأكبر ابن فيلبس باني الإسكندرية بتسعمائة وأربع وخمسين سنة قبل الهجرة، وثلاثمائة واثنين وثلاثين سنة قبل ميلاد عيسى عليه السلام. وقد أصبح ذلك من الأوليات عند علماء الجغرافيا. وأما دعوى أنه كان مشركا يعبد الأصنام، فغير مسلم، وإن كان قومه وثنيين، لأنه كان تلميذا لأرسطاطاليس. وقد جاء في ترجمته -كما في طبقات الأطباء وغيرها- أنه كان لا يعظم الأصنام التي كانت تعبد في ذلك الوقت وأنه بسبب ذلك نسب إلى الكفر وأريد السعاية به إلى الملك. فلما أحس بذلك شخص عن أثينا. لأنه كره أن يبتلى أهلها بمثل ما ابتلوا به سقراطيس معلم أفلاطون. فإنه كان من عبادهم ومتألهيهم. وجاهرهم بمخالفتهم في عبادة الأصنام. وقابل رؤساءهم بالأدلة والحجج على بطلان عبادتها. فثوروا عليه العامة واضطروا الملك إلى قتله. فأودعه السجن ليكفهم عنه. ثم لم يرض المشركون إلا بقتله. فسقاه السم خوفا من شرهم، بعد مناظرات طويلة جرت له معهم. كما في (طبقات الأطباء وتراجم الفلاسفة) فالوثنية، وإن كانت دين اليونانيين واعتقاد شعبهم، إلا أنه لا ينافي أن يكون الملك وخاصته على اعتقاد آخر يجاهرون به أو يكتمونه. كالنجاشي ملك الحبشة. فإنه جاهر بالإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم. وشعبه وأهل مملكته كلهم نصارى. وهكذا كان الإسكندر وأستاذه والحكماء قبله. فإن الممعن في تراجمهم يرى أنهم على توحيد وإيمان بالمعاد. قال القاضي صاعد: كان فيثاغورس -أستاذ [ ص: 4108 ] سقراط - يقول ببقاء النفس وكونها، فيما بعد، في ثواب أو عقاب. على رأي الحكماء الإلهيين. فتأمل قوله (على رأي الحكماء الإلهيين) يتحقق ما ذكرناه.

وأما قول الفخر الرازي : إن في كون الإسكندر ذا القرنين إشكالا قويا. وهو أنه كان تلميذ أرسطاطاليس الحكيم وكان على مذهبه، فتعظيم الله إياه يوجب الحكم بأن مذهب أرسطاطاليس حق وصدق. وذلك مما لا سبيل إليه فلا يخفى دفع هذا اللزوم. فإن من كان تابعا لمذهب فمدح لأمر ما يوجب مدحه لأجله، فلا يلزم أن يكون المدح لأجل مذهبه ومتبوعه. إذ قد يقوم فيه من الخلال والمزايا ما لا يوجد في متبوعه. وقد يبدو له من الأنظار الصحيحة ما لا يكون في مذهبه الذي نشأ عليه مقلدا. أفلا يمكن أن يكون حرا في فكره ينبذ التقليد الأعمى ويعتنق الحق. ومن آتاه الله من الملك ما آتاه، أفيمتنع أن يؤتيه من تنور الفكر وحرية الضمير ونفوذ البصيرة ما يخالف به متبوعه. هذا على فرض أن متبوعه مذموم. وقد عرفت أن متبوعه أعني: أرسطاطاليس ، كان موحدا. وهو معروف في التاريخ لا سترة فيه. على أنه لو استلزمت الآية مدح مذهب أستاذه لكان ذلك في الأصول التي هي المقصودة بالذات، وكفى بهما كمالا. وللرازي فرض يغتنم بها التنويه بالحكماء والتعريف لمذهبهم، وهذه منها. وإن صبغها -سامحه الله- في هذا الأسلوب. عرف ذلك من عرف.

التنبيه الثالث: اختلف في سبب تلقيبه بذي القرنين . فقيل لأنه طاف قرني الدنيا. يعني جانبيها شرقها وغربها. أو لأنه كان له قرنان أي: ضفيرتان. أو لأنه ملك الروم وفارس.

قال الزمخشري : ويجوز أن يلقب بذلك لشجاعته، كما يسمى الشجاع كبشا لأنه ينطح أقرانه.

أقول: هذا اللقب من الكناية عن كل ذي قوة وبأس وسلطان. لأن ذا القرون من المواشي أقواها وأشدها. والكناية بالقرن عن القوة والسلطان معروفة عند اليهود، [ ص: 4109 ] الذين هم السائلون. وقد وقع في توراتهم في نبوة دانيال عليه السلام قوله عن الملك: (فإذا أنا بكبش واقف عند النهر. وله قرنان)، ثم قوله: (وبينما كنت متأملا إذا بتيس معز قد أقبل من المغرب على وجه الأرض كلها. وللتيس قرن عجيب المنظر بين عينيه)، قالوا: القرن هنا رمز إلى القوة والسلطان. والتيس رمز إلى مملكة اليونان. وقرنه رمز إلى أول ملك على هذه المملكة وهو الإسكندر الكبير . وما أشار إليه من سرعة مسير هذا التيس إيماء إلى كثرة ما دهم البلاد من الغارات المتواصلة. قوله: (خرج من المغرب) إشارة إلى خروجه من مكدونية التي هي إلى غرب فارس، وذلك حين تقدم على جيوش داريوس وكسره. وتعقبه إلى داخل مملكته. والقصد أن هذا اللقب (ذو القرنين) شهير وليس من أوضاع العرب خاصة. كما زعمه بعضهم. بل هو معروف عند العبرانيين أيضا. وقد يظهر أنه من رموزهم الخاصة التي سرت إلى العرب. وأقرتهم عليها.

التنبيه الرابع: قال الرازي : اختلفوا في ذي القرنين. هل كان من الأنبياء أم لا ؟ منهم من قال: إنه كان نبيا. واحتجوا عليه بوجوه:

الأول: قوله: إنا مكنا له في الأرض والأولى حمله على التمكين في الدين. والتمكين الكامل في الدين هو النبوة.

الثاني: قوله: وآتيناه من كل شيء سببا ومن جملة الأشياء النبوة.

فمقتضى العموم في قوله: وآتيناه من كل شيء سببا هو أنه تعالى آتاه من النبوة سببا.

الثالث: قوله تعالى: قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا والذي يتكلم الله معه لابد أن يكون نبيا.

ومنهم من قال إنه عبد صالح وما كان نبيا. انتهى.

ثم قال الرازي بعد: يدل قوله تعالى: قلنا يا ذا القرنين على أنه تعالى تكلم معه [ ص: 4110 ] من غير واسطة. وذلك يدل على أنه كان نبيا. وحمل هذا اللفظ على أن المراد أنه خاطبه على ألسنة بعض الأنبياء- فهو عدول عن الظاهر. انتهى.

ولا يخفى ضعف الاستدلال بهذه الأدلة على نبوته. لأن مقام إثباتها يحتاج إلى تنصيص وتخصيص. وأما تعمق الجري وراء العمومات، لاستفادة مثل ذلك، فغير مقنع.

وأما قوله تعالى: قلنا يا ذا القرنين فقدمنا أنه كناية عن تمكينه تعالى له منهم. لا أنه قول مشافهة. وإلا لو كان ذلك لكان مخيرا منه تعالى وملقنا ما يفعل بهم. فأنى يسوغ له نقضه باجتهاد آخر. ولا يقال إن الأصل في الإطلاق الحقيقة. لأنا نقول به، ما لم يمنع منه مانع، من نحو ما ذكرناه. وللتنزيل الكريم أسلوب خاص، عرفه من أنعم النظر في بديع بيانه. نعم. لو كان مراد القائل بنبوته أنه من الملهمين ذهابا في النبوة إلى المعنى الأعم من الإيحاء بشرع، ومن الإلهام، لكان قريبا. فتكون نبوته من القسم الثاني وهو الإلهام. ويطلق الصوفية على مثله الوارد. وجاء في الحديث تسمية صاحبه محدثا. وإطلاق النبوة عليه، وإن كان محظورا في الإسلام، إلا أنه كان معروفا قبله في العباد الأخيار.

التنبيه الخامس: حكي في قوله تعالى: ويسألونك عن ذي القرنين قولان في أن السائلين هم اليهود أو غيرهم. ورجح الأول من وجهتين:

أولهما: أن للإسكندر عند اليهود شأنا وقدرا. وذلك لما حكي أنه لما فتح غزة ودنا من بيت المقدس ، خرج إليه رئيس أحبارها وقدم إليه الطاعة. فدخلها إسكندر وسمع نبوة التوراة فسر وأحسن إلى اليهود. وتعقب بعض المؤرخين هذه الرواية بأنها غير مأثورة في كتب اليونان، ولم يروها أحد من مؤرخيهم.

[ ص: 4111 ] ثانيهما: أن عنوان ( ذو القرنين ) من رموز الإسرائيليين كما قدمناه عنهم.

التنبيه السادس: قالوا المراد بـ (العين الحمئة) البحر المحيط. وتسميته عينا لكونه بالنسبة لعظم قدرته تعالى، كقطرة. وإن عظم عندنا. قالوا: رأى الشمس في منظره تغرب في البحر. وهذا شأن كل من انتهى إلى ساحله، يراها كأنها تغرب فيه. وهي لا تفارق فلكها.

وللإمام ابن حزم عليه الرحمة رأي آخر في الآية. ذكره في كتاب (الملل) في بحث كروية الأرض قال: ذو القرنين هو كان في العين الحمئة الحامية كما تقول: (رأيتك في البحر)، تريد أنك إذا رأيته كنت أنت في البحر. وبرهان هذا أن مغرب الشمس لا يجهل مقدار عظيم مساحته إلا جاهل. ومقدار ما بين أول مغربها الشتوي إذا كانت من آخر رأس الجدي إلى آخر مغربها الصيفي إذا كانت من رأس السرطان- مرئي مشاهد. ومقداره ثمان وأربعون درجة من الفلك. وهو يوازي من الأرض كلها بالبرهان الهندسي أقل من مقدار السدس. يكون من الأميال نحو ثلاثة آلاف ميل ونيف. وهذه المساحة لا يقع عليها في اللغة اسم (عين) البتة. لا سيما أن تكون (عينا حمئة) حامية. وباللغة العربية خوطبنا. فلما تيقنا أنها (عين) بإخبار الله عز وجل، الصادق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، علمنا يقينا أن ذا القرنين انتهى به السير في الجهة التي مشى فيها من المغارب إلى العين المذكورة. وانقطع له إمكان المشي بعدها لاعتراض البحار له هنالك. وقد علمنا بالضرورة أن ذا القرنين وغيره من الناس، ليس يشغل من الأرض إلا مساحة جسمه فقط. قائما، أو قاعدا أو مضطجعا. ومن هذه صفته، فلا يجوز أن يحيط بصره من الأرض، بمقدار مكان المغارب كلها، لو كان مغيبها في عين من الأرض. كما يظن أهل الجهل. ولا بد من أن يلقى خط بصره من حدبة الأرض، ومن نشر من أنشازها، ما يمنع الخط من التمادي، إلا أن يقول قائل: إن تلك العين هي البحر فلا يجوز أن يسمى البحر في اللغة (عينا حمئة) ولا حامية. وقد أخبر [ ص: 4112 ] الله عز وجل أن الشمس تسبح في الفلك. وأنها إنما هي من الفلك سراج. وقول الله تعالى هو الصدق الذي لا يتناقض فلو غابت في عين من الأرض، كما يظن أهل الجهل، أو في البحر، لكانت الشمس قد زالت عن السماء وخرجت عن الفلك، وهذا هو الباطل. فصح يقينا، بلا شك، أن ذا القرنين كان هو في العين الحمئة والحامية، حين انتهى إلى آخر البر في المغارب. لا سيما مع ما قام البرهان عليه، من أن جرم الشمس أكبر من جرم الأرض . وبرهان آخر قاطع وهو قوله تعالى: وجدها تغرب في عين حمئة ووجد عندها قوما فصح ضرورة أنه وجد القوم عند العين لا عند الشمس. انتهى كلام ابن حزم .

التنبيه السابع: قال الرازي : الأظهر أن موضع السدين في ناحية الشمال. وقيل: جبلان بين أرمينية وأذربيجان . وقيل: هذا المكان في منقطع أرض الترك.

وحكى محمد بن جرير الطبري في (تاريخه) أن صاحب أذربيجان ، أيام فتحها، وجه إنسانا إليه من ناحية الخزر. فشاهده ووصف أنه بنيان رفيع وراء خندق عميق وثيق منيع.

وذكر ابن خرداد في كتاب (المسالك والممالك) أن الواثق بالله رأى في المنام كأنه فتح هذا الردم، فبعث بعض الخدم إليه ليعاينوه. فخرجوا من باب الأبواب حتى وصلوا إليه وشاهدوه. فوصفوا أنه بناء من لبن من حديد، مشدود بالنحاس المذاب، وعليه باب مقفل. ثم إن ذلك الإنسان، لما حاول الرجوع، أخرجهم الدليل على البقاع المحاذية لسمرقند.

قال أبو الريحان : مقتضى هذا أن موضعه في الربع الشمالي الغربي من المعمورة. والله أعلم بحقيقة الحال. انتهى كلام الرازي.

وقال الإمام ابن حزم في (الملل والنحل) جزء أول صحيفة (120) في تفنيد دعوى اليهود أن الجنة التي أهبط منها آدم في الأرض ، ما مثاله. فإن قيل: ذكر في القرآن سد يأجوج ومأجوج . ولا يدرى مكانه ولا مكانهم. قلنا: مكانه معروف في أقصى الشمال [ ص: 4113 ] في آخر المعمورة منه. وقد ذكر أمر يأجوج ومأجوج في كتب اليهود التي يؤمنون بها ويؤمن بها النصارى. وقد ذكر يأجوج ومأجوج والسد أرسطاطاليس في كتابه في (الحيوان) عند كلامه على الغرانيق. وقد ذكر سد يأجوج ومأجوج بطليموس في كتابه المسمى (جغرافيا) وذكر طول بلادهم وعرضها. وقد بعث إليه الواثق أمير المؤمنين سلام الترجمان في جماعة معه حتى وقفوا عليه. ذكر ذلك أحمد بن الطيب السرخسي وغيره. وقد ذكره قدامة بن جعفر والناس. فهيهات خبر من خبر. وحتى لو خفي مكان يأجوج ومأجوج والسد. فلم يعرف في شيء من المعمور مكانه، لما ضر ذلك خبرنا شيئا. لأنه كان يكون مكانه حينئذ خلف خط الاستواء حيث يكون ميل الشمس ورجوعها، وبعدها كما هو في الجهة الشمالية. بحيث تكون الآفاق كبعض آفاقنا المسكونة، والهواء كهواء بعض البلاد التي يوجد فيها النبات والتناسل. واعلموا أن كل ما كان في عنصر الإمكان، فأدخله مدخل في عنصر الامتناع بلا برهان فهو كاذب مبطل جاهل، أو مجاهل. لا سيما إذا أخبر به من قد قام البرهان على صدق خبره. وإنما الشأن في المحال الممتنع الذي تكذبه الحواس والعيان أو بديهة العقل. فمن جاء بهذا فإنما جاء ببرهان قاطع على أنه كذاب مفتر. ونعوذ بالله من البلاء. انتهى كلام ابن حزم .

قال بعض المحققين: اعلم أنه كثيرا ما يحدث في الثورات البركانية أن تنخسف بعض البلاد أو ترتفع بعض الأراضي حتى تصير كالجبال. وهذا أمر مشاهد حتى في زمننا هذا. فإذا سلم أن سد ذي القرنين المذكور في هذه الآية غير موجود الآن، فربما كان ذلك ناشئا من ثورة بركانية خسفت به وأزالت آثاره. ولا يوجد في القرآن ما يدل على بقائه إلى يوم القيامة. أما قوله تعالى: قال هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء فمعناه أن هذا السد رحمة من الله بالأمم القريبة منه. لمنع غارات يأجوج ومأجوج عنهم، ولكن يجب عليهم أن يفهموا أن مع متانته وصلابته لا يمكن أن يقاوم مشيئة الله القوي القدير، فإن بقاءه إنما هو بفضل الله. ولكن إذا قامت القيامة وأراد الله فناء هذا العالم، فلا هذا [ ص: 4114 ] السد ولا غيره من الجبال الراسيات يمكنها أن تقف عثرة، لحظة واحدة أمام قدرة الله. بل يدكها جمعاء دكا في لمح البصر. فمراد ذي القرنين بهذا القول تنبيه تلك الأمم على عدم الاغترار بمناعة هذا السد، أو الإعجاب والغرور بقوتهم. فإنها لا شيء يذكر بجانب قوة الله. فلا يصح أن يستنتج من ذلك أن هذا السد يبقى إلى يوم القيامة، بل صريحه أنه إذا قامت القيامة في أي وقت كان، وكان هذا السد موجودا، دكه الله دكا، وأما إذا تأخرت فيجوز أن يدك قبلها بأسباب أخرى. كالزلازل إذا قدم عهده. وكالثورات البركانية كما قلنا. وليس في الآية ما ينافي ذلك. وأما قوله تعالى: حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج فالمراد منه خروجهم بكثرة وانتشارهم في الأرض، كما يخرج الشيء المحبوس أو المضغوط إذا انفجر. واستعمال لفظ (الفتح) مجازا شائع في اللغة. ومنه قولك (فتحوا البلاد) وقوله تعالى: فتحنا عليهم أبواب كل شيء فليس للأشياء أبواب. وكذلك يأجوج ومأجوج لا باب لهم. بل هم من كل حدب ينسلون، والغالب أن المراد بخروجهم هذا، خروج المغول التتار، وهم من نسل يأجوج ومأجوج وهو الغزو الذي حصل منهم للأمم في القرن السابع الهجري. وناهيك بما فعلوه إذ ذاك في الأرض، بعد أن انتشروا فيها، من الإفساد والنهب والقتل والسبي. والراجح أن السد كان موجودا بإقليم داغستان التابع الآن لروسيا ، بين مدينتي دربند وخوزار . فإنه يوجد بينهما مضيق شهير منذ القدم، يسمى عند كثير من الأمم القديمة والحديثة بــ(السد) وبه موضع يسمى (باب الحديد) وهو أثر سد حديدي قديم بين جبلين من جبال القوقاز الشهيرة عند العرب (بجبل قاف) وقد كانوا يقولون إن فيه السد كغيرهم من الأمم. ويظنون أنه في نهاية الأرض. وذلك بحسب ما عرفوه منها. ومن ورائه قبيلتا يأجوج ومأجوج. انتهى.

وجاء في (صفوة الاعتبار) أن السور الذي وصلوا إليه أيام الواثق من بني العباس ، هو [ ص: 4115 ] سور الصين الذي هو إحدى عجائب مملكة الصين . فإن طوله نحو ألف ومائتين وخمسين ميلا، وسمكه من الأسفل نحو خمسة وعشرين قدما، ومن أعلاه نحو خمسة عشر قدما. وارتفاعه ما بين خمسة عشر إلى عشرين قدما. وفي أماكن منه حصون يبلغ ارتفاع بعضها إليه أربعين قدما. بني لرد الهجمات على المملكة الصينية الأصلية، من المغول والقبائل الشمالية. والسور الآن خراب في جهات كثيرة. فإن كان هو المراد بالسد في الآية. لزم حمل الصفات المذكورة فيه، من كونه من زبر الحديد، ومفرغا عليه النحاس، على بقاع من ذلك السور. والصدفان حينئذ طرفان من ذلك السور. كما تؤول صفات يأجوج ومأجوج، إلى ما يصح إطلاقها به على التتر والمنشورية. ويكون وعد الله الذي يدك فيه السد هو قرب الساعة. ولا شك أنها قربت بإعلام الشارع. وحينئذ يكون الفساد الموعود به في النصوص من أولئك القوم، هو ما وقع من التتر من الفساد في الممالك. كما في عهد جنكزخان ، وما عثاه هو وأصحابه في الدنيا، والله أعلم. انتهى.

وجاء في الجغرافية العمومية، في المقالة السابعة والأربعين في تخطيط آسيا ، بلاد القوقاسيين أي: أهالي كوه قاف، أي: جبل قاف: إن في تلك الأقطار يمتد هذا الجبل كالسور العظيم، وفيه مجازان يسميان عند القدماء الأبواب القوقازية والأبواب الألبانية. فالمجاز الأول وهو الأبواب القوقازية هو الذي كان يخشى منه هجوم المتبربرين على كل من دولة الرومانيين والعجم. ثم إن الحصن الذي كان يسد هذا المجاز يسمى بأسماء مختلفة عند القدماء. وأما الأبواب الألبانية فأشهر الآراء فيها أنهم مجاز دربند . على امتداد بحر الخزر .

ثم قال: وهناك حكاية مشهورة بين أهالي (كوه قاف) تقتضي أن هذا الجبل كان مسدودا بسد عظيم يمنع غارة المتبربرين وهذا السد العظيم تارة يعزى لإسكندر ، وتارة لأنو شروان ويستدلون على ذلك بآثار موجودة إلى الآن، ترى لمن يروم ذلك.

التنبيه الثامن: قال أبو البقاء : يأجوج ومأجوج اسمان أعجميان، لم ينصرفا للعجمة [ ص: 4116 ] والتعريف. ويجوز همزهما وترك همزهما. وقيل: هما عربيان فـ(يأجوج ) يفعول مثل يربوع. و(مأجوج ) مفعول مثل معقول. وكلاهما من (أج الظليم) إذا أسرع. أو من (أجت النار) إذا التهبت. ولم ينصرفا للتعريف والتأنيث أي: للقبيلة كمجوس. فالكلمتان من أصل واحد في الاشتقاق. وعلى العجمة، لا يتأتى تصريفه. ولا يعتبر وزنه إلا بتقدير كونه عربيا، كما في (تذكرة أبي علي).

قال الرازي: واختلفوا في أنهما من أي: الأقوام؟ فقيل: إنهما من الترك. وقيل يأجوج من الترك ومأجوج من الجيل والديلم. ثم من الناس من وصفهم بقصر القامة وصغر الجثة، انتهى.

وقال بعض المحققين: كان يوجد من وراء جبل من جبال القوقاز ، المعروف عند العرب بجبل قاف، في إقليم داغستان، قبيلتان. تسمى إحداهما (آقوق)، والثانية (ماقوق) فعربهما العرب بـ(يأجوج ومأجوج ) وهما معروفان عند كثير من الأمم وورد ذكرهما في كتب أهل الكتاب. ومنهما تناسل كثير من أمم الشمال والشرق في روسيا وآسيا.

التنبيه التاسع: توسع من لم يشترط الصحة ولا الحسن في مصنفاته من الرواة، في تخريج ما روي عن يأجوج ومأجوج . وكله إما من الإسرائيليات أو المنكرات أو الموضوعات. ومن ذلك حديث « إن يأجوج أمة ومأجوج أمة. كل أمة أربعمائة ألف أمة. لا يموت الرجل منهم حتى ينظر إلى ألف ذكر بين يديه من صلبه. كل قد حمل السلاح إلخ » رواه ابن عدي في (الضعفاء) عن حذيفة مرفوعا. وقال: موضوع منكر، ومحمد بن إسحاق العكاشي كذاب يضع، وقد أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه.

وقال الحافظ ابن جرير ههنا، عن وهب بن منبه، أثرا طويلا عجيبا، في سير ذي القرنين وبنائه السد وكيفية ما جرى له. وفيه طول وغرابة ونكارة في أشكالهم. وصفاتهم وطولهم وقصر بعضهم وآذانهم.

[ ص: 4117 ] وروى ابن أبي حاتم عن أبيه في ذلك، أحاديث غريبة لا تصح أسانيدها. انتهى.

فجزى الله البخاري أحسن الجزاء، على نبذه تلك الروايات، واشتراطه الصحة في المرويات، فقد جنت الآثار المنكرة على الأمة أنكر الآثار. ومن طالع مقدمة صحيح مسلم صدق قوله: (أن راوي الضعاف غاش آثم مضل ) وبالله المستعان.

التالي السابق


الخدمات العلمية