صفحة جزء
فصل

وقال الفخر الرازي في (" تفسيره " ) : هذه الرواية باطلة موضوعة ، عند أهل التحقيق . واحتجوا عليه بالقرآن والسنة والمعقول . أما القرآن فوجوه :

أحدها : قوله تعالى : ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين

وثانيها : قوله : قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي

وثالثها : قوله : وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى

ورابعها : قوله تعالى : وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا وكلمة كاد عند بعضهم معناها أنه لم يحصل .

وخامسها : قوله : ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا وكلمة لولا تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره . فدل على أن ذلك الركون القليل لم يحصل .

وسادسها : إلى قوله : كذلك لنثبت به فؤادك

وسابعها : قوله : سنقرئك فلا تنسى

وأما السنة فهي ما روي عن محمد بن إسحاق بن خزيمة ، أنه سئل عن هذه القصة فقال : هذا وضع من الزنادقة . وصنف فيه كتابا .

[ ص: 4361 ] وقال الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي: هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل . ثم أخذ يتكلم في أن رواة هذه القصة مطعون فيهم . وأيضا فقد روى البخاري في صحيحه أن النبي عليه السلام قرأ سورة (والنجم ) وسجد فيها المسلمون والمشركون والإنس والجن . وليس فيه حديث الغرانيق . وروي هذا الحديث من طرق كثيرة وليس فيها البتة حديث الغرانيق .

وأما المعقول فمن وجوه :

أحدها : أن من جوز على الرسول صلى الله عليه وسلم تعظيم الأوثان ، فقد كفر لأن من المعلوم بالضرورة أن أعظم سعيه كان في نفي الأوثان .

وثانيها : أنه عليه السلام ما كان يمكنه في أول الأمر أن يصلي ويقرأ القرآن عند الكعبة آمنا أذى المشركين له طول دعوته . حتى كانوا ربما مدوا أيديهم إليه . وإنما كان يصلي ، إذا لم يحضروها ، ليلا ، أو في أوقات خلوة . وذلك يبطل قولهم .

وثالثها : أن معاداتهم للرسول كانت أعظم من أن يقروا بهذا القدر من القراءة ، دون أن يقفوا على حقيقة الأمر . فكيف أجمعوا على أنه عظم آلهتهم حتى خروا سجدا ؟ مع أنه لم يظهر عندهم موافقته لهم .

ورابعها : قوله : فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته وذلك لأن إحكام الآيات بإزالة ما يلقيه الشيطان عن الرسول ، أقوى من نسخه بهذه الآيات التي تبقى الشبهة معها . فإذا أراد الله إحكام الآيات ، لئلا يلتبس ما ليس بقرآن قرآنا ، فبأن يمنع الشيطان من ذلك أصلا ، أولى .

وخامسها : وهو أقوى الوجوه ، أنا لو جوزنا ذلك ارتفع الأمان عن شرعه . وجوزنا [ ص: 4362 ] في كل واحد من الأحكام والشرائع أن يكون كذلك ، ويبطل قوله تعالى : يا أيها الرسول بلغ ما أنـزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس فإنه لا فرق في العقل بين النقصان عن الوحي ، وبين الزيادة فيه . فبهذه الوجوه عرفنا على سبيل الإجمال ، أن هذه القصة موضوعة .

أكثر ما في الباب أن جمعا من المفسرين ذكرها . لكنهم ما بلغوا حد التواتر . وخبر الواحد لا يعارض الدلائل النقلية والعقلية المتواترة .

ثم أطال الرازي في تفصيل المباحث . ونقل عن أبي مسلم الأصفهاني ما توسع به البحث فانظره إن شئت .

فصل

وكتب الأستاذ الإمام مفتي مصر ، الشيخ محمد عبده رحمه الله في هذه الآية مقالة بديعية ، نقتبس منها شذرات .

قال : يعلم كل ناظر في كتابنا الإلهي (" القرآن " ) ما رفع الإسلام من شأن الأنبياء والمرسلين ، والمنزلة التي أحلهم من حيث هم حملة الوحي وقدوة البشر ، في الفضائل وصالح الأعمال . وتنزيهه إياهم عما رماهم به أعداؤهم وما نسبه إليهم المعتقدون بأديانهم . ولا يخفى على أحد من أهل النظر ، في هذا الدين القويم ، أنه قد قرر عصمة الرسل كافة من الزلل في التبليغ ، والزيغ عن الوجهة التي وجه الله وجوههم نحوها من قول أو عمل . وخص خاتمهم محمدا صلى الله عليه وسلم فوق ذلك بمزايا فصلت في ثنايا الكتاب العزيز . وعصمة الرسل في التبليغ عن الله ، أصل من أصول الإسلام . شهد به الكتاب وأيدته السنة ، وأجمعت عليه الأمة . وما خالف فيه بعض الفرق ، فإنما هو في غير الإخبار عن الله وإبلاغ وحيه إلى خلقه . ذلك الأصل الذي اعتمدت عليه الأديان ، حق لا يرتاب فيه ملي يفهم ما معنى الدين . ومع ذلك لم يعدم الباطل فيه أعوانا يعملون على هدمه وتوهين ركنه . أولئك عشاق الرواة [ ص: 4363 ] وعبدة النقل . نظروا نظرة في قوله تعالى : وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي وفيما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما من أن تمنى بمعنى قرأ والأمنية القراءة ) فعمي عليهم وجه التأويل ، على فرض صحة الرواية عن ابن عباس ، فذهبوا يطلبون ما به يصح التأويل في زعمهم . فقيض لهم من يروي في ذلك أحاديث تختلف طرقها وتتباين ألفاظها وتتفق في أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما بلغ منه أذى المشركين ما بلغ ، وأعرضوا عنه ، وجفاه قومه وعشيرته ، لعيبه أصنامهم وزرايته على آلهتهم ، أخذه الضجر من إعراضهم . ولحرصه على إسلامهم تمنى ألا ينزل عليه ما ينفرهم ، لعله يتخذ ذلك طريقا إلى استمالتهم . فاستمر به ما تمناه حتى نزلت عليه سورة (والنجم ) إلى آخر ما رواه ابن جرير أولا . وقد شايعه عليه كثير من المفسرين ، وفي طباع الناس إلف الغريب ، والتهافت على العجيب . فولعوا بهذه التفاسير ، ونسوا ما رآه جمهور المحققين في تأويلها . وذهب إليه الأئمة في بيانها .

جاء في صحيح البخاري : وقال ابن عباس في : إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه فيبطل الله ما يلقي الشيطان ويحكم الله آياته . ويقال : (أمنيته قراءته ) : إلا أماني يقرؤون ولا يكتبون . انتهى .

فتراه حكى تفسير الأمنية بالقراءة بلفظ (يقال ) بعدما فسرها بالحديث رواية عن ابن عباس . وهذا يدل على المغايرة بين التفسيرين . فما يدعيه الشراح أن الحديث في رأي ابن عباس بمعنى التلاوة يخالف ظاهر العبارة . ثم حكاية تفسير الأمنية بمعنى القراءة بلفظ (يقال ) يفيد أنه غير معتبر عنده . وسيأتي أن المراد بالحديث حديث النفس .

وقال صاحب الإبريز : إن تفسير (تمنى ) بمعنى : (قرأ ) ، و(الأمنية ) بمعنى : (القراءة ) مروي عن ابن عباس في نسخة علي بن أبي طلحة عن ابن عباس . ورواها علي بن صالح كاتب الليث عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس . وقد علم ما للناس [ ص: 4364 ] في ابن أبي صالح كاتب الليث ، وأن المحققين على تضعيفه . انتهى .

وهذا ما في الرواية عن ابن عباس وهي أصل هذه الفتنة وقد رأيت أن المحققين يضعفون راويها . وأما قصة الغرانيق ، فمع ما فيها من الاختلاف ، فقد طعن فيها غير واحد من الأئمة ، حتى قال ابن إسحاق : إنها من وضع الزنادقة . كما تقدم عن الرازي ، ونحوه عن القاضي عياض رحمه الله ، من وهنها وسقوطها من عدة أوجه .

وأما ما ذكره ابن حجر من أن القصة رويت مرسلة من طرق على شرط الصحيح ، وأنه يحتج بها من يرى الاحتجاج بالمرسل ، فقد ذهب عليه كما قال في الإبريز ; أن العصمة من العقائد التي يطلب فيها اليقين . فالحديث الذي يريد خرمها ونقضها ، لا يقبل على أي وجه جاء . وقد عد الأصوليون الخبر الذي يكون على تلك الصفة ، من الأخبار التي يجب القطع بكذبها . هذا لو فرض اتصال الحديث ، فما ظنك بالمراسيل ؟ وإنما الخلاف في الاحتجاج بالمرسل وعدم الاحتجاج به ، فيما هو من قبيل الأعمال وفروع الأحكام ، لا في أصول العقائد ومعاقد الإيمان بالمرسل وما جاءوا به . فهي هفوة من ابن حجر يغفرها الله له .

هذا ما قاله الأئمة ، جزاهم الله خيرا ، في بيان فساد هذه القصة ، وأنها لا أصل لها . ولا عبرة برأي من خالفهم . فلا يعتد بذكرها في بعض كتب التفسير ، وإن بلغ أربابها من الشهرة ما بلغوا . وشهرة المبطل في بطله ، لا تنفخ القوة في قوله . ولا تحمل على الأخذ برأيه .

ثم قال الأستاذ رحمه الله : والآن أرجع إلى تفسير الآيات على الوجه الذي تحتملها ألفاظها وتدل عليه عباراتها . والله أعلم :

لا يخفى على كل من يفهم اللغة العربية ، وقرأ شيئا من القرآن ، أن قوله تعالى : وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي الآيات ، يحكي قدرا قدر للمرسلين كافة ، لا يعدونه ولا يقفون دونه . ويصف شنشنة عرفت فيهم ، وفي أممهم . فلو صح ما قال أولئك المفسرون لكان المعنى : أن جميع الأنبياء والمرسلين قد سلط الشيطان عليهم فخلط في الوحي المنزل [ ص: 4365 ] إليهم . ولكنه بعد هذا الخلط ينسخ الله كلام الشيطان ويحكم الله آياته إلخ ، وهذا من أقبح ما يتصور متصور في اختصاص الله تعالى لأنبيائه ، واختيارهم من خاصة أوليائه ! فلندع هذا الهذيان ، ولنعد إلى ما نحن بصدده .

التالي السابق


الخدمات العلمية