صفحة جزء
ومن الفحشاء والمنكر استماع العبد مزامير الشيطان . والمغني هو مؤذنه الذي يدعو إلى طاعته فإن الغناء رقية الزنى . وكذلك من اتباع خطوات الشيطان ، القول على الله بلا علم . كحال أهل [ ص: 4490 ] البدع والفجور وكثير ممن يستحل مؤاخاة النساء والمرد وإحضارهم في سماع الغناء ودعوى محبة صورهم لله وغير ذلك ، مما فتن به كثير من الناس فصاروا ضالين مضلين . ثم إنه سبحانه نهى المظلوم بالقذف ، أن يمنع ما ينبغي فعله من الإحسان إلى القرابة والمساكين وأهل التوبة . وأمره بالعفو . فإنه كما يحب أن يغفر له فليغفر ، ولا ريب أن صلة الأرحام واجبة ، وإيتاء المساكين واجب ، ومعونة المهاجرين واجبة ، فلا يجوز ترك ما يجب من الإحسان إلى للإنسان بمجرد ظلمه : كما لا يمنع ميراثه وحقه من الصدقات والفيء ، بمجرد ذنب من الذنوب وقد يمنع من ذلك لبعض الذنوب .

وفي الآية دليل على وجوب الصلة والنفقة وغيرها لذوي الأرحام الذين لا يرثون بفرض ولا تعصيب .

فإنه قد ثبت في الصحيح عن عائشة في قصة الإفك ، أن أبا بكر الصديق حلف ألا ينفق على مسطح بن أثاثة ، وكان أحد الخائضين في الإفك في شأن عائشة . وكانت أم مسطح بنت خالة أبي بكر . وقد جعله الله من ذوي القربى الذين نهى عن ترك إيتائهم . والنهي يقتضي التحريم . فإذا لم يجز الحلف على ترك الفعل ، كان الفعل واجبا ، لأن الحلف على ترك الجائز جائز . انتهى كلام ابن تيمية رحمه الله تعالى .

الرابع : قال الزمخشري : لو فليت القرآن كله وفتشت عما أعد به العصاة ، لم تر الله تعالى قد غلظ في شيء تغليظه في إفك عائشة ، رضوان الله عليها ، ولا أنزل من الآيات القوارع المشحونة بالوعيد الشديد والعتاب البليغ والزجر العنيف واستعظام ما ركب من ذلك واستفظاع ما أقدم عليه - ما أنزل فيه ، على طرق مختلفة وأساليب مفتنة . كل واحد منها [ ص: 4491 ] كان في بابه ولم ينزل إلا هذه الثلاث يعني قوله تعالى : إن الذين يرمون إلى قوله تعالى : هو الحق المبين لكفى بها . حيث جعل القذفة ملعونين في الدارين جميعا . وتوعدهم بالعذاب العظيم في الآخرة . وبأن ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم تشهد عليهم بما أفكوا وبهتوا . وأنه يوفيهم جزاءهم الحق الواجب الذي هم أهله ، حتى يعلموا عند ذلك ، أن الله هو الحق المبين . فأوجز في ذلك وأشبع وفصل وأجمل وأكد وكرر ، بما لم يقع في وعيد المشركين ، عبدة الأوثان ، إلا ما هو دونه في الفظاعة . وما ذلك إلا لأمر . وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان بالبصرة يوم عرفة . وكان يسأل عن تفسير القرآن . حتى سأل عن هذه الآيات فقال : من أذنب ذنبا ثم تاب قبلت توبته ، إلا من خاض في أمر عائشة ، وهذه منه مبالغة وتعظيم لأمر الإفك . ولقد برأ الله تعالى أربعة بأربعة : برأ يوسف بلسان الشاهد : وشهد شاهد من أهلها وبرأ موسى من قول اليهود فيه ، بالحجر الذي ذهب بثوبه . وبرأ مريم بإنطاق ولدها حين نادى في حجرها : إني عبد الله وبرأ عائشة بهذه الآيات العظام في كتابه المعجز المتلو على وجه الدهر ، مثل هذه التبرئة بهذه المبالغات . فانظر كم بينها وبين تبرئة أولئك ؟ وما ذاك إلا لإظهار علو منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والتنبيه على إنافة محل سيد ولد آدم وخيرة الأولين والآخرين وحجة الله على العالمين .

ومن أراد أن يتحقق عظمة شأنه صلى الله عليه وسلم وتقدم قدمه وإحرازه لقصب السبق دون كل سابق فليتلق ذلك من آيات الإفك . وليتأمل كيف غضب الله له في حرمته ، وكيف بالغ في نفي التهمة عن حجابه .

[ ص: 4492 ] (فإن قلت ) : إن كانت عائشة هي المرادة ، فكيف قيل : المحصنات ؟ (قلت ) : فيه وجهان :

أحدهما : أن يراد بالمحصنات أزواج الرسول صلى الله عليه وسلم وأن يخصصن بأن من قذفهن ، فهذا الوعيد لاحق به . وإذا أردن عائشة كبراهن منزلة وقربة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كانت المرادة أولا .

والثاني : أنها أم المؤمنين ، فجمعت . إرادة لها ولبناتها من نساء الأمة الموصوفات بالإحصان والغفلة والإيمان انتهى .

قال الناصر : والأظهر أن المراد عموم المحصنات والمقصود بذكرهن على العموم ، وعيد من وقع في عائشة ، على أبلغ الوجوه ، لأنه إذا كان هذا وعيد قاذف آحاد المؤمنات ، فما الظن بوعيد من قذف سيدتهن وزوج سيد البشر صلى الله عليه وسلم ؟ على أن تعميم الوعيد أبلغ وأفظع من تخصيصه . هذا ومعنى قول زليخا : ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم فعممت أرادت يوسف ، تهويلا عليه وإرجافا . والمعصوم من عصمه الله تعالى . انتهى .

الخامس : قال الإمام ابن تيمية في (" منهاج السنة " ) ذهب كثير من أهل السنة إلى أن عائشة رضي الله عنها أفضل نسائه عليه الصلاة والسلام واحتجوا بما في الصحيحين عن أبي موسى وعن أنس رضي الله عنهما ، أن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام » . والثريد هو أفضل الأطعمة ، لأنه خبز ولحم . كما قال الشاعر :


إذا ما الخبز تأدمه بلحم فذاك أمانة الله الثريد



وذلك أن البر أفضل الأقوات . واللحم أفضل الإدام ، كما في الحديث الذي رواه [ ص: 4493 ] ابن قتيبة وغيره . عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « سيد إدام أهل الدنيا والآخرة اللحم » فإذا كان اللحم سيد الإدام ، والبر سيد الأقوات ، ومجموعهما الثريد ، كان الثريد أفضل الطعام .

وقد صح من غير وجه عن الصادق المصدوق أنه قال : « فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على الطعام » وفي الصحيح عن عمرو بن العاص قال : قلت : يا رسول الله ! أي النساء أحب إليك ؟ قال : « عائشة » قلت : ومن الرجال ؟ قال : « أبوها » قلت : ثم من ؟ قال : « عمر ، وسمى رجالا » . وهؤلاء يقولون : قوله صلى الله عليه وسلم لخديجة : « ما أبدلني الله خيرا منها » : إن صح معناه ما أبدلني خيرا لي منها : فإن خديجة نفعته في أول الإسلام نفعا لم يقم غيرها فيه مقامها . فكانت خيرا له من هذا الوجه لكونها نفعته وقت الحاجة ، وعائشة صحبته في آخر النبوة وكمال الدين . فحصل لها من العلم والإيمان ما لم يحصل لمن لم يدرك إلا أول النبوة . فكانت أفضل لهذه الزيادة فإن الأمة انتفعت بها أكثر مما انتفعت بغيرها ، وبلغت من العلم والسن ما لم يبلغه غيرها فخديجة كان خيرها مقصورا على نفس النبي صلى الله عليه وسلم لم تبلغ عنه شيئا ، ولم تنتفع بها الأمة كما انتفعوا بعائشة ، ولأن الدين لم يكن قد كمل حتى تعلمه ، ويحصل لها من كمالاته ما حصل لمن علم وآمن به بعد كماله ، ومعلوم أن من اجتمع همه على شيء واحد ، كان أبلغ فيه ممن تفرق همه في أعمال متنوعة . فخديجة رضي الله تعالى عنها خير له من هذا الوجه . لكن أنواع البر لم تحصر في ذلك . ألا ترى أن من كان من الصحابة أعظم إيمانا ، وأكثر جهادا بنفسه وماله . كحمزة وعلي وسعد بن معاذ وأسيد بن حضير وغيرهم ، هم أفضل من كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم وينفعه في نفسه أكثر منهم . كأبي رافع وأنس بن مالك وغيرهما . وفي الجملة ، الكلام في تفضيل عائشة وخديجة ليس هذا موضع استقصائه . لكن المقصود هنا أن أهل السنة مجمعون على تعظيم عائشة ومحبتها ، وإن نساءه صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين [ ص: 4494 ] اللواتي مات عنهن ، كانت عائشة أحبهن إليه وأعظمهن حرمة عند المسلمين . وقد ثبت في الصحيح أن الناس كانوا يتحرون بهداياهم يوم عائشة ، لما يعلمون من محبته إياها . حتى أن نساءه غرن من ذلك . وأرسلن إليه فاطمة رضي الله عنها تقول له : نساؤك يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة : فقال لفاطمة : « أي : بنية أما تحبين ما أحب » ؟ قالت : بلى . قال : « فأحبي هذه » ، الحديث في الصحيحين وفي الصحيحين أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « يا عائشة ! هذا جبريل يقرأ عليك السلام » قالت : وعليه السلام ورحمة الله . ترى ما لا نرى . ووهبت سودة بنت زمعة يومها لعائشة رضي الله عنهما ، بإذنه صلى الله عليه وسلم . وكان في مرضه الذي مات فيه يقول : « أين أنا اليوم » ؟ استبطاء ليوم عائشة . ثم استأذن نساءه أن يمرض في بيت عائشة رضي الله عنها ، فمرض [ ص: 4495 ] فيه . وفي بيتها توفي بين سحرها ونحرها وفي حجرها . وكانت رضي الله عنها مباركة على أمته . حتى قال أسيد بن حضير ، لما أنزل الله آية التيمم بسببها : ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر . ما نزل بك أمر قط تكرهينه إلا جعل الله فيه للمسلمين بركة . وقد كانت نزلت آية براءتها قبل ذلك ، لما رماها أهل الإفك . فبرأها الله من فوق سبع سماوات ، وجعلها من الصينات . وبالله التوفيق . انتهى .

التالي السابق


الخدمات العلمية