صفحة جزء
وأغرب الإمام ابن حزم ، فذهب إلى أن أفضل الناس بعد الأنبياء ، نساؤه صلى الله عليه وسلم . معلوم أن عائشة فضلاهن ، وقد أسهب في ذلك في كتابه (" الملل " ) فارجع إليه .

السادس : قال القاشاني رحمه الله تعالى : إنما عظم تعالى أمر الإفك وغلظ في الوعيد عليه ، بما لم يغلظ في غيره من المعاصي ، وبالغ في العقاب عليه بما لم يبالغ به في باب الزنى وقتل النفس المحرمة ، لأن عظم الرذيلة وكبر المعصية ، إنما يكون على حسب القوة التي هي مصدرها . وتتفاوت حال الرذائل في حجب صاحبها عن الحضرة الإلهية والأنوار القدسية ، وتوريطه في المهالك الهيولانية ، والمهاوي الظلمانية ، على حسب تفاوت مبادئها ، فكلما كانت القوة التي هي مصدرها ومبدؤها أشرف . كانت الرذيلة الصادرة منها أردأ . وبالعكس لأن الرذيلة ما قابل الفضيلة . فلما كانت الفضيلة أشرف ، كان ما يقابلها من الرذيلة أخس ، والإفك رذيلة القوة الغضبية . [ ص: 4496 ] فبحسب شرف الأولى على الباقيتين ، تزداد رداءة رذيلتها .

وذلك أن الإنسان إنما يكون بالأولى إنسانا ، وترقيه إلى العالم العلوي ، وتوجهه إلى الجانب الإلهي وتحصيله للمعارف والكمالات ، واكتسابه للخيرات والسعادات - إنما يكون بها . فإذا فسدت بغلبة الشيطنة عليها ، واحتجبت عن النور باستيلاء الظلمة ، حصلت الشقاوة العظمى ، وحقت العقوبة بالنار . وهو الرين والحجاب الكلي .

ألا ترى أن الشيطنة المغوية للآدمي أبعد عن الحضرة الآلهية ، من السبعية والبهيمية ؟ وأبعد بما لا يقدر قدره ، فالإنسان برسوخ رذيلته النطفية يصير شيطانا ، وبرسوخ الرذيلتين الأخريين ، يصير حيوانا كالبهيمة أو السبع ، وكل حيوان أرجى صلاحا ، وأقرب فلاحا من الشيطان . ولهذا قال تعالى : هل أنبئكم على من تنـزل الشياطين تنـزل على كل أفاك أثيم ونهى ها هنا عن اتباع خطوات الشيطان . فإن ارتكاب مثل هذه الفواحش لا يكون إلا بمتابعته ومطاوعته ، وصاحبه يكون من جنوده وأتباعه ، فيكون أخس منه وأذل ، محروما من فضل الله الذي هو نور هدايته ، محجوبا من رحمته التي هي إفاضة كمال وسعادة ، ملعونا في الدنيا والآخرة ، ممقوتا من الله والملائكة . تشهد عليه جوارحه بتبدل صورها وتشوه منظرها . خبيث الذات والنفس . متورطا في الرجس . فإن مثل هذه الخبائث لا تصدر إلا من الخبيثين . كما قال تعالى : الخبيثات للخبيثين وأما الطيبون المنزهون عن الرذائل ، فإنما تصدر عنهم الطيبات والفضائل . انتهى .

السابع : في سر قرن الزنى بالشرك في قوله تعالى : الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة وتحقيق القول في الآية . قال الإمام ابن القيم رحمه الله في (" إغاثة اللهفان " ) : نجاسة الزنى واللواطة أغلظ من غيرها من النجاسات . من جهة أنها تفسد القلب وتضعف توحيده جدا . ولهذا أحظى الناس بهذه النجاسة ، أكثرهم شركا . فكلما كان الشرك في العبد أغلب . [ ص: 4497 ] كانت هذه النجاسة والخبائث فيه أكثر ، وكلما كان أعظم إخلاصا ، كان منها أبعد ، كما قال تعالى عن يوسف الصديق عليه السلام : كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين فإن عشق الصور المحرمة نوع تعبد لها . بل هو من أعلى أنواع التعبد . ولا سيما إذ استولى على القلب وتمكن منه ، صار تتيما . والتتيم التعبد . فيصير العاشق عابدا لمعشوقه . وكثيرا ما يغلب حبه وذكره والشوق إليه والسعي في مرضاته وإيثار محابه ، على حب الله وذكره والسعي في مرضاته ، بل كثيرا ما يذهب ذلك من قلب العاشق بالكلية ويصير متعلقا بمعشوقه من الصور . كما هو مشاهد فيصير المعشوق هو إلهه من دون الله عز وجل . يقدم رضاه وحبه على رضا الله وحبه . ويتقرب إليه ما لا يتقرب إلى الله . وينفق في مرضاته ما لا ينفقه في مرضاة الله . ويتجنب سخطه ما لا يتجنب من سخط الله تعالى . فيصير آثر عنده من ربه حبا وخضوعا وذلا وسمعا وطاعة ، ولهذا كان العشق والشرك متلازمين ، وإنما حكى الله سبحانه العشق عن المشركين من قوم لوط ، وعن امرأة العزيز ، وكانت إذ ذاك مشركة ، فكلما قوي شرك العبد بلي بعشق الصور وكلما قوي توحيده صرف ذلك عنه . والزنى واللواطة كمال لذته ، إما يكون من العشق . ولا يخلو صاحبهما منه . وإنما لتنقله من محل إلى محل ، لا يبقى عشقه مقصورا على محل واحد . بل ينقسم على سهام كثيرة لكل محبوب نصيب من تألهه وتعبده . فليس في الذنوب أفسد للقلب والدين من هاتين الفاحشتين . ولهما خاصية في تبعيد القلب من الله ، فإنهما من أعظم الخبائث فإذا انصبغ القلب بهما بعد ممن هو طيب لا يصعد إليه إلا طيب . وكلما ازداد خبثا ازداد من الله بعدا . ولهذا قال المسيح ، فيما رواه الإمام أحمد في (" كتاب الزهد " ) لا يكون البطالون من الحكماء . ولا يلج الزناة ملكوت السماء . ولما كانت هذه حال الزنى كان قريبا للشرك في كتاب الله تعالى . قال الله تعالى : الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين والصواب القول بأن هذه الآية محكمة . يعمل بها لم ينسخها شيء . وهي مشتملة على خبر وتحريم . ولم يأت من ادعى نسخها بحجة البتة . [ ص: 4498 ] والذي أشكل منها على كثير من الناس ، واضح بحمد الله تعالى . فإنهم أشكل عليهم قوله : الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة هل هو خبر أو نهي أو إباحة ؟ فإن كان خبرا فقد رأينا كثيرا من الزناة ينكح عفيفة . وإن كان نهيا فيكون قد نهى الزاني أن يتزوج إلا بزانية أو مشركة ، فيكون نهيا له عن نكاح المؤمنات العفائف . وإباحة له نكاح المشركات والزواني ، والله سبحانه لم يرد ذلك قطعا . فلما أشكل عليهم ذلك وطلبوا للآية وجها يصح حملها عليه . فقال بعضهم : المراد من النكاح الوطء والزنى . فكأنه قال : الزاني لا يزني إلا بزانية أو مشركة . وهذا فاسد . فإنه لا فائدة فيه . ويصان كلام الله تعالى عن حمله على مثل ذلك . فإنه من المعلوم أن الزاني لا يزني إلا بزانية . فأي فائدة في الإخبار بذلك . ولما رأى الجمهور فساد هذا التأويل أعرضوا عنه ، ثم قالت طائفة : هذا عام اللفظ خاص المعنى . والمراد به رجل واحد وامرأة واحدة . وهي عناق وصاحبها ، فإنه أسلم واستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في نكاحها فنزلت هذه الآية .

وهذا أيضا فاسد . فإن هذه الصورة المعينة ، وإن كانت سبب النزول ، فالقرآن لا يقتصر به على محال أسبابه . ولو كان كذلك لبطل الاستدلال به على غيرها . وقالت طائفة : بل الآية منسوخة بقوله : وأنكحوا الأيامى منكم وهذا أفسد من الكل . فإنه لا تعارض بين هاتين الآيتين . ولا تناقض إحداهما الأخرى . بل أمر سبحانه بإنكاح الأيامى ، وحرم نكاح الزانية ، كما حرم نكاح المعتدة والمحرمة وذوات المحارم . فأين الناسخ والمنسوخ في هذا ؟ (فإن قيل ) : فما وجه الآية ؟ قيل : وجهها ، والله أعلم . أن المتزوج أمر أن يتزوج المحصنة العفيفة ، وإنما أبيح له نكاح المرأة بهذا الشرط . كما ذكر ذلك سبحانه في سورتي النساء والمائدة . والحكم المعلق على الشرط ينتفي عند انتفائه . والإباحة قد علقت على شرط الإحصان ، فإذا انتفى الإحصان انتفت الإباحة المشروطة به . [ ص: 4499 ] فالمتزوج إما أن يلتزم حكم الله وشرعه الذي شرعه على لسان رسوله ، أو لا يلتزمه . فإن لم يلتزمه فهو مشرك لا يرضى بنكاحه إلا من هو مشرك مثله ، وإن التزمه وخالفه ، ونكح ما حرم عليه ، لم يصح إنكاح . فيكون زانيا ، فظهر معنى قوله : لا ينكح إلا زانية أو مشركة وتبين غاية البيان . وكذلك حكم المرأة . وكما أن هذا الحكم هو موجب القرآن وصريحه ، فهو موجب الفطرة ومقتضى العقل . فإن الله سبحانه حرم على عبده أن يكون قرنانا ديوثا زوج بغي . فإن الله تعالى فطر الناس على استقباح ذلك واستهجانه . ولهذا إذا بالغوا في سب الرجل قالوا : (زوج قحبة ) ، فحرم الله على المسلم أن يكون كذلك . فظهرت حكمة التحريم وبان معنى الآية . والله الموفق .

ومما يوضح التحريم ، وأنه هو الذي يليق بهذه الشريعة الكاملة ، أن هذه الجناية من المرأة تعود بفساد فراش الزوج ، وفساد النسب الذي جعله الله تعالى بين الناس لتمام مصالحهم . وعدوه من جملة نعمه عليهم ، فالزنى يفضي إلى اختلاط المياه واشتباه الأنساب . فمن محاسن الشريعة تحريم نكاح الزانية حتى تتوب وتستبرأ . وأيضا ، فإن الزانية خبيثة ، كما تقدم بيانه والله سبحانه جعل النكاح سببا للمودة والرحمة ، والمودة خالص الحب ، فكيف تكون الخبيثة مودودة للطيب ، زوجا له ؟ والزوج سمي زوجا من الازدواج فالزوجان ، الاثنان المتشابهان والمنافرة ثابتة بين الطيب والخبيث شرعا وقدرا . فلا يحصل معها الازدواج والتراحم والتواد . فلقد أحسن كل الإحسان من ذهب إلى هذا المذهب ، ومنع الرجل أن يكون زوج قحبة . فأين هذا من قول من جوز أن يتزوجها ويطأها الليلة ، وقد وطئها الزاني البارحة ؟ وقال : ماء الزاني لا حرمة له . فهب أن الأمر كذلك ، فماء الزوج له حرمة فكيف يجوز اجتماعه مع ماء الزاني في رحم واحد ، والمقصود أن الله سبحانه سمى الزواني والزناة خبيثين وخبيثات . وجنس هذا الفعل قد شرعت فيه الطهارة ، وإن كان حلالا . وسمي فاعله جنبا لبعده عن قراءة القرآن وعن الصلاة وعن المساجد . فمنع من ذلك كله حتى يتطهر بالماء . فكذلك إذا كان حراما يبعد القلب عن الله تعالى وعن الدار الآخرة . بل يحول بينه وبين الإيمان ، حتى يحدث طهرا . [ ص: 4500 ] كاملا بالتوبة . وطهرا لبدنه بالماء . وقول اللوطية : أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون من جنس قوله سبحانه في أصحاب الأخدود : وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد وقوله سبحانه : قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنـزل إلينا وما أنـزل من قبل وهكذا المشرك إنما ينقم على الموحد تجريده للتوحيد ، وأنه لا يشوبه بالإشراك ، وهكذا المبتدع إنما ينقم على السني تجريده متابعة الرسول وأنه لم يشبها بآراء الرجال ولا بشيء مما خالفها ، فصبر الموحد المتبع للرسول ، على ما ينقمه عليه أهل الشرك والبدعة ، خير له وأنفع ، وأسهل عليه ، من صبره على ما ينقمه الله ورسوله ، عليه من موافقة أهل الشرك والبدعة .


إذا لم يكن بد من الصبر ، فاصطبر على الحق . ذاك الصبر تحمد عقباه



لطيفة :

كتب ابن القاضي شرف الدين ابن المقري ، صاحب (" الروض " ) إلى أبيه ، وقد قطع نفقته :


لا تقطعن عادة بر ، ولا     تجعل عتاب المرء في رزقه


فإن أمر الإفك من مسطح     يحط قدر النجم من أفقه


وقد جرى منه الذي قد جرى     وعوتب الصديق في حقه



فأجابه أبوه شرف الدين بقوله :


قد يمنع المضطر من ميتة     إذا عصى بالسير في طرقه


لأنه يقوى على توبة     توجب إيصالا إلى رزقه


لو لم يتب من ذنبه مسطح     ما عوتب الصديق في حقه



ولما فضل تعالى الزواجر عن الزنى ، وعن رمي العفائف عنه . بين من الزواجر ما عسى يؤدي [ ص: 4501 ] إلى أحدهما . وذلك في مخالطة الرجال بالنساء ، ودخولهم عليهن ، وفي أوقات الخلوات ، وفي تعليم الآداب الجميلة ، فقال سبحانه :

التالي السابق


الخدمات العلمية