صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى:

[223 - 226] يلقون السمع وأكثرهم كاذبون والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون

يلقون أي: الأفاكون: السمع أي: إلى الشياطين وأوهامهم ووساوسهم: وأكثرهم كاذبون أي: فيما يتكهنون به، وفيما يحكونه عن الشياطين. وقوله تعالى: والشعراء يتبعهم الغاوون استئناف مسوق لإبطال ما قالوا في حق القرآن الكريم، من أنه من قبيل الشعر، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشعراء، ببيان حال الشعراء المنافية لحاله عليه الصلاة والسلام. بعد إبطال ما قالوا إنه من قبيل ما يلقي الشياطين على الكهنة من الأباطيل، بما مر من بيان أحوالهم المضادة لأحواله عليه الصلاة والسلام.

والمعنى أن الشعراء [ ص: 4650 ] الذين يركبون المخيلات والمزخرفات من القياسات الشعرية والأكاذيب الباطلة، سواء كانت موزونة أم لا، فإنه يتبعهم: أي: يجاريهم ويسلك مسلكهم، ويكون من جملتهم الغاوون الضالون عن السنن، لا غيرهم من أهل الرشد، المهتدين إلى طريق الحق، الداعين إليه. قاله أبو السعود.

وقوله تعالى: ألم تر أنهم في كل واد يهيمون استشهاد على أن الشعراء إنما يتبعهم الغاوون، وتقرير له. أي: ألم تر أنهم في كل واد من أودية الخيال يهيمون على وجوههم، لا يقفون عند حد معين، بل يركبون للباطل والكذب وفضول القول كل مركب. ديدنهم الهجاء، وتمزيق الأعراض، والقدح في الأنساب، والنسيب بالحرم والغزل والابتهار. ومدح من لا يستحق المدح، والغلو في الثناء والهجاء.

لطيفة:

في ذكر الوادي والهيام، تمثيل لذهابهم في شعب القول وفنونه وطرقه وشجونه. قال ابن الأثير: استعار الأودية للفنون والأغراض من المعاني الشعرية التي يقصدونها. وإنما خص الأودية بالاستعارة، ولم يستعر الطرق والمسالك، أو ما جرى مجراها -لأن معاني الشعر تستخرج بالفكرة والروية، والفكرة والروية فيهما خفاء وغموض. فكان استعارة الأودية لها أشبه وأليق.

وأنهم يقولون ما لا يفعلون أي: مما يتبجحون به من أقوال وأفعال لم تصدر منهم ولا عنهم، كناية عن أنهم يكذبون غير مبالين بما يستتبعه من اللوائم. أي: فكيف يتوهم أن يتبعهم في مسلكهم ذلك، ويلتحق بهم وينتظم في سلكهم، من تنزهت ساحته عن أن يحوم حولها شائبة الاتصاف بشيء من الأمور المذكورة، واتصف بمحاسن الصفات [ ص: 4651 ] الجليلة، وتخلق بمكارم الأخلاق الجميلة، وحاز جميع الكمالات القدسية، وفاز بجملة الملكات الأنسية، مستقرا على المنهاج القويم، مستمرا على الصراط المستقيم، ناطقا بكل أمر رشيد، داعيا إلى صراط العزيز الحميد، مؤيدا بمعجزات قاهرة، وآيات ظاهرة، مشحونة بفنون الحكم الباهرة، وصنوف المعارف الزاهرة، مستقلة بنظم رائق، أعجز كل منطيق ماهر، وبكت كل مفلق ساحر! قاله أبو السعود.

تنبيه:

قال الحافظ ابن كثير : اختلف العلماء فيما إذا اعترف الشاعر في شعره بما يوجب حدا. هل يقام عليه بهذا الاعتراف أم لا ؟ لأنهم يقولون ما لا يفعلون -على قولين: وقد ذكر محمد بن إسحاق ومحمد بن سعد في (الطبقات) والزبير بن بكار في كتاب (الفكاهة) أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه استعمل النعمان بن عدي بن نضلة على ميسان، من أرض البصرة. وكان يقول الشعر، فقال:


ألا هل أتى الحسناء أن خليلها بميسان يسقى في زجاج وحنتم     إذا شئت غنتني دهاقين قرية
ورقاصة تحثو على كل مبسم     فإن كنت ندماني فبالأكبر اسقني
ولا تسقني بالأصغر المتثلم     لعل أمير المؤمنين يسوؤه
تنادمنا بالجوسق المتهدم



فلما بلغ ذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: إي والله! إنه ليسوؤني بذلك. ومن لقيه فليخبره أني قد عزلته، وكتب إليه عمر : (بسم الله الرحمن الرحيم: حم تنـزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير أما بعد فقد بلغني قولك:


لعل أمير المؤمنين يسوؤه     تنادمنا بالجوسق المتهدم



[ ص: 4652 ] وايم الله! إنه ليسوؤني ذلك. وقد عزلتك).

فلما قدم على عمر . بكته بهذا الشعر. وقال: والله! يا أمير المؤمنين ! ما شربتها قط وما ذاك الشعر إلا شيء طفح على لساني. فقال عمر : أظن ذلك. ولكن، والله! لا تعمل لي عملا أبدا، وقد قلت ما قلت.

فلم يذكر أنه حده على الشراب، وقد ضمنه شعره. لأنهم يقولون ما لا يفعلون. ولكن ذمه عمر ولامه على ذلك وعزله به.

وحكى الزمخشري عن الفرزدق أن سليمان بن عبد الملك سمع قوله:


فبتن بجانبي مصرعات     وبت أفض أغلاق الختام



فقال: وقد وجب عليك الحد. فقال: يا أمير المؤمنين ! قد درأ الله عني الحد بقوله: وأنهم يقولون ما لا يفعلون

ثم استثنى تعالى الشعراء المؤمنين الصالحين، بقوله:

التالي السابق


الخدمات العلمية