صفحة جزء
[ ص: 67 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[21 ] يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون

يا أيها الناس اعبدوا ربكم لما ذكر الله علو طبقة كتابه الكريم ، وتحزب الناس في شأنه إلى ثلاث فرق : مؤمنة به محافظة على ما فيه من الشرائع والأحكام . وكافرة قد نبذته وراء ظهرها بالمجاهرة والشقاق ، وأخرى مذبذبة بينهما بالمخادعة والنفاق ، وما اختصت به كل فرقة مما يسعدها ويشقيها ، ويحظيها عند الله ويرديها ؛ أقبل عليهم بالخطاب - وهو من الالتفات المذكور عند قوله جل ذكره : إياك نعبد - وهو فن من الكلام جزل ، فيه هز وتحريك من السامع -كما أنك إذا قلت لصاحبك حاكيا عن ثالث لكما : إن فلانا من قصته كيت وكيت ، فقصصت عليه ما فرط منه ، ثم عدلت بخطابك إلى الثالث ، فقلت : يا فلان ! من حقك أن تلزم الطريقة الحميدة في مجاري أمورك ، وتستوي على جادة السداد في مصادرك ومواردك - نبهته بالتفاتك نحوه فضل تنبه، واستدعيت إصغاءه إلى إرشادك زيادة استدعاء ؛ وأوجدته ، بالانتقال من الغيبة إلى المواجهة هازا من طبعه ، ما لا يجده إذا استمررت على لفظ الغيبة ، وهكذا الافتنان في الحديث والخروج فيه من صنف إلى صنف ، يستفتح الآذان للاستماع ، ويستهش الأنفس للقبول ، وإنما كثر النداء في كتابه تعالى على طريقة (يا أيها الناس) لاستقلاله بأوجه من التأكيد ، وأسباب من المبالغة . كالإيضاح بعد الإبهام . واختيار لفظ البعيد ، وتأكيد معناه بحرف التنبيه .

ومعلوم أن كل ما نادى الله له عباده : من أوامره ، ونواهيه وعظاته ، وزواجره ، ووعده ، ووعيده ، واقتصاص أخبار الأمم الدارجة عليهم ، وغير ذلك . . مما أنطق به كتابه - أمور عظام ، وخطوب جسام ، ومعان علمهم أن يتيقظوا لها ، ويميلوا بقلوبهم وبصائرهم إليها وهم عنها غافلون فاقتضت الحال أن ينادوا بالآكد الأبلغ - . أفاده الزمخشري - .

[ ص: 68 ] والمراد بالناس : كافة المكلفين - مؤمنهم وكافرهم- فطلب العبادة من المؤمنين طلب الزيادة فيها ، والثبات عليها ، ومن الكافرين ابتداؤها "الذي خلقكم" أنعم عليكم بإخراجكم من العدم إلى الوجود "و" –خلق- : والذين من قبلكم لعلكم تتقون أي : كي تتقون ، كقوله تعالى : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون وقوله سبحانه : الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وفي إيراد "لعل" ، تشبيه طلبه تعالى برجاء الراجي من المرجو منه أمرا هين الحصول ; فإنه تعالى لما وضع في أيدي المكلفين زمام الاختيار ، وطلب منهم الطاعة ، ونصب لهم أدلة عقلية ونقلية داعية إليها ؛ ووعد ، وأوعد ، وألطف بما لا يحصى كثرة ، لم يبق للمكلف عذر ، وصار حاله في رجحان اختياره للطاعة مع تمكنه من المعصية كحال المترجي منه في رجحان اختياره لما يرتجى منه - مع تمكنه من خلافه - وصار طلب الله تعالى لعبادته واتقائه بمنزلة الترجي -فيما ذكرناه- .

التالي السابق


الخدمات العلمية