القول في تأويل قوله تعالى : 
[ 9 ] 
ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد  . 
ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد وهذا  
[ ص: 798 ] من تتمة كلام الراسخين في العلم ، وذلك لأنهم لما طلبوا من الله تعالى أن يصونهم عن الزيغ ، وأن يخصهم بالهداية والرحمة ، فكأنهم قالوا : ليس الغرض من هذا السؤال ما يتعلق بمصالح الدنيا ، فإنها منقضية منقرضة . وإنما الغرض الأعظم منه : ما يتعلق بالآخرة فإنها القصد والمآل . فإنا نعلم أنك يا إلهنا جامع الناس للجزاء في يوم القيامة ، ونعلم أن وعدك لا يكون خلفا ، فمن زاغ قلبه بقي هناك في العذاب أبدا ، ومن منحته الرحمة والهداية بقي هناك في السعادة والكرامة أبدا . فالغرض الأعظم من ذلك الدعاء ؛ ما يتعلق بالآخرة - أفاده 
الرازي   - ثم قال : احتج 
 nindex.php?page=showalam&ids=13980الجبائي  بهذه الآية على 
القطع بوعيد الفساق . قال : وذلك لأن الوعيد داخل تحت لفظ الوعد بدليل قوله تعالى : 
أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا والوعد والموعد والميعاد واحد . وقد أخبر في هذه الآية أنه لا يخلف الميعاد . فكان هذا دليلا على أنه لا يخلف في الوعيد . والجواب : لا نسلم أنه تعالى يوعد الفساق مطلقا ، بل ذلك الوعيد عندنا مشروط بشرط عدم العفو ، كما أنه بالاتفاق مشروط بشرط عدم التوبة ، فكما أنكم أثبتم ذلك الشرط بدليل منفصل ، فكذا نحن أثبتنا شرط عدم العفو بدليل منفصل ، سلمنا أنه يوعدهم ، ولكن لا نسلم أن الوعيد داخل تحت لفظ الوعد . أما قوله تعالى : 
فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قلنا لم لا يجوز أن يكون ذلك ، كما في قوله : 
فبشرهم بعذاب أليم  [ ص: 799 ] وقوله : 
ذق إنك أنت العزيز الكريم وأيضا لم لا يجوز أن يكون المراد منه أنهم كانوا يتوقعون من أوثانهم أنها تشفع لهم عند الله ، فكان المراد من الوعد تلك المنافع . 
وذكر 
 nindex.php?page=showalam&ids=15466الواحدي  في ( البسيط ) طريقة أخرى فقال : لم لا يجوز أن يحمل هذا على ميعاد الأولياء ، دون وعيد الأعداء ؛ لأن خلف الوعيد كرم عند العرب . قال : والدليل عليه أنهم يمدحون بذلك ، قال الشاعر : 
إذا وعد السراء أنجز وعده وإن أوعد الضراء فالعفو مانعه 
وروى المناظرة التي دارت بين 
 nindex.php?page=showalam&ids=12114أبي عمرو بن العلاء ،  وبين 
 nindex.php?page=showalam&ids=16711عمرو بن عبيد .  قال 
 nindex.php?page=showalam&ids=12114أبو عمرو بن العلاء  لعمرو بن عبيد :  ما تقول في أصحاب الكبائر ؟ قال : أقول إن الله وعد وعدا وأوعد إيعادا ، فهو منجز إيعاده ما هو منجز وعده ، فقال 
 nindex.php?page=showalam&ids=12114أبو عمرو بن العلاء :  إنك رجل أعجم ، لا أقول أعجم اللسان ، ولكن أعجم القلب . إن العرب تعد الرجوع عن الوعد لؤما . وعن الإيعاد كرما ، وأنشد : 
وإني وإن أوعدته أو وعدته     لمكذب إيعادي ومنجز موعدي 
واعلم أن 
المعتزلة  حكوا أن 
 nindex.php?page=showalam&ids=12114أبا عمرو بن العلاء  لما قال هذا الكلام ، قال له 
 nindex.php?page=showalam&ids=16711عمرو بن عبيد :  يا 
 nindex.php?page=showalam&ids=12114أبا عمرو ؟  فهل يسمى الله مكذب نفسه ؟ فقال : لا ، فقال 
 nindex.php?page=showalam&ids=16711عمرو بن عبيد  فقد سقطت حجتك . قالوا : فانقطع 
عمرو بن العلاء .  
وعندي أنه كان 
 nindex.php?page=showalam&ids=12114لأبي عمرو بن العلاء  أن يجيب عن هذا السؤال فيقول : إنك قست الوعيد على الوعد ، وأنا إنما ذكرت هذا لبيان الفرق بين البابين ، وذلك لأن الوعد حق عليه ، والوعيد حق له ، ومن أسقط حق نفسه فقد أتى بالجود والكرم ، ومن أسقط حق غيره  
[ ص: 800 ] فذلك هو اللؤم . فظهر الفرق بين الوعد والوعيد ، وبطل قياسك . وإنما ذكرت هذا الشعر لإيضاح هذا الفرق . فأما قولك : لو لم يفعل لصار كاذبا ومكذبا نفسه ، فجوابه : أن هذا إنما يلزم لو كان الوعيد ثابتا جزما من غير شرط . وعندي جميع الوعيدات مشروطة بعدم العفو ، فلا يلزم من تركه دخول الكذب في كلام الله تعالى . فهذا ما يتعلق بهذه الحكاية . والله أعلم .