صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 20 ] فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد .

فإن حاجوك في الدين وجادلوك فيه بعد إقامة تلك الآيات : فقل أسلمت وجهي لله أي : انقدت لآياته المنزلة ، وأخلصت نفسي وعبادتي له ، لا أشرك فيها غيره . قال أبو السعود : وإنما عبر عن النفس بالوجه ؛ لأنه أشرف الأعضاء الظاهرة ومظهر القوى والمشاعر ، ومجمع معظم ما يقع به العبادة من السجود والقراءة ، وبه يحصل التوجه إلى كل شيء : ومن اتبعن عطف على الضمير المتصل .

لطيفة :

هل قوله تعالى : فقل أسلمت وجهي لله إعراض على المحاجة أو هو محاجة وإظهار للدليل ؟ فمن قائل بالأول ، وذلك لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان قد أظهر لهم الحجة على صدقه قبل نزول هذه الآية مرارا وأطوارا ، فإن هذه السورة مدنية ، وكان قد أظهر لهم المعجزات الجمة بالقرآن وغيره . فبعد هذا قال : فإن حاجوك فقل أسلمت إلخ . يعني إنا بالغنا في تقرير الدلائل وإيضاح البينات ، فإن تركتم الأنف والحسد وتمسكتم بها كنتم مهتدين . وإن أعرضتم ، فإن الله [ ص: 813 ] تعالى من وراء مجازاتكم . وهذا التأويل طريق معتاد في الكلام . فإن المحق إذا ابتلي بالمبطل اللجوج ، وأورد عليه الحجة حالا بعد حال ، فقد يقول في آخر الأمر : أما أنا ومن اتبعني فمنقادون للحق مستسلمون له ، مقبلون على عبودية الله تعالى ، فإن وافقتم واتبعتم الحق الذي أنا عليه بعد هذه الدلائل التي ذكرتها فقد اهتديتم ، وإن أعرضتم فإن الله بالمرصاد .

فهذا طريق قد يذكره المحتج المحق مع المبطل المصر في آخر كلامه . ومن قائل بالثاني ، أعني : أنه محاجة . وفي كيفية الاستدلال منها ما ذكره أبو مسلم الأصفهاني ، وهو أن اليهود والنصارى وعبدة الأوثان كانوا مقرين بتعظيم إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه ، والإقرار بأنه كان محقا في قوله ، صادقا في دينه . فأمر الله تعالى محمدا - صلى الله عليه وسلم - بأن يتبع ملته فقال : ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ثم إنه تعالى أمر محمدا - صلى الله عليه وسلم - في هذا الموضع أن يقول كقول إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - حيث قال : إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين فقول محمد - صلى الله عليه وسلم - : أسلمت وجهي كقول إبراهيم عليه السلام : وجهت وجهي أي : أعرضت عن كل معبود سوى الله تعالى ، وقصدته بالعبادة ، وأخلصت له . فتقدير الآية كأنه تعالى قال : فإن نازعوك يا محمد في هذه التفاصيل فقل : أنا مستمسك بطريقة إبراهيم وأنتم معترفون بأن طريقته حقة ، بعيدة عن كل شبهة وتهمة . فكان هذا من باب التمسك بالالتزامات ، وداخلا تحت قوله : وجادلهم بالتي هي أحسن - نقله الرازي - : وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أي : الذين [ ص: 814 ] لا كتاب لهم ، كمشركي العرب : أأسلمتم لهذه الآيات كما أسلمت ، أم أنتم بعد على الكفر . قال الزمخشري : يعني : أنه قد أتاكم من البينات ما يوجب الإسلام ، ويقتضي حصوله لا محالة ، فهل أسلمتم ، أم أنتم بعد على كفركم ؟ وهذا كقولك لمن لخصت له المسألة ، ولم تبق من طرق البيان والكشف طريقا إلا سلكته : هل فهمتها ؟ ومنه قوله عز وعلا : فهل أنتم منتهون بعد ما ذكر الصوارف عن الخمر والميسر . وفي هذا الاستفهام استقصار وتعيير بالمعاندة وقلة الإنصاف ، لأن المنصف إذا تجلت له الحجة لم يتوقف إذعانه للحق ، وللمعاند بعد تجلي الحجة ما يضرب أسدادا بينه وبين الإذعان . وكذلك في : ( هل فهمتها ) توبيخ بالبلادة وقلة القريحة . وفي : فهل أنتم منتهون بالتقاعد عن الانتهاء والحرص الشديد على تعاطي المنهي عنه . انتهى فإن أسلموا فقد اهتدوا أي : خرجوا من الضلال فنفعوا أنفسهم : وإن تولوا عن هداك وهديك : فإنما عليك البلاغ أي : تبليغ آيات الله ، لا الإكراه إذا عاندوك ، إذ ليس عليك هداهم : والله بصير بالعباد وعد ووعيد .

قال ابن كثير : وهذه الآية وأمثالها من أصرح الدلالات على عموم بعثته صلوات الله وسلامه عليه إلى جميع الخلق ، كما هو معلوم من دينه ضرورة ، وكما دل عليه الكتاب والسنة في غير ما آية وحديث . فمن ذلك قوله تعالى : قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا وقال تعالى : تبارك الذي نـزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا وفي [ ص: 815 ] الصحيحين وغيرهما مما ثبت تواتره بالوقائع المتعددة أنه - صلى الله عليه وسلم - بعث كتبه يدعو إلى الله ملوك الآفاق ، وطوائف بني آدم ، من عربهم وعجمهم ، كتابيهم وأميهم ، امتثالا لأمر الله له بذلك . [ ص: 816 ] وقد روى عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : « والذي نفسي بيده ! لا يسمع بي أحد من هذه الأمة ، يهودي ولا نصراني ، ومات ولم يؤمن بالذي أرسلت به ، إلا كان من أهل النار » . رواه مسلم . وقال - صلى الله عليه وسلم - : « بعثت إلى الأحمر والأسود » . وقال : « كان النبي يبعث إلى قومه خاصة ، وبعثت إلى الناس عامة » . إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث .

[ ص: 817 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية