صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 61 ] فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنت الله على الكاذبين

فمن حاجك أي : جادلك من النصارى بإيراد حجة : فيه أي : في شأن عيسى ، زعما منهم أنه ليس على الشأن المتلو : من بعد ما جاءك من العلم أي : الذي أنزلناه إليك ، وقصصناه عليك في أمره . وللفاضل المهايمي في هذه الآية أسلوب لطيف في التأويل حيث قال : الحق أي : الثابت الذي لا يقبل التأويل جاء : من ربك الذي رباك بالإطلاع على الحقائق : فلا تكن من الممترين بما ورد في الإنجيل من إطلاق لفظ الأب على الله ، فإنه إطلاق مجازي ؛ لأنه لما حدث منه كان كأبيه . وإذا ظهر لك الحق من ربك بالبيان التام : فمن حاجك أي : جادلك : فيه لإثبات أبنيته بظواهر الإنجيل : من بعد ما جاءك من العلم القطعي الموجب لتأويله فقل لم يبق بيننا وبينكم مناظرة ، ولكن نرفع عنادكم بطريق المباهلة : تعالوا أي : أقبلوا أيها المجادلون إلى أمر يعرف فيه علو الحق وسفول [ ص: 857 ] الباطل : ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم أي يدع كل منا ومنكم نفسه ، وأعزة أهله ، وألصقهم بقلبه ، ممن يخاطر الرجل بنفسه لهم ، ويحارب دونهم ، ويحملهم على المباهلة : ثم نبتهل أي : نتضرع إلى الله تعالى ونجتهد في دعاء اللعنة : فنجعل لعنت الله أي : إبعاده وطرده : على الكاذبين منا ومنكم ليهلكهم الله وينجي الصادقين ، فلا يبقى العناد الباقي عليكم بعد اتفاق الدلائل العقلية والنقلية .

تنبيهات :

الأول - قال القاشاني : إن لمباهلة الأنبياء تأثيرا عظيما ، سببه : اتصال نفوسهم بروح القدس ، وتأييد الله إياهم به ، وهو المؤثر بإذن الله في العالم العنصري ، فيكون انفعال العالم العنصري منه كانفعال بدننا من روحنا بالهيئات الواردة عليه ، كالغضب والحزن والفكر في أحوال المعشوق ، وغير ذلك من تحرك الأعضاء عند حدوث الإرادات والعزائم ، وانفعال النفوس البشرية منه ، كانفعال حواسنا وسائر قوانا من هيئات أرواحنا ، فإذا اتصل نفس قدسي به كان تأثيرها في العالم عند التوجه الاتصالي بتأثير ما يتصل به ، فتنفعل أجرام العناصر والنفوس الناقصة الإنسانية منه بما أراد ، ألم تر كيف انفعلت نفوس النصارى من نفسه عليه السلام بالخوف ، وأحجمت عن المباهلة ، وطلبت الموادعة بقبول الجزية ! .

الثاني : قال ابن كثير : وكان سبب نزول هذه المباهلة وما قبلها من أول السورة إلى هنا في وفد نصارى نجران لما قدموا المدينة ، فجعلوا يحاجون في عيسى ويزعمون فيه ما يزعمون من البنوة والإلهية ، فأنزل الله صدر هذه السورة ردا عليهم كما ذكره الإمام محمد بن إسحاق وغيره ، وكانوا ستين راكبا ، منهم ثلاثة نفر ، إليهم يؤول أمرهم : العاقب أمير القوم واسمه : عبد المسيح ، والسيد ثمالهم ، وصاحب رحلهم واسمه : الأيهم ، وأبو حارث بن علقمة أسقفهم وحبرهم . وفي القصة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أتاه الخبر من الله - عز وجل - والفصل من القضاء بينه وبينهم ، وأمر بما أمر به من ملاعنتهم ، إن ردوا ذلك عليه ، دعاهم إلى المباهلة ، فقالوا : يا أبا القاسم [ ص: 858 ] دعنا ننظر في أمرنا ، ثم نأتيك بما نريد أن نفعل فيما دعوتنا إليه ، فانصرفوا عنه ، ثم خلوا بالعاقب فقالوا : يا عبد المسيح ماذا ترى ؟ فقال : والله يا معشر النصارى لقد عرفتم إن محمدا لنبي مرسل ، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم ، ولقد علمتم ما لاعن قوم نبيا قط ، فبقي كبيرهم ، ولا نبت صغيرهم ، وإنه للاستئصال منكم إن فعلتم ، فإن كنتم قد أبيتم إلا إلف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم ، فوادعوا الرجل ثم انصرفوا إلى بلادكم ، فأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : يا أبا القاسم ! قد رأينا أن لا نلاعنك ، وأن نتركك على دينك ، ونرجع على ديننا . فلم يلاعنهم - صلى الله عليه وسلم - وأقرهم على خراج يؤدونه إليه .

وروى الحافظ أبو بكر بن مردويه عن الشعبي عن جابر قال : قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - العاقب والطيب ، فدعاهما إلى الملاعنة ، فواعداه على أن يلاعناه الغداة ، قال : فغدا رسول الله ، فأخذ بيد علي وفاطمة والحسن والحسين ، ثم أرسل إليهما فأبيا أن يجيبا ، وأقرا له بالخراج ، قال : فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « والذي بعثني بالحق ، لو قالا : لا ، لأمطر عليهم الوادي نارا » . قال جابر : وفيهم نزلت : ندع أبناءنا الآية . قال جابر : أنفسنا وأنفسكم : رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلي بن أبي طالب ، وأبناؤنا الحسن والحسين ، ونساؤنا : فاطمة ، وهكذا - رواه الحاكم في مستدركه بمعناه ، ثم قال : صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه . هكذا قال .

وقد رواه أبو داود الطيالسي عن شعبة عن المغيرة عن الشعبي مرسلا ، وهذا أصح .

وقد روي عن ابن عباس والبراء نحو ذلك .

وروى البخاري عن حذيفة - رضي الله عنه - قال : جاء العاقب والسيد ، صاحبا نجران إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريدان أن يلاعناه ، قال : فقال أحدهما لصاحبه : لا تفعل ، فوالله لئن كان نبيا فلاعناه لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا ، قالا : إنا نعطيك ما سألتنا ، وابعث معنا [ ص: 859 ] رجلا أمينا ، ولا تبعث معنا إلا أمينا . فقال : « لأبعثن معكم رجلا أمينا ، حق أمين » . فاستشرف لها أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : قم يا أبا عبيدة بن الجراح ، فلما قام قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « هذا أمين هذه الأمة » . ورواه مسلم والنسائي أيضا وغيرهم .

وروى الإمام أحمد عن ابن عباس قال : قال أبو جهل قبحه الله - : إن رأيت محمدا يصلي عند الكعبة لآتينهحتى أطأ على رقبته ، قال : فقال : لو فعل لأخذته الملائكة عيانا ، ولو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ، ولرأوا مقاعدهم من النار ، ولو خرج الذين يباهلون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرجعوا لا يجدون مالا ولا أهلا .

قال ابن كثير : وقد رواه البخاري والترمذي والنسائي . وقد ساق قصة وفد نجران الإمام ابن القيم عليه الرحمة في ( زاد المعاد ) وأعقبها بفصل مهم في فقهها ، فليراجع .

الثالث : قال الزمخشري : فإذا قلت : ما كان دعاؤه إلى المباهلة إلا ليتبين الكاذب منه ومن خصمه ، وذلك أمر يختص به وبمن يكاذبه . فما معنى ضم الأبناء والنساء ؟ قلت : ذلك آكد في الدلالة على ثقته بحاله ، واستيقانه بصدقه ، حيث استجرأ على تعريض أعزته وأفلاذ كبده وأحب الناس إليه لذلك . ولم يقتصر على تعريض نفسه له ، وعلم ثقته بكذب خصمه حتى يهلك خصمه مع أحبته وأعزته هلاك الاستئصال إن تمت المباهلة ، وخص الأبناء والنساء لأنهم أعز الأهل وألصقهم بالقلوب ، وربما فداهم الرجل بنفسه وحارب دونهم حتى يقتل ، ومن ثمت كانوا يسوقون مع أنفسهم الظعائن في الحروب لتمنعهم من الهرب . ويسمون الذادة عنها بأرواحهم حماة الحقائق . وقدمهم في الذكر على الأنفس لينبه على لطف مكانهم وقرب منزلتهم وليؤذن بأنهم مقدمون على الأنفس مفدون بها . وفيه دليل ، لا شيء أقوى منه ، على فضل أصحاب الكساء عليهم السلام . وفيه برهان واضح على صحة نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأنه لم يرو أحد من موافق ولا مخالف أنهم أجابوا إلى ذلك .

[ ص: 860 ] الرابع : استنبط من الآية جواز المحاجة في أمر الدين ، وأن من جادل وأنكر شيئا من الشريعة جازت مباهلته اقتداء بما أمر به - صلى الله عليه وسلم - . والمباهلة : الملاعنة .

قال الكازروني في تفسيره : وقع البحث عند شيخنا العلامة الدواني قدس الله سره في جواز المباهلة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - فكتب رسالة في شروطها المستنبطة من الكتاب والسنة والآثار ، وكلام الأئمة ، وحاصل كلامه فيها : أنها لا تجوز إلا في أمر مهم شرعا ، وقع فيه اشتباه وعناد لا يتيسر دفعه إلا بالمباهلة ، فيشترط كونها بعد إقامة الحجة والسعي في إزالة الشبهة وتقديم النصح والإنذار وعدم نفع ذلك ، ومساس الضرورة إليها .

قال الإمام صديق خان في تفسيره : وقد دعا الحافظ ابن القيم ، رحمه الله ، من خالفه في مسألة صفات الرب تعالى شأنه وإجرائها على ظواهرها من غير تأويل ولا تحريف ولا تعطيل ، إلى المباهلة بين الركن والمقام ، فلم يجبه إلى ذلك ، وخاف سوء العاقبة . وتمام هذه القصة مذكور في أول كتابه المعروف بـ ( النونية ) - انتهى - وقد ذكر في ( زاد المعاد ) في فصل فقه قصة وفد نجران ما نصه : ومنها أن السنة في مجادلة أهل الباطل إذا قامت عليهم حجة الله ولم يرجعوا ، بل أصروا على العناد أن يدعوهم إلى المباهلة ، وقد أمر الله سبحانه بذلك رسوله ، ولم يقل : إن ذلك ليس لأمتك من بعدك . ودعا إليه ابن عمه عبد الله بن عباس لمن أنكر عليه بعض مسائل الفروع ، ولم ينكر عليه الصحابة ، ودعا إليه الأوزاعي سفيان الثوري في مسألة رفع اليدين ، ولم ينكر عليه ذلك ، وهذا من تمام الحجة - انتهى - .

التالي السابق


الخدمات العلمية