صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى:

[11] سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا بل كان الله بما تعملون خبيرا .

سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا قال مجاهد : هم أعراب المدينة ، كجهينة ومزينة، استتبعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لخروجه إلى مكة ، فقالوا: نذهب معه إلى قوم قد جاؤوه، فقتلوا أصحابه، فنقاتلهم. فاعتلوا بالشغل. أي: سيقولون لك [ ص: 5410 ] إذا عاتبتهم على التخلف عنك: شغلنا عن الخروج معك معالجة أموالنا، وإصلاح معايشنا، والخوف على أهلنا من الضيعة، فاستغفر لنا ربنا.

وقوله تعالى: يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم تكذيب لهم في اعتذارهم، وأن الذي خلفهم ليس بما يقولون، وإنما هو الشك في الله، والنفاق. وكذا طلبهم للاستغفار أيضا، ليس بصادر عن حقيقة؛ لأنه بغير توبة منهم، ولا ندم على ما سلف منهم من معصية التخلف. وفيه إيذان بأن اللسان لا عبرة به، ما لم يكن مترجما عن الاعتقاد الحق .

قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا أي: لا أحد يمنعه تعالى من ذلك؛ لأنه لا يغالبه غالب. إشارة إلى عدم فائدة استغفاره لهم، مع بقائهم على كذبهم ونفاقهم، ولذا هددهم بقوله سبحانه: بل كان الله بما تعملون خبيرا أي: فيجازيكم عليه.

لطيفة:

قال الناصر : لا تخلو الآية من الفن المعروف عند علماء البيان باللف. وكان الأصل -والله أعلم-: فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا، ومن يحرمكم النفع إن أراد بكم نفعا؛ لأن مثل هذه النظم يستعمل في الضر. وكذلك ورد في الكتاب العزيز مطردا، كقوله: فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا فلا تملكون لي من الله شيئا هو أعلم بما تفيضون فيه ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في بعض الحديث: « إني لا أملك لكم شيئا » - يخاطب عشيرته- وأمثاله كثيرة.

وسر اختصاصه بدفع المضرة أن الملك مضاف في هذه المواضع باللام، ودفع المضرة نفع يضاف للمدفوع عنه، وليس كذلك حرمان [ ص: 5411 ] المنفعة، فإنه ضرر عائد عليه، لا له. فإذا ظهر ذلك، فإنما انتظمت الآية على هذا الوجه، لأن القسمين يشتركان في أن كل واحد منهما نفي لدفع المقدر من خير وشر، فلما تقاربا أدرجهما في عبارة واحدة، وخص عبارة دفع الضر؛ لأنه هو المتوقع لهؤلاء؛ إذ الآية في سياق التهديد، أو الوعيد الشديد. وهي نظير قوله: قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة فإن العصمة إنما تكون من السوء لا من الرحمة. فهاتان الآيتان يرامان في التقرير الذي ذكرته -والله أعلم-.

التالي السابق


الخدمات العلمية