صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى:

[17] إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد .

إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد أي: ونحن أقرب إلى الإنسان من وريد حلقه حين يتلقى الملكان الحفيظان ما يتلفظ به. فـ: إذ ظرف (لأقرب)، وفيه إيذان بأنه غني عن استحفاظ الملكين، فإنه أعلم منهما ومطلع على ما يخفى عليهما، لكنه لحكمة اقتضته، وهي إلزام الحجة في الأخرى، والتقدم إلى ما يرغبه ويرهبه في الأولى.

وقال القاشاني : بين تعالى بهذه الآية أقربيته لينتفي القرب بمعنى الاتصال والمقارنة، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: هو مع كل شيء لا بمقارنة؛ إذ الشيء به ذلك الشيء، وبدونه ليس شيئا حتى يقارنه. أي: يعلم حديث نفسه الذي توسوس به نفسه وقت تلقي المتلقيين، مع كونه أقرب إليه منهما. وإنما تلقيهما للحجة عليه، وإثبات الأقوال والأعمال في الصحائف النورية، للجزاء.

ثم قال: والمتلقي القاعد عن اليمين، وهو القوة العاقلة العملية المنتقشة بصور الأعمال الخيرية المرتسمة بالأقوال الحسنة الصائبة؛ وإنما قعد عن يمينه لأن اليمين هي الجهة القوية الشريفة المباركة، وهي جهة النفس التي تلي الحق. والمتلقي القاعد عن الشمال هو القوة المتخيلة التي تنتقش بصور الأعمال البشرية البهيمية والسبعية، والآراء الشيطانية والوهمية، والأقوال الخبيثة الفاسدة؛ وإنما قعد عن الشمال لأن الشمال هي الجهة الضعيفة الخسيسة المشؤومة، وهي التي تلي البدن، ولأن الفطرة الإنسانية خيرة بالذات، لكونها من عالم الأنوار، مقتضية بذاتها وغريزتها الخيرات. والشرور إنما هي أمور عرضت لها من جهة البدن وآلاته وهيئاته، يستولي صاحب اليمين على صاحب الشمال، فكلما صدرت منه حسنة كتبها له في الحال، وإن صدرت منه سيئة منع صاحب الشمال من كتابتها في الحال انتظارا للتسبيح، أي: التنزيه عن الغواشي البدنية والهيئات الطبيعية، بالرجوع إلى مقره الأصلي وسنخه [ ص: 5499 ] الحقيقي وحاله الغريزي؛ لينمحي أثر ذلك الأمر العارضي بالنور الأصلي والاستغفار، أي: التنور بالأنوار الروحية والتوجه إلى الحضرة الإلهية، لينمحي أثر تلك الظلمة العرضية بالنور الوارد كما روي « أن كاتب الحسنات على يمين الرجل، وكاتب السيئات على يساره، وكاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات، فإذا عمل حسنة كتبها ملك اليمين عشرا، وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب اليسار: دعه سبع ساعات، لعله يسبح أو يستغفر » . انتهى.

وقد كثر في كلام القاشاني رحمه الله تأويل الملك بالقوة الحاثة على الخير، والشيطان بالمغوية على الشر. وسبقه إليه الحكماء، قال بعض الحكماء: هذا الشيء الذي أودع فينا ونسميه قوة وفكرا، وهو في الحقيقة معنى لا يدرك كنهه، وروح لا تكتنه حقيقتها، لا يبعد أن يسميه الله تعالى ملكا ويسمي أسبابه ملائكة، أو ما شاء من الأسماء، فإن التسمية لا حجر فيها على الناس، فكيف يحجر فيها على صاحب الإرادة المطلقة، والسلطان النافذ والعلم الواسع؟.

وقد سبق الغزالي إلى هذا المعنى وعبر عنه بالسبب، وقال: إنه يسمى ملكا، فإنه في شرح عجائب القلب من كتاب (الإحياء) بعد ما قسم الخواطر إلى محمود ومذموم، قال: وكذلك لأنوار القلب وظلمته سببان مختلفان: فسبب الخاطر الداعي إلى الخير يسمى ملكا، وسبب الخاطر الداعي إلى الشر يسمى شيطانا... إلخ. والبحث كله غرر، تجدر مراجعته.

لطيفة:

قعيد كجليس بمعنى مجالس، لفظا ومعنى؛ وإنما أفرد رعاية للفواصل، فحذف الأول لدلالة الثاني عليه، كقوله:


فإني وقيار بها لغريب



[ ص: 5500 ] وقيل: يطلق (فعيل) للواحد والمتعدد، كقوله: والملائكة بعد ذلك ظهير وضعف بأنه ليس على إطلاقه، بل إذا كان (فعيل) بمعنى (مفعول) بشروطه، وهذا بمعنى (فاعل)، فلا يصح فيه ذلك إلا بطريق الحمل على (فعيل) بمعنى (مفعول).

التالي السابق


الخدمات العلمية