صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى:

[19 - 20] أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى

أفرأيتم اللات قال ابن كثير : هي صخرة بيضاء منقوشة، وعليها بيت بالطائف له أستار وسدنة، وحوله فناء معظم عند أهل الطائف، هم ثقيف ومن تابعها، يفتخرون بها على من عداهم من أحياء العرب بعد قريش . قال ابن جرير : وكانوا قد اشتقوا اسمها من اسم الله، فقالوا: اللات يعنون مؤنثة من لفظه، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا، كما قالوا: عمرو وعمرة.

وقال الزمخشري : هي فعلة من (لوى)؛ لأنهم كانوا يلوون عليها، ويعكفون للعبادة، أو يلتوون عليها، أي: يطوفون.

وحكي عن ابن عباس ومجاهد والربيع بن أنس أنهم قرؤوا: (اللات) بتشديد التاء، وفسروه بأنه كان رجلا يلت للحجيج في الجاهلية السويق، فلما مات عكفوا على قبره وعبدوه.

والعزى وهي شجرة عليها بناء وأستار بنخلة، وهي بين مكة والطائف.

قال ابن جرير : اشتقوا اسمها من اسمه تعالى (العزيز)، وقال الزمخشري : أصلها تأنيث الأعز.

[ ص: 5571 ] ومناة الثالثة الأخرى وهي صخرة كانت بالمشلل عند قديد، بين مكة والمدينة وكانت خزاعة والأوس والخزرج في جاهليتها يعظمونها، ويهلون منها للحج إلى الكعبة.

روى البخاري عن عائشة نحوه.

قال ابن جرير : وكان بعض أهل المعرفة بكلام العرب من أهل البصرة يقول: اللات والعزى ومناة الثالثة، أصنام من حجارة كانت في جوف الكعبة يعبدونها. انتهى.

تنبيهات:

الأول: قال القاضي: (مناة) فعلة، من مناه إذا قطعه؛ فإنهم كانوا يذبحون عندها القرابين. ومنه سميت (منى)؛ لأنه يمنى فيها القرابين، أي: ينحر.

وقال الزمخشري : وكأنها سميت (مناة)؛ لأن دماء المناسك كانت تمنى عندها، أي: تراق. وقرئ: مناءة مفعلة من (النوء)، كأنهم كانوا يستمطرون عندها الأنواء تبركا بها.

فإن قيل: كونها ثالثة وأخرى مغايرة لما تقدمها، معلوم غير محتاج للبيان.

وأجيب: بأنهما صفتان للتأكيد، أو الثالثة للتأكيد، والأخرى بيان لها، لأنها مؤخرة رتبة عندهم، عن اللات والعزى.

قال الناصر : الأخرى ما يثبت آخرا، ولا شك أنه في الأصل مشتق من التأخير الوجودي، إلا أن العرب عدلت به عن الاستعمال في التأخير الوجودي إلى الاستعمال، حيث يتقدم ذكر معاير لا غير حتى سلبته دلالته على المعنى الأصلي، بخلاف (آخر) و (آخرة) على وزن فاعل وفاعلة، فإن إشعارها بالتأخير الوجودي ثابت لم يغير، ومن ثم عدلوا عن أن يقولوا: ربيع الآخر، على وزن الأفعل، وجمادى الأخرى، إلى ربيع الآخر على وزن فاعل، وجمادى الآخرة على وزن فاعلة؛ لأنهم أرادوا أن يفهموا التأخير الوجودي، لأن (الأفعل) و (الفعلى) من هذا الاشتقاق مسلوب للدلالة على غرضهم، فعدلوا عنها إلى الآخر [ ص: 5572 ] والآخرة والتزموا ذلك فيهما. وهذا البحث مما كان الشيخ أبو عمرو بن الحاجب رحمه الله تعالى قد حرره آخر مدته، وهو الحق إن شاء الله تعالى، وحينئذ يكون المراد الإشعار بتقدم مغاير في الذكر مع ما نعتقده في الوفاء بفاصلة رأس الآية. انتهى.

الثاني: قال ابن كثير : كانت بجزيرة العرب وغيرها طواغيت أخر تعظمها العرب كتعظيم الكعبة، غير هذه الثلاثة التي نص عليها في كتابه العزيز، وإنما أفرد هذه بالذكر لأنها أشهر من غيرها.

قال ابن إسحاق في (السيرة): وقد كانت العرب اتخذت مع الكعبة طواغيت، وهي بيوت تعظمها كتعظيم الكعبة، لها سدنة وحجاب ويهدى لها كما يهدى للكعبة، وتطوف بها كطوافها بها، وتنحر عندها، وهي تعرف فضل الكعبة عليها، أنها كانت قد عرفت أنها بيت إبراهيم عليه السلام ومسجده. فكانت لقريش ولبني كنانة (العزى) بنخلة وكانت سدنتها وحجابها بني شيبان من سليم حلفاء بني هاشم . وبعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد فهدمها وجعل يقول:


يا عز كفرانك لا سبحانك إني رأيت الله قد أهانك



روى النسائي عن أبي الطفيل قال: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة بعث خالد بن الوليد إلى نخلة، وكانت بها العزى، فأتاها خالد، وكانت على ثلاث سمرات، فقطع السمرات، وهدم البيت الذي كان عليها، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: « ارجع، فإنك لم تصنع شيئا ». فرجع خالد فلما أبصر السدنة وهم حجبتها، أمعنوا في الحيل وهم يقولون: يا عزى! يا عزى! فأتاها خالد، فإذا امرأة عريانة ناشرة شعرها تحفن التراب على رأسها، فغمسها بالسيف حتى قتلها ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: « تلك العزى» ! قال ابن إسحاق : وكانت اللات لثقيف بالطائف ، وكان سدنتها وحجابها بني معتب، وقد بعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم المغيرة بن شعبة وأبا سفيان صخر بن حرب فهدماها، وجعلا مكانها مسجدا بالطائف.

[ ص: 5573 ] قال ابن إسحاق : وكان مناة للأوس والخزرج ومن دان بدينهم من أهل يثرب على ساحل البحر، من ناحية المشلل بقديد ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها أبا سفيان صخر بن حرب فهدمها. ويقال: علي بن أبي طالب . انتهى.

الثالث: قال ابن جرير : اختلف أهل العربية في وجه الوقف على اللات ومناة فكان بعض نحوي البصرة يقول: إذا سكت قلت: اللات، وكذلك: مناة، تقول: منات. وقال: قال بعضهم: اللات فجعله من اللت الذي يلت. ولغة العرب يسكتون على ما فيه الهاء بالتاء، يقولون: رأيت طلحة. وكل شيء مكتوب بالهاء فإنها تقف عليه بالتاء، نحو نعمة ربك، وشجرة. وكان بعض نحويي الكوفة يقف على اللات بالهاء، وكان غيره منهم يقول: الاختيار في كل ما لم يضف، أن يكون بالهاء رحمة من ربي و شجرة تخرج وما كان مضافا فجائز بالهاء والتاء، فالتاء للإضافة، والهاء لأنه يفرد ويوقف عليه دون الثاني. وهذا القول الثالث أفشى اللغات وأكثرها في العرب، وإن كان للأخرى وجه معروف. انتهى.

التالي السابق


الخدمات العلمية