صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 77 ] إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم .

إن الذين يشترون أي : يستبدلون : بعهد الله أي : بما أخذهم عليه في كتابه ، أو بما عاهدوه عليه من الإيمان بالرسول المصدق لما معهم : وأيمانهم أي : التي عقدوها بالتزام متابعة الحق على ألسنة الرسل : ثمنا قليلا من الدنيا الزائلة الحقيرة التي لا نسبة لجميعها إلى أدنى ما فوتوه : أولئك لا خلاق أي : لا نصيب ثواب : لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة وذلك لحجبهم عن مقامات قربه كما قال تعالى : كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ولا يزكيهم أي : ولا يثني عليهم كما يثني على أوليائه ، أو لا يطهرهم من دنس ذنوبهم بالمغفرة : ولهم عذاب أليم أي : بالنار . واعلم أن في هذه الآية مسائل :

الأولى : قال بعض مفسري الزيدية : ثمرة الآية أن من نقض عهدا لله لغرض دنيوي ، أو حلف كاذبا ، فإنه قد ارتكب كبيرة .

الثانية : في الجمع بين قوله تعالى هنا : ولا يكلمهم الله وقوله : فوربك لنسألنهم أجمعين قال القفال : المقصود من هذه الآية بيان شدة سخط الله عليهم ، لأن من منع غيره [ ص: 870 ] كلامه فإنما ذلك بسخط عليه ، وإذا سخط إنسان على آخر قال له : لا أكلمك . وقد يأمر بحجبه عنه ، ويقول : لا أرى وجه فلان ، وإذا جرى ذكره لم يذكره بالجميل ، فثبت أن الآية كناية عن شدة الغضب ، نعوذ بالله منه . ومنهم من قال : لا يبعد أن يكون إسماع الله جل جلاله أولياءه كلامه بغير سفير تشريفا عاليا يختص به أولياءه . ولا يكلم هؤلاء الكفرة والفساق ، وتكون المحاسبة معهم بكلام الملائكة . ومنهم من قال : معنى الآية لا يكلمهم بكلام يسرهم وينفعهم ، والكل حسن .

الثالثة : روى الشيخان عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « من حلف على مال امرئ مسلم بغير حقه لقي الله وهو عليه غضبان » . قال عبد الله : ثم قرأ علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مصداقه من كتاب الله - عز وجل - : إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا إلى آخر الآية . وفي رواية قال : « من حلف على يمين صبر ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان » فأنزل الله تصديق ذلك : إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا الآية . فدخل الأشعث بن قيس الكندي فقال : ما يحدثكم أبو عبد الرحمن ؟ قلنا : كذا وكذا ، فقال : صدق ، في نزلت ، كان بيني وبين رجل خصومة في بئر ، فاختصمنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « شاهداك أو يمينه » . قلت : إنه إذا يحلف ولا يبالي ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان » ونزلت : إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا إلى آخر الآية .

وأخرجه الترمذي وأبو داود وقالا : إن الحكومة كانت بين الأشعث وبين رجل يهودي .

[ ص: 871 ] وروى البخاري عن عبد الله بن أبي أوفى أن رجلا أقام سلعة وهو في السوق ، فحلف بالله : لقد أعطى بها ما لم يعطه ، ليوقع فيها رجلا من المسلمين ، فنزلت : إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا إلى آخر الآية . وقدمنا في مقدمة التفسير ، في بحث سبب النزول ، وفي سورة البقرة أيضا عند آية : من كان عدوا لجبريل ما يعلم به الجمع بين مثل هذه الروايات ، وأنه لا تنافي . فتذكر .

التالي السابق


الخدمات العلمية