صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 16 - 17 ] ثم إنهم لصالو الجحيم ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون

ثم إنهم لصالو الجحيم أي: محترقون بها. وقد أشار القاشاني إلى سر ترادف هذه الجمل الكريمة، بأن ما اكتسبوه من الذنوب لما صار كالصدأ على قلوبهم بالرسوخ فيها، كدر جوهرها وغيرها عن طباعها، فعندها تحقق الحجاب وانغلق باب المغفرة، ولذلك قال:

كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون لامتناع قبول قلوبهم للنور، وامتناع عودها إلى الصفاء الأول الفطري، كالماء الكبريتي مثلا; إذ لو روق أو صعد لما رجع إلى الطبيعة المائية المبردة، لاستحالة جوهرها، بخلاف الماء المسخن الذي استحالت كيفيته دون طبيعته ولهذا استحقوا الخلود في العذاب. وحكم عليهم بقوله: ثم إنهم لصالو الجحيم انتهى.

قال ابن القيم في (بدائع الفوائد) في هذه الآية ما مثاله: جمع لهم سبحانه بين العذابين عذاب الحجاب وعذاب النار، فألم الحجاب يفعل في قلوبهم وأرواحهم نظير ما تفعله النار في أجسامهم، كحال من حيل بينه وبين أحب الأشياء إليه في الدنيا، وأخذ بأشد العذاب، فإن أخص عذاب الروح أن تتعلق بمحبوب لا غنى لها عنه، وهي ممنوعة من الوصول إليه، فكيف إن حصل لها -مع تواري المحبوب عنها وطول احتجابه- بغضه لها ومقته وطرده وغضبه الشديد عليها؟ فأي نسبة لألم البدن إلى هذا الألم الذي لا يتصوره إلا من بلي به أو بشيء منه؟ فلو توهمت النفوس ما في احتجاب الله سبحانه عنها يوم لقائه من الألم والحسرة، لما تعرضت لأسباب ذلك الاحتجاب. وأنت ترى المحبين في الدنيا لصورة، منتهى حسنها إلى ما يعلم، كيف يضجون من ألم احتجاب محبوبهم عنهم وإعراضه وهجره؟ ويرى أحدهم كالموت أو أشد منه من بين ساعة، كما قال:


وكنت أرى كالموت من بين ليلة فكيف ببين كان ميعاده الحشر



[ ص: 6098 ] وإنما يتبين الحال في هذا بمعرفة ما خلقت له الروح وما هيئت له وما فطرت عليه، وما لا سعادة لها ولا نعيم ولا حياة إلا بإدراكه.

فاعلم أن الله سبحانه خلق كل عضو من الأعضاء لغاية ومنفعة، فكماله ولذته في أن يحصل فيه ما خلق له، فخلق العين للإبصار، والأذن للسمع، والأنف للشم، واللسان للنطق، واليد للبطش، والرجل للمشي، والروح لمعرفته ومحبته والابتهاج بقربه والتنعم بذكره، وجعل هذا كمالها وغايتها، فإذا تعطلت من ذلك كانت أسوأ حالا من العين والأذن واللسان واليد والرجل التي تعطلت عما خلقت له، وحيل بينها وبينه. بل لا نسبة لألم هذه الروح إلى ألم تلك الأعضاء المعطلة البتة، بل ألمها أشد الألم، وهو من جنس ألمها إذا فقدت أحب الأشياء إليها وأعزه عليها، وحيل بينها وبينه، وشاهدت غيرها قد ظفر بوصله وفاز بقربه ورضاه. والروح لا حياة لها ولا نعيم ولا سرور ولا لذة إلا بأن يكون الله وحده هو معبودها وإلهها ومرادها، الذي لا تقر عينها إلا بقربه والأنس به والعكوف بكليتها على محبته والشوق إلى لقائه، فهذا غاية كمالها وأعظم نعيمها وجنتها العاجلة في الدنيا، فإذا كان يوم لقائه كان أعظم نعيمها رفع الحجاب [ ص: 6099 ] الذي كان يحجبها في الدنيا عن رؤية وجهه وسماع كلامه، وفي حديث الرؤية: « فوالله ما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إلى وجهه » .

ثم قال: وكما جمع سبحانه لأعدائه بين هذين العذابين، وهما ألم الحجاب وألم العذاب، جمع لمحبيه بين نوعي النعيم: نعيم القرب والنظر، ونعيم الأكل والشرب، والنكاح والتمتع بما في الجنة، في قوله: ولقاهم نضرة وسرورا الآيات.

ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون أي: في الدنيا. قال الإمام: تبكيتا لهم وزيادة في التنكيل بهم، فإن أشد شيء على الإنسان، إذا أصابه مكروه أن يذكر وهو يتألم له: بأن وسائل النجاة من مصابه كانت بين يديه فأهملها، وأسباب التقصي عنه كانت في مكنته فأغفلها.

التالي السابق


الخدمات العلمية