صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 12 - 21 ] إن علينا للهدى وإن لنا للآخرة والأولى فأنذرتكم نارا تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى

[ ص: 6178 ] إن علينا للهدى استئناف مقرر لما قبله، أي: علينا بموجب قضائنا المبني على الحكم البالغة، حيث خلقنا الخلق للإصلاح في الأرض، أن نبين لهم طريق الهدى ليجتنبوا مواقع الردى. وقد فعل سبحانه ذلك بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، والتمكين من الاستدلال والاستبصار، بخلق العقل وهبة الاختيار.

وإن لنا للآخرة والأولى أي: ملكا وخلقا، فلا يضرنا توليكم عن الهدى; وذلك لغناه تعالى المطلق، وتفرده بملك ما في الدارين، وكونه في قبضة تصرفه، لا يحول بينه وبينه أحد، ولا يحصله أحد، حتى يضر عدم اهتدائه أو ينفع اهتداؤه. وفيه إشارة على تناهي عظمته وتكامل قهره وجبروته. وإن من كان كذلك، فجدير أن يبادر لطاعته ويحذر من معصيته; ولذا رتب عليه قوله: فأنذرتكم نارا تلظى أي: تتلظى وتتوهج، وهي نار الآخرة.

لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب أي: بالحق الذي جاءه وتولى أي: عن آيات ربه وبراهينها التي وضح أمرها وبهر نورها، عنادا وكفرا.

وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى أي: ينفق ماله في سبيل الخير، يتزكى عن رجس البخل ودنس الإمساك.

وما لأحد عنده من نعمة تجزى أي: من يد يكافئه عليها، أي: لا يؤتيه للمكافأة والمعارضة.

إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى أي: لكن يؤتيه ابتغاء وجه ربه وطلب مرضاته. لا لغرض آخر من مكافأة أو محمدة أو سمعة. وفي حصر "الأتقى" بالمنفق، على الشريطة المذكورة، عناية عظيمة به، وترغيب شديد في اللحاق به، كيف لا؟ وبالمال قوام الأعمال، ورفع مباني الرشاد وهدم صروح الفساد. وقوله تعالى: ولسوف يرضى قال ابن جرير : أي: ولسوف يرضى هذا المؤتي ماله في حقوق الله عز وجل، يتزكى بما يثيبه الله في الآخرة عوضا مما أتى في الدنيا في سبيله إذا لقي ربه تبارك وتعالى; ففيه وعد كريم بنيل جميع ما يبتغيه على أكمل الوجوه وأجملها، إذ به يتحقق الرضا. وهذا على أن ضمير "يرضى" لـ "الأتقى" لا للرب. قال الشهاب: وهو الأنسب بالسياق واتساق الضمائر.

[ ص: 6179 ] وذهب بعضهم إلى الثاني، ومنهم الإمام، قال: أي: ولسوف يرضى الله عن ذلك الأتقى الطالب بصفة رضاه، (ثم قال): والتعبير بـ (سوف); لإفادة أن الرضا يحتاج إلى بذل كثير، ولا يكفي القليل من المال، لأن يبلغ العبد درجة الرضا الإلهي.

تنبيه:

قال ابن كثير : ذكر غير واحد من المفسرين أن هذه الآيات نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، حتى إن بعضهم حكى الإجماع من المفسرين على ذلك. ولا شك أنه داخل فيها وأولى الأمة بعمومها; فإن اللفظ لفظ العموم وهو قوله تعالى: وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى

ولكنه مقدم الأمة وسابقهم في جميع هذه الأوصاف وسائر الأوصاف الحميدة، فإنه كان صديقا تقيا كريما جوادا بذالا لأمواله في طاعة مولاه ونصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكم من دراهم ودنانير بذلتها ابتغاء وجه ربه الكريم. ولم يكن لأحد من الناس عنده منة يحتاج إلى أن يكافئه بها، ولكن كان فضله وإحسانه على السادات والرؤساء من سائر القبائل. ولهذا قال له عروة بن مسعود -وهو سيد ثقيف- يوم صلح الحديبية: أما والله! لولا يد لك عندي لم أجزك بها، لأجبتك. وكان الصديق قد أغلظ له في المقالة. فإذا كان هذا حاله مع سادات العرب ورؤساء القبائل، فكيف بمن عداهم؟ وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « من أنفق زوجين في سبيل الله دعته خزنة الجنة: يا عبد الله هذا خير » . فقال أبو بكر : يا رسول الله! ما على من يدعى منها ضرورة، فهل يدعى منها كلها أحد؟ قال: « نعم، وأرجو أن تكون منهم » . انتهى.

التالي السابق


الخدمات العلمية