صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 7 - 8 ] إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه

إن الذين آمنوا أي: بالله ورسوله محمد صلوات الله عليه وعملوا الصالحات أي: من بذل النفس في سبيل الجهاد للحق، وبذل المال في أعمال البر، مع القيام بفرائض العبادات، والإخلاص في سائر ضروب المعاملات; لأن إذعانهم الصحيح، ووجدانهم لذة معرفة الحق، ملكت الحق قيادهم فعملوا الأعمال الصالحة، قاله الإمام أولئك هم خير [ ص: 6230 ] البرية أي: أفضل الخليقة، لأنهم بمتابعة الحق عند معرفته بالدليل القائم عليه، قد حققوا لأنفسهم معنى الإنسانية التي شرفهم الله بها. وبالعمل الصالح، قد حفظوا نظام الفضيلة الذي جعله الله قوام الوجود الإنساني، وهدوا غيرهم بحسن الأسوة إلى مثل ما هدوا إليه من الخير والسعادة، فمن يكون أفضل منهم؟ قاله الإمام.

جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار أي: بساتين إقامة، لا ظعن فيها، تجري من تحت أشجارها وغرفها الأنهار خالدين فيها أبدا أي: ماكثين على الدوام، لا يخرجون عنها ولا يموتون فيها رضي الله عنهم أي: بما أطاعوه في الدنيا، وعملوا لخلوصهم من عقابه ذلك ورضوا عنه لأنهم بحسن يقينهم يرتاحون إلى امتثال ما يأمر به في الدنيا، فهم راضون عنه. ثم إذا ذهبوا إلى نعم الآخرة، وجدوا من فضل الله ما لا محل للسخط معه، فهم راضون عن الله في كل حال. أفاده الإمام.

ذلك أي: هذا الجزاء الحسن وهذا الرضاء لمن خشي ربه أي: خاف الله في الدنيا في سره وعلانيته، فاتقاه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه; فإن الخشية ملاك السعادة الحقيقية.

قال الإمام: أراد بهذه الكلمة الرفيعة الاحتياط لدفع سوء الفهم، الذي وقع ولا يزال يقع فيه العامة من الناس، بل الخاصة كذلك، وهو أن مجرد الاعتقاد بالوراثة وتقليد الأبوين، ومعرفة ظواهر بعض الأحكام، وأداء بعض العبادات، كحركات الصلاة وإمساك الصوم، مجرد هذا لا يكفي في نيل ما أعد الله من الجزاء للذين آمنوا وعملوا الصالحات، وإن كانت قلوبهم حشوها الحسد والحقد والكبرياء والرياء، وأفواههم ملؤها الكذب والنميمة والافتراء، وتهز أعطافهم رياح العجب والخيلاء، وسرائرهم مسكن العبودية والرق للأمراء، بل ولمن دون الأمراء، خالية من أقل مراتب الخشوع والإخلاص لرب الأرض والسماء -كلا لا ينالون حسن الجزاء; فإن خشية ربهم لم تحل قلوبهم، ولهذا لم تهذب من نفوسهم، ولا يكون ذلك الجزاء إلا لمن خشي ربه، وأشعر خوفه قلبه. والله أعلم.

التالي السابق


الخدمات العلمية