صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 179 ] ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء فآمنوا بالله ورسله وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم

ما كان الله ليذر أي : يترك : المؤمنين على ما أنتم عليه من الالتباس [ ص: 1045 ] بالمنافقين ، بل لا يزال يبتليكم : حتى يميز المنافق : الخبيث من المؤمن : ( الطيب و ) لا يميز إلا بهذا الابتلاء لأنه : ( وما كان الله ليطلعكم على الغيب ) أي : الذي يميز به ما في قلوب الخلق من الإيمان والكفر : ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء بإطلاعه على الغيب ، كما أوحى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بما ظهر منهم من الأقوال والأفعال ، حسبما حكى عنهم بعضه فيما سلف ، فيفضحهم على رؤوس الأشهاد ، ويخلصكم من سوء جوارهم .

قال ابن القيم : هذا استدراك لما نفاه من اطلاع خلقه على الغيب ، كما قال : عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فحظكم أنتم وسعادتكم في الإيمان بالغيب الذي يطلع عليه رسله ، فإن آمنتم به واتقيتم كان لكم أعظم الأجر والكرامة ، كما قال تعالى : فآمنوا بالله ورسله الذين اجتباهم للاقتداء بهم في الاعتقادات والأعمال : وإن تؤمنوا فتصححوا الاعتقادات : وتتقوا فتصلحوا الأعمال : فلكم أجر عظيم وههنا :

لطائف :

الأولى : في التعبير عن المؤمن والمنافق بالطيب والخبيث تسجيل على كل منهما ، بما يليق به ، وإشعار بعلة الحكم .

الثانية : إفراد الخبيث والطيب مع تعدد ما أريد بكل منهما وتكثره لا سيما بعد ذكر ما أريد بأحدهما ، أعني : المؤمنين بصيغة الجمع ، للإيذان بأن مدار إفراز أحد الفريقين من الآخر هو اتصافهما بوصفهما لا خصوصية ذاتهما وتعدد آحادهما ، كما في مثل قوله تعالى : ( ذلك أدنى [ ص: 1046 ] ألا تعولوا ) ونظيره قوله تعالى : تذهل كل مرضعة عما أرضعت حيث قصد الدلالة على الاتصاف بالوصف من غير تعرض لكون الموصوف من العقلاء أو غيرهم .

الثالثة : تعليق الميز بالخبيث المعبر به عن المنافق ، مع أن المتبادر مما سبق من عدم ترك المؤمنين على الاختلاط تعليقه بهم وإفرازهم عن المنافقين ، لما أن الميز الواقع بين الفريقين إنما هو بالتصرف في المنافقين وتغييرهم من حال إلى حال مغايرة للأولى ، مع بقاء المؤمنين على ما كانوا عليه من أصل الإيمان ، وإن ظهر مزيد إخلاصهم ، لا بالتصرف فيهم ، وتغييرهم ، من حال إلى حال أخرى ، مع بقاء المنافقين على ما هم عليه من الاستتار ، ولأن فيه مزيد تأكيد للوعيد كما أشير إليه في قوله تعالى : والله يعلم المفسد من المصلح

الرابعة : إنما لم ينسب عدم الترك إليهم ، لما أنه مشعر بالاعتناء بشأن من نسب إليه ، فإن المتبادر منه عدم الترك على حالة غير ملائمة ، كما يشهد به الذوق السليم .

[ ص: 1047 ] الخامسة : التعرض للاجتباء في قوله : يجتبي من رسله إلخ للإيذان بأن الوقوف على أمثال تلك الأسرار الغيبية ، لا يتأتى إلا ممن رشحه الله تعالى لمنصب جليل ، تقاصرت عنه همم الأمم ، واصطفاه على الجماهير لإرشادهم ، وتعميم الاجتباء لسائر الرسل - عليهم السلام - للدلالة على أن شأنه - عليه الصلاة والسلام - في هذا الباب أمر متين ، له أصل أصيل ، جار على سنة الله تعالى المسلوكة فيما بين الرسل عليهم السلام .

السادسة : تعميم الأمر في قوله تعالى : فآمنوا بالله ورسله مع أن سوق النظم الكريم للإيمان بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لإيجاب الإيمان به بالطريق البرهاني ، والإشعار بأن ذلك مستلزم للإيمان بالكل ، لأنه مصدق لما بين يديه من الرسل ، وهم شهداء بصحة نبوته - صلى الله عليه وسلم - والمأمور به الإيمان بكل ما جاء به عليه الصلاة والسلام ، فيدخل فيه تصديقه فيما أخبر به من أحوال المنافقين دخولا أوليا .

هذا ما اقتبسناه من تفسير العلامة أبي السعود رحمه الله ، وقد استقرب حمل هذه الآية الكريمة على أن تكون مسوقة لبيان الحكمة في إملائه تعالى للكفرة إثر بيان شريته لهم . فالمعنى : ما كان الله ليذر المخلصين على الاختلاط أبدا كما تركهم كذلك إلى الآن ، لسر يقتضيه ، بل يفرز عنهم المنافقين ، ولذلك فعله يومئذ ، حيث خلى الكفرة وشأنهم ، فأبرز لهم صورة الغلبة ، فأظهر من في قلوبهم مرض ، ما فيها من الخبائث وافتضحوا على رؤوس الأشهاد .

[ ص: 1048 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية