صفحة جزء
تنبيه:

حمل قوم الآية على نكاح المتعة ، قالوا: معنى قوله تعالى: فما استمتعتم به منهن أي: فمن جامعتموهن ممن نكحتموهن نكاح المتعة فآتوهن أجورهن.

قال الحافظ ابن كثير : وقد استدل بعموم هذه الآية على نكاح المتعة، ولا شك أنه كان مشروعا في ابتداء الإسلام ثم نسخ بعد ذلك.

وقد روي عن ابن عباس وطائفة من الصحابة القول بإباحتها للضرورة، وهو رواية عن الإمام أحمد ، وكان ابن عباس وأبي بن كعب وسعيد بن جبير والسدي يقرءون: (فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن فريضة) وقال مجاهد : نزلت في نكاح المتعة.

ولكن الجمهور على خلاف ذلك، والعمدة ما ثبت في الصحيحين عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نكاح المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر .

وفي صحيح مسلم [ ص: 1188 ] عن الربيع بن سبرة الجهني ، عن أبيه أنه كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا أيها الناس! إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا انتهى.

وفي "الكشاف": قيل: نزلت هذه الآية في المتعة، كان الرجل ينكح المرأة وقتا معلوما، ليلة أو ليلتين أو أسبوعا، بثبوت أو غير ذلك، ويقضي منها وطره ثم يسرحها، وسميت متعة لاستمتاعه بها، أو لتمتيعه لها بما يعطيها.

وقال الخفاجي : روي أن سعيد بن جبير قال لابن عباس رضي الله عنهما: أتدري ما صنعت بفتواك؟ قال: سارت بها الركبان وقيل فيها الشعر، كقوله:


قد قلت للشيخ لما طال مجلسه يا صاح هل لك في فتيا ابن عباس؟     هل لك في رخصة الأطراف آنسة
تكون مثواك حتى مصدر الناس؟



فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، والله! ما بهذا أفتيت ولا أحللت إلا مثل ما أحل الله الميتة والدم.

وقال الإمام شمس الدين بن القيم رضوان الله عليه في: "زاد المعاد" في الكلام على ما في غزوة الفتح من الفقه، ما نصه: ومما وقع في هذه الغزوة إباحة متعة النساء، ثم حرمها - صلى الله عليه وسلم - قبل خروجه من مكة ، واختلف في الوقت الذي حرمت فيه المتعة على أربعة أقوال:

أحدها: أنه يوم خيبر، وهذا قول طائفة من العلماء، منهم الشافعي وغيره.

والثاني: أنه عام فتح مكة ، وهذا قول ابن عيينة وطائفة.

والثالث: أنه عام حنين، وهذا في الحقيقة هو القول الثاني، لاتصال غزاة حنين بالفتح.

والرابع: أنه عام حجة الوداع، وهو وهم من بعض الرواة، سافر فيه وهمه من فتح مكة إلى حجة الوداع، وسفر الوهم من زمان إلى زمان، ومن مكان إلى مكان، ومن واقعة إلى واقعة - كثيرا ما يعرض للحفاظ فمن [ ص: 1189 ] دونهم.

والصحيح: أن المتعة إنما حرمت عام الفتح؛ لأنه قد ثبت في "صحيح مسلم " أنهم استمتعوا عام الفتح مع النبي - صلى الله عليه وسلم – بإذنه ، ولو كان التحريم زمن خيبر لزم النسخ مرتين، وهذا لا عهد بمثله في الشريعة البتة، ولا يقع مثله فيها.

وأيضا: فإن خيبر لم يكن فيها مسلمات، وإنما كن يهوديات، وإباحة نساء أهل الكتاب لم تكن ثبتت بعد، إنما أبحن بعد ذلك في سورة المائدة بقوله: اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم [المائدة: 5] وهذا متصل بقوله: اليوم أكملت لكم دينكم [المائدة: 3] وبقوله: اليوم يئس الذين كفروا من دينكم [المائدة: 3] وهذا كان في آخر الأمر بعد حجة الوداع، أو فيها، فلم تكن إباحة نساء أهل الكتاب ثابتة من خيبر، ولا كان للمسلمين رغبة في الاستمتاع بنساء عدوهم قبل الفتح، وبعد الفتح استرق من استرق منهن [ ص: 1190 ] وصرن إماء للمسلمين.

فإن قيل: فما تصنعون بما ثبت في"الصحيحين" من حديث علي بن أبي طالب : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن متعة النساء يوم خيبر، وعن أكل لحوم الحمر الإنسية وهذا صحيح صريح؟

قيل: هذا الحديث قد صحت روايته بلفظين: هذا أحدهما.

والثاني: الاقتصار على نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن نكاح المتعة، وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر، هذه رواية ابن عيينة عن الزهري .

قال قاسم بن أصبغ : قال سفيان بن عيينة : يعني أنه نهى عن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر، لا عن نكاح المتعة، ذكره أبو عمر في: "التمهيد": ثم قال: على هذا أكثر الناس، انتهى.

فتوهم بعض الرواة أن (يوم خيبر) ظرف لتحريمهن، فرواه: حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المتعة زمن خيبر، والحمر الأهلية واقتصر بعضهم على رواية بعض الحديث، فقال: حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المتعة زمن خيبر فجاء بالغلط البين.

فإن قيل: فأي فائدة في الجمع بين التحريمين، إذا لم يكونا قد وقعا في وقت واحد، وأين المتعة من تحريم الحمر؟ قيل: هذا الحديث رواه علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - محتجا به على ابن عمه عبد الله بن عباس في المسألتين، فإنه كان يبيح المتعة ولحوم الحمر، فناظره علي بن أبي طالب في المسألتين، وروى له التحريمين، وقيد تحريم الحمر بزمن خيبر، وأطلق تحريم المتعة وقال: إنك امرؤ تائه، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حرم المتعة، وحرم لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر ، كما قاله سفيان بن عيينة ، وعليه أكثر الناس، فروى الأمرين محتجا عليه بهما، لا مقيدا لهما بيوم خيبر.... والله الموفق.

ولكن ههنا نظر آخر، وهو أنه: هل حرمها تحريم الفواحش التي لا تباح بحال، أو حرمها عند الاستغناء عنها، وأباحها للمضطر؟ هذا هو الذي نظر فيه ابن عباس وقال: أنا أبحتها للمضطر كالميتة والدم، فلما توسع فيها من توسع، ولم يقف عند الضرورة، أمسك ابن عباس عن الإفتاء بحلها، ورجع عنه، وقد كان ابن مسعود يرى إباحتها ويقرأ: يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم [المائدة: 87].

[ ص: 1191 ] ففي "الصحيحين" عنه قال: كنا نغزو مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وليس لنا نساء، فقلنا: ألا نختصي؟ فنهانا عن ذلك، فرخص لنا بعد ذلك أن نتزوج المرأة بالثوب ، ثم قرأ عبد الله: يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين [المائدة: 87].

وقراءة عبد الله الآية عقيب هذا الحديث تحتمل أمرين:

أحدهما: الرد على من يحرمها، وأنها لو لم تكن من الطيبات لما أباحها رسول الله، صلى الله عليه وسلم.

والثاني: أن يكون أراد آخر هذه الآية، وهو الرد على من أباحها مطلقا، وأنه معتد، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما رخص فيها للضرورة عند الحاجة في الغزو، وعند عدم النساء، وشدة الحاجة إلى المرأة، فمن رخص فيها في الحضر مع كثرة النساء، وإمكان النكاح المعتاد، فقد اعتدى، والله لا يحب المعتدين.

فإن قيل: فكيف تصنعون بما روى مسلم في "صحيحه" من حديث جابر ، وسلمة بن الأكوع ، قالا: خرج علينا منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أذن لكم أن تستمتعوا (يعني: متعة النساء).

قيل: هذا كان زمن الفتح قبل التحريم، ثم حرمها بعد ذلك بدليل ما رواه مسلم في "صحيحه" عن سلمة بن الأكوع قال: رخص لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام أوطاس في المتعة ثلاثا، ثم نهى عنها .

(وعام أوطاس ) هو (وعام الفتح) واحد؛ لأن غزاة أوطاس متصلة بفتح مكة .

فإن قيل: فما تصنعون بما رواه [ ص: 1192 ] مسلم في: "صحيحه" عن جابر بن عبد الله ، قال: كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر حتى نهى عنها عمر في شأن عمرو بن حريث، وفيما ثبت عن عمر أنه قال: متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنا أنهى عنهما: متعة النساء ومتعة الحج؟

قيل: الناس في هذا طائفتان: طائفة تقول: إن عمر هو الذي حرمها ونهى عنها، وقد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باتباع ما سنه الخلفاء الراشدون، ولم تر هذه الطائفة تصحيح حديث سبرة بن معبد في تحريم المتعة عام الفتح، فإنه من رواية عبد الملك بن الربيع بن سبرة ، عن أبيه، عن جده، وقد تكلم فيه ابن معين ، ولم ير البخاري إخراج حديثه في: "صحيحه" مع شدة الحاجة إليه، وكونه أصلا من أصول الإسلام، ولو صح عنده لم يصبر عن إخراجه أو الاحتجاج به، قالوا: ولو صح حديث سبرة لم يخف على ابن مسعود حتى يروي أنهم فعلوها ويحتج بالآية.

وقالوا أيضا: ولو صح لم يقل عمر : إنها كانت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أنهى عنها، وأعاقب عليها، بل كان يقول: إنه - صلى الله عليه وسلم - حرمها ونهى عنها.

قالوا: ولو صح لم تفعل على عهد الصديق وهو عهد خلافة النبوة حقا.

والطائفة الثانية: رأت صحة حديث سبرة ، ولو لم يصح فقد صح حديث علي رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حرم متعة [ ص: 1193 ] النساء .

فوجب حمل حديث جابر على أن الذي أخبر عنها بفعلها لم يبلغه التحريم، ولم يكن قد اشتهر حتى كان زمن عمر - رضي الله عنه - فلما وقع فيها ظهر واشتهر، وبهذا تأتلف الأحاديث الواردة فيها، وبالله التوفيق. انتهى.

هذا، والذين حملوا الآية على بيان حكم النكاح قالوا: المراد من قوله تعالى: ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به إلخ ... أنه إذا كان المهر مقدرا بمقدار معين فلا حرج في أن تحط عنه شيئا من المهر، أو تبرئه عنه بالكلية، بالتراضي، كما تقدم وهو كقوله تعالى: فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا [النساء: 4] وقوله: إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح [البقرة: من الآية 237].

وقد روى ابن جرير عن حضرمي : أن رجالا كانوا يقرضون المهر، ثم عسى أن تدرك أحدهم العسرة، فقال الله: ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة إلخ.

يعني إن وضعت لك منه شيئا فهو لك سائغ.

وأما الذين حملوا الآية على بيان المتعة، قالوا: المراد من نفي الجناح أنه إذا انقضى أجل المتعة لم يبق للرجل على المرأة سبيل البتة، فإن قال لها: زيديني في الأيام وأزيدك في الأجرة - كانت المرأة بالخيار، إن شاءت فعلت وإن شاءت لم تفعل، فهذا هو المراد من قوله: ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة أي: من بعد المقدار المذكور أولا من الأجر والأجل، أفاده الرازي .

قال السدي : إن شاء أرضاها من بعد الفريضة الأولى، يعني الأجر الذي أعطاها على تمتعه بها قبل انقضاء الأجل بينهما، فقال: أتمتع منك أيضا بكذا وكذا، فإن شاء زاد قبل أن يستبرئ رحمها يوم تنقضي المدة، وهو قوله تعالى: ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة

قال السدي : إذا انقضت المدة فليس عليها سبيل، وهي منه بريئة، وعليها أن تستبرئ ما في رحمها، وليس بينهما ميراث، فلا يرث واحد منهما صاحبه.

[ ص: 1194 ] قال ابن جرير الطبري : أولى التأويلين في ذلك بالصواب التأويل الأول؛ لقيام الحجة بتحريم الله تعالى متعة النساء على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انتهى.

قال المهايمي : ثم أشار تعالى إلى نكاح ما يستباح للضرورة كنكاح المتعة، لكنها ضرورة مستمرة لا تنقطع بكثرة الإسلام فقال:

التالي السابق


الخدمات العلمية