صفحة جزء
[ ص: 237 ] سئل شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - عن قول النبي صلى الله عليه وسلم { دعوة أخي ذي النون : { لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين } .

ما دعا بها مكروب إلا فرج الله كربته
} ما معنى هذه الدعوة ؟ ولم كانت كاشفة للكرب ؟ وهل لها شروط باطنة عند النطق بلفظها ؟ وكيف مطابقة اعتقاد القلب لمعناها . حتى يوجب كشف ضره ؟ وما مناسبة ذكره : { إني كنت من الظالمين } مع أن التوحيد . يوجب كشف الضر ؟ وهل يكفيه اعترافه . أم لا بد من التوبة والعزم في المستقبل ؟ وما هو السر في أن كشف الضر وزواله يكون عند انقطاع الرجاء عن الخلق والتعلق بهم ؟ وما الحيلة في انصراف القلب عن الرجاء للمخلوقين والتعلق بهم بالكلية وتعلقه بالله تعالى ورجائه وانصرافه إليه بالكلية وما السبب المعين على ذلك ؟ ؟ .


( فأجاب ) الحمد لله رب العالمين . لفظ " الدعاء والدعوة " في القرآن يتناول معنيين . دعاء العبادة . [ ص: 238 ] ودعاء المسألة . قال الله تعالى : { فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين } وقال تعالى : { ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون } وقال تعالى : { ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو } وقال : { وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا } وقال { إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا } وقال تعالى : { له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه } وقال تعالى : { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون } وقال في آخر السورة : { قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم } .

قيل : لولا دعاؤكم إياه وقيل لولا دعاؤه إياكم . فإن المصدر يضاف إلى الفاعل تارة وإلى المفعول تارة ولكن إضافته إلى الفاعل أقوى ; لأنه لا بد له من فاعل فلهذا كان هذا أقوى القولين ؟ أي ما يعبأ بكم لولا أنكم تدعونه فتعبدونه وتسألونه : { فقد كذبتم فسوف يكون لزاما } أي عذاب لازم للمكذبين . ولفظ " الصلاة في اللغة " أصله الدعاء وسميت الصلاة دعاء لتضمنها معنى الدعاء وهو العبادة والمسألة . [ ص: 239 ] وقد فسر قوله تعالى { ادعوني أستجب لكم } بالوجهين قيل : اعبدوني وامتثلوا أمري أستجب لكم . كما قال تعالى : { ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات } أي يستجيب لهم وهو معروف في اللغة يقال : استجابه واستجاب له كما قال الشاعر :

وداع دعا يا من يجيب إلى الندى فلم يستجبه عند ذاك مجيب

وقيل : سلوني أعطكم . وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول : من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له } فذكر أولا لفظ الدعاء ثم ذكر السؤال والاستغفار . والمستغفر سائل كما أن السائل داع ; لكن ذكر السائل لدفع الشر بعد السائل الطالب للخير وذكرهما جميعا بعد ذكر الداعي الذي يتناولهما وغيرهما فهو من باب عطف الخاص على العام . وقال تعالى : { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان } .

وكل سائل راغب راهب فهو عابد للمسئول وكل عابد له [ ص: 240 ] فهو أيضا راغب وراهب يرجو رحمته ويخاف عذابه فكل عابد سائل وكل سائل عابد . فأحد الاسمين يتناول الآخر عند تجرده عنه ولكن إذا جمع بينهما : فإنه يراد بالسائل الذي يطلب جلب المنفعة ودفع المضرة بصيغ السؤال والطلب . ويراد بالعابد من يطلب ذلك بامتثال الأمر وإن لم يكن في ذلك صيغ سؤال . والعابد الذي يريد وجه الله والنظر إليه هو أيضا راج خائف راغب راهب : يرغب في حصول مراده ويرهب من فواته .

قال تعالى : { إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا } وقال تعالى : { تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا } ولا يتصور أن يخلو داع لله - دعاء عبادة أو دعاء مسألة - من الرغب والرهب من الخوف والطمع . وما يذكر عن بعض الشيوخ أنه جعل الخوف والرجاء من مقامات العامة فهذا قد يفسر مراده بأن المقربين يريدون وجه الله فيقصدون التلذذ بالنظر إليه وإن لم يكن هناك مخلوق يتلذذون به وهؤلاء يرجون حصول هذا المطلوب ويخافون حرمانه فلم يخلوا عن الخوف والرجاء لكن مرجوهم ومخوفهم بحسب مطلوبهم . ومن قال من هؤلاء : لم أعبدك شوقا إلى جنتك ولا خوفا من نارك [ ص: 241 ] فهو يظن أن الجنة اسم لما يتمتع فيه بالمخلوقات والنار اسم لما لا عذاب فيه إلا ألم المخلوقات وهذا قصور وتقصير منهم عن فهم مسمى الجنة بل كل ما أعده الله لأوليائه فهو من الجنة والنظر إليه هو من الجنة ولهذا كان أفضل الخلق يسأل الله الجنة ويستعيذ به من النار ولما سأل بعض أصحابه عما يقول في صلاته { قال : إني أسأل الله الجنة وأعوذ بالله من النار أما إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ فقال : حولها ندندن } وقد أنكر على من قال هذا الكلام يعني أسألك لذة النظر إلى وجهك فريق من أهل الكلام ظنوا أن الله لا يتلذذ بالنظر إليه وأنه لا نعيم إلا بمخلوق .

فغلط هؤلاء في معنى الجنة كما غلط أولئك لكن أولئك طلبوا ما يستحق أن يطلب وهؤلاء أنكروا ذلك . وأما التألم بالنار فهو أمر ضروري ومن قال : لو أدخلني النار لكنت راضيا فهو عزم منه على الرضا . والعزائم قد تنفسخ عند وجود الحقائق ومثل هذا يقع في كلام طائفة مثل سمنون الذي قال :

وليس لي في سواك حظ     فكيفما شئت فامتحني

فابتلي بعسر البول فجعل يطوف على صبيان المكاتب ويقول : ادعوا لعمكم الكذاب . قال تعالى : { ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون } .

[ ص: 242 ] وبعض من تكلم في علل المقامات جعل الحب والرضا والخوف والرجاء من مقامات العامة بناء على مشاهدة القدر وأن من شهد القدر فشهد توحيد الأفعال حتى فني من لم يكن وبقي من لم يزل يخرج عن هذه الأمور وهذا كلام مستدرك حقيقة وشرعا .

أما الحقيقة فإن الحي لا يتصور أن لا يكون حساسا محبا لما يلائمه مبغضا لما ينافره ومن قال إن الحي يستوي عنده جميع المقدورات فهو أحد رجلين : إما أنه لا يتصور ما يقول بل هو جاهل وإما أنه مكابر معاند ولو قدر أن الإنسان حصل له حال أزال عقله - سواء سمي اصطلاما أو محوا أو فناء أو غشيا أو ضعفا - فهذا لم يسقط إحساس نفسه بالكلية بل له إحساس بما يلائمه وما ينافره وإن سقط إحساسه ببعض الأشياء فإنه لم يسقط بجميعها . فمن زعم أن المشاهد لتوحيد الربوبية يدخل إلى مقام الجمع والفناء فلا يشهد فرقا فإنه غالط بل لا بد من الفرق فإنه أمر ضروري . لكن إذا خرج عن الفرق الشرعي بقي في الفرق الطبعي فيبقى متبعا لهواه لا مطيعا لمولاه .

[ ص: 243 ] ولهذا لما وقعت " هذه المسألة " بين الجنيد وأصحابه ذكر لهم " الفرق الثاني " وهو : أن يفرق بين المأمور والمحظور وبين ما يحبه الله وما يكرهه مع شهوده للمقدر الجامع فيشهد الفرق في القدر الجامع . ومن لم يفرق بين المأمور والمحظور خرج عن دين الإسلام . وهؤلاء الذين يتكلمون في الجمع لا يخرجون عن الفرق الشرعي بالكلية وإن خرجوا عنه كانوا كفارا من شر الكفار وهم الذين يخرجون إلى التسوية بين الرسل وغيرهم ثم يخرجون إلى القول بوحدة الوجود فلا يفرقون بين الخالق والمخلوق ; ولكن ليس كل هؤلاء ينتهون إلى هذا الإلحاد بل يفرقون من وجه دون وجه فيطيعون الله ورسوله تارة ويعصون الله ورسوله تارة كالعصاة من أهل القبلة . وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع .

والمقصود هنا : أن لفظ " الدعوة والدعاء " يتناول هذا وهذا قال الله تعالى : { وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين } وفي الحديث : { أفضل الذكر لا إله إلا الله وأفضل الدعاء الحمد لله } رواه ابن ماجه وابن أبي الدنيا .

وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره : { دعوة أخي ذي النون { لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين } ما دعا بها مكروب إلا فرج الله كربته } سماها " دعوة " لأنها تتضمن نوعي الدعاء . فقوله لا إله إلا أنت اعتراف بتوحيد الإلهية . [ ص: 244 ] وتوحيد الإلهية يتضمن أحد نوعي الدعاء فإن الإله هو المستحق لأن يدعى دعاء عبادة ودعاء مسألة وهو الله لا إله إلا هو . وقوله : { إني كنت من الظالمين } اعتراف بالذنب وهو يتضمن طلب المغفرة فإن الطالب السائل تارة يسأل بصيغة الطلب وتارة يسأل بصيغة الخبر إما بوصف حاله وإما بوصف حال المسئول وإما بوصف الحالين .

كقول نوح عليه السلام { رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين } فهذا ليس صيغة طلب وإنما هو إخبار عن الله أنه إن لم يغفر له ويرحمه خسر . ولكن هذا الخبر يتضمن سؤال المغفرة وكذلك قول آدم عليه السلام { ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين } هو من هذا الباب ومن ذلك قول موسى عليه السلام { رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير } فإن هذا وصف لحاله بأنه فقير إلى ما أنزل الله إليه من الخير وهو متضمن لسؤال الله إنزال الخير إليه .

وقد روى الترمذي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { من شغله قراءة القرآن عن ذكري ومسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين } رواه الترمذي وقال حديث حسن ورواه مالك بن الحويرث [ ص: 245 ] وقال : { من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين } وأظن البيهقي رواه مرفوعا بهذا اللفظ .

وقد سئل سفيان بن عيينة عن قوله : { أفضل الدعاء يوم عرفة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير } فذكر هذا الحديث وأنشد قول أمية بن أبي الصلت يمدح ابن جدعان .

أأذكر حاجتي أم قد كفاني     حياؤك إن شيمتك الحياء
إذا أثنى عليك المرء يوما     كفاه من تعرضه الثناء

قال : فهذا مخلوق يخاطب مخلوقا فكيف بالخالق تعالى . ومن هذا الباب الدعاء المأثور عن موسى عليه السلام " اللهم لك الحمد وإليك المشتكى وأنت المستعان وبك المستغاث وعليك التكلان " فهذا خبر يتضمن السؤال .

ومن هذا الباب قول أيوب عليه السلام { أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين } فوصف نفسه ووصف ربه بوصف يتضمن سؤال رحمته بكشف ضره وهي صيغة خبر تضمنت السؤال . وهذا من باب حسن الأدب في السؤال والدعاء فقول القائل لمن يعظمه ويرغب إليه : أنا جائع أنا [ ص: 246 ] مريض حسن أدب في السؤال . وإن كان في قوله أطعمني وداوني ونحو ذلك مما هو بصيغة الطلب طلب جازم من المسئول فذاك فيه إظهار حاله وإخباره على وجه الذل والافتقار المتضمن لسؤال الحال وهذا فيه الرغبة التامة والسؤال المحض بصيغة الطلب .

وهذه الصيغة " صيغة الطلب والاستدعاء " إذا كانت لمن يحتاج إليه الطالب أو ممن يقدر على قهر المطلوب منه ونحو ذلك فإنها تقال على وجه الأمر : إما لما في ذلك من حاجة الطالب وإما لما فيه من نفع المطلوب فأما إذا كانت من الفقير من كل وجه للغني من كل وجه فإنها سؤال محض بتذلل وافتقار وإظهار الحال . ووصف الحاجة والافتقار هو سؤال بالحال وهو أبلغ من جهة العلم والبيان .

وذلك أظهر من جهة القصد والإرادة فلهذا كان غالب الدعاء من القسم الثاني ; لأن الطالب السائل يتصور مقصوده ومراده فيطلبه ويسأله فهو سؤال بالمطابقة والقصد الأول وتصريح به باللفظ وإن لم يكن فيه وصف لحال السائل والمسئول فإن تضمن وصف حالهما كان أكمل من النوعين فإنه يتضمن الخبر والعلم المقتضي للسؤال والإجابة ; ويتضمن القصد والطلب الذي هو نفس السؤال فيتضمن السؤال والمقتضي له والإجابة [ ص: 247 ] كقول النبي صلى الله عليه وسلم { لأبي بكر الصديق رضي الله عنها لما قال : له علمني دعاء أدعو به في صلاتي فقال : قل : اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم } . أخرجاه في الصحيحين . فهذا فيه وصف العبد لحال نفسه المقتضي حاجته إلى المغفرة وفيه وصف ربه الذي يوجب أنه لا يقدر على هذا المطلوب غيره وفيه التصريح بسؤال العبد لمطلوبه وفيه بيان المقتضي للإجابة وهو وصف الرب بالمغفرة والرحمة فهذا ونحوه أكمل أنواع الطلب .

وكثير من الأدعية يتضمن بعض ذلك . كقول موسى عليه السلام { أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين } فهذا طلب ووصف للمولى بما يقتضي الإجابة . وقوله : { رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي } فيه وصف حال النفس والطلب . وقوله : { إني لما أنزلت إلي من خير فقير } فيه الوصف المتضمن للسؤال بالحال فهذه أنواع لكل نوع منها خاصة . يبقى أن يقال فصاحب الحوت ومن أشبهه لماذا ناسب حالهم صيغة الوصف والخبر دون صيغة الطلب ؟ . [ ص: 248 ] فيقال : لأن المقام مقام اعتراف بأن ما أصابني من الشر كان بذنبي فأصل الشر هو الذنب والمقصود دفع الضر والاستغفار جاء بالقصد الثاني فلم يذكر صيغة طلب كشف الضر لاستشعاره أنه مسيء ظالم وهو الذي أدخل الضر على نفسه فناسب حاله أن يذكر ما يرفع سببه من الاعتراف بظلمه ولم يذكر صيغة طلب المغفرة ; لأنه مقصود للعبد المكروب بالقصد الثاني ; بخلاف كشف الكرب فإنه مقصود له في حال وجوده بالقصد الأول إذ النفس بطبعها تطلب ما هي محتاجة إليه من زوال الضرر الحاصل من الحال قبل طلبها زوال ما تخاف وجوده من الضرر في المستقبل بالقصد الثاني والمقصود الأول في هذا المقام هو المغفرة وطلب كشف الضر فهذا مقدم في قصده وإرادته وأبلغ ما ينال به رفع سببه فجاء بما يحصل مقصوده .

وهذا يتبين بالكلام على قوله : ( سبحانك ) فإن هذا اللفظ يتضمن تعظيم الرب وتنزيهه والمقام يقتضي تنزيهه عن الظلم والعقوبة بغير ذنب يقول : أنت مقدس ومنزه عن ظلمي وعقوبتي بغير ذنب ; بل أنا الظالم الذي ظلمت نفسي . قال تعالى : { وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } وقال تعالى : { وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم } وقال : { وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين } وقال آدم عليه السلام { ربنا ظلمنا أنفسنا } .

[ ص: 249 ] وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي في مسلم في دعاء الاستفتاح { اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت أنت ربي وأنا عبدك ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي ذنوبي جميعا فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت } وفي صحيح البخاري { سيد الاستغفار أن يقول العبد : اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت من قالها إذا أصبح موقنا بها فمات من يومه دخل الجنة ومن قالها إذا أمسى موقنا بها فمات من ليلته دخل الجنة } . فالعبد عليه أن يعترف بعدل الله وإحسانه فإنه لا يظلم الناس شيئا فلا يعاقب أحدا إلا بذنبه وهو يحسن إليهم فكل نقمة منه عدل وكل نعمة منه فضل .

فقوله : { لا إله إلا أنت } فيه إثبات انفراده بالإلهية والإلهية تتضمن كمال علمه وقدرته ورحمته وحكمته ففيها إثبات إحسانه إلى العباد فإن " الإله " هو المألوه والمألوه هو الذي يستحق أن يعبد وكونه يستحق أن يعبد هو بما اتصف به من الصفات التي تستلزم أن يكون هو المحبوب غاية الحب المخضوع له غاية الخضوع ; والعبادة تتضمن غاية الحب بغاية الذل . [ ص: 250 ] وقوله : ( سبحانك ) يتضمن تعظيمه وتنزيهه عن الظلم وغيره من النقائض ; فإن التسبيح وإن كان يقال : يتضمن نفي النقائص وقد روي في حديث مرسل من مراسيل موسى بن طلحة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول العبد : سبحان الله : { إنها براءة الله من السوء } فالنفي لا يكون مدحا إلا إذا تضمن ثبوتا وإلا فالنفي المحض لا مدح فيه ونفي السوء والنقص عنه يستلزم إثبات محاسنه وكماله ولله الأسماء الحسنى . وهكذا عامة ما يأتي به القرآن في نفي السوء والنقص عنه يتضمن إثبات محاسنه وكماله .

كقوله تعالى : { الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم } فنفي أخذ السنة والنوم له يتضمن كمال حياته وقيوميته وقوله : { وما مسنا من لغوب } يتضمن كمال قدرته ونحو ذلك . فالتسبيح المتضمن تنزيهه عن السوء ونفي النقص عنه يتضمن تعظيمه . ففي قوله : ( سبحانك ) تبرئته من الظلم وإثبات العظمة الموجبة له براءته من الظلم فإن الظالم إنما يظلم لحاجته إلى الظلم أو لجهله والله غني عن كل شيء عليم بكل شيء وهو غني بنفسه وكل ما سواه فقير إليه وهذا كمال العظمة .

وأيضا ففي هذا الدعاء التهليل والتسبيح فقوله : { لا إله إلا أنت } تهليل . وقوله : { سبحانك } تسبيح . وقد ثبت في الصحيح عن [ ص: 251 ] النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { أفضل الكلام بعد القرآن أربع . وهن من القرآن . سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر } . والتحميد مقرون بالتسبيح وتابع له والتكبير مقرون بالتهليل وتابع له وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم { أنه سئل أي الكلام أفضل ؟ قال : ما اصطفى الله لملائكته سبحان الله وبحمده } وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن : سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم } وفي القرآن { فسبح بحمد ربك } وقالت الملائكة : { ونحن نسبح بحمدك } .

وهاتان الكلمتان إحداهما مقرونة بالتحميد والأخرى بالتعظيم فإنا قد ذكرنا أن التسبيح فيه نفي السوء والنقائص المتضمن إثبات المحاسن والكمال والحمد إنما يكون على المحاسن . وقرن بين الحمد والتعظيم كما قرن بين الجلال والإكرام إذ ليس كل معظم محبوبا محمودا ولا كل محبوب محمودا معظما وقد تقدم أن العبادة تتضمن كمال الحب المتضمن معنى الحمد وتتضمن كمال الذل المتضمن معنى التعظيم ففي العبادة حبه وحمده على المحاسن وفيها الذل له الناشئ عن عظمته وكبريائه . ففيها إجلاله وإكرامه . وهو سبحانه المستحق للجلال والإكرام فهو مستحق غاية الإجلال وغاية الإكرام .

[ ص: 252 ] ومن الناس من يحسب أن " الجلال " هو الصفات السلبية و " الإكرام " الصفات الثبوتية كما ذكر ذلك الرازي ونحوه والتحقيق أن كليهما صفات ثبوتية وإثبات الكمال يستلزم نفي النقائض لكن ذكر نوعي الثبوت وهو ما يستحق أن يحب وما يستحق أن يعظم : كقوله : { إن الله هو الغني الحميد } وقول سليمان عليه السلام { فإن ربي غني كريم } وكذلك قوله : { له الملك وله الحمد } فإن كثيرا ممن يكون له الملك والغنى لا يكون محمودا بل مذموما إذ الحمد يتضمن الإخبار عن المحمود بمحاسنه المحبوبة فيتضمن إخبارا بمحاسن المحبوب محبة له . وكثير ممن له نصيب من الحمد والمحبة يكون فيه عجز وضعف وذل ينافي العظمة والغنى والملك . فالأول يهاب ويخاف ولا يحب . وهذا يحب ويحمد ولا يهاب ولا يخاف . والكمال اجتماع الوصفين .

كما ورد في الأثر { إن المؤمن رزق حلاوة ومهابة } وفي نعت النبي صلى الله عليه وسلم { كان من رآه بديهة هابه ومن خالطه معرفة أحبه } . فقرن التسبيح بالتحميد وقرن التهليل بالتكبير ; كما في كلمات الأذان . ثم إن كل واحد من النوعين يتضمن الآخر إذا أفرد : فإن التسبيح والتحميد يتضمن التعظيم ; ويتضمن إثبات ما يحمد عليه وذلك يستلزم الإلهية فإن الإلهية تتضمن كونه محبوبا ; بل تتضمن أنه لا يستحق كمال الحب إلا هو . والحمد هو الإخبار عن المحمود بالصفات التي يستحق أن يحب فالإلهية [ ص: 253 ] تتضمن كمال الحمد ; ولهذا كان " الحمد لله " مفتاح الخطاب ; وكل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم " وسبحان الله " فيها إثبات عظمته كما قدمناه ; ولهذا قال : { فسبح باسم ربك العظيم

} وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم { اجعلوها في ركوعكم } رواه أهل السنن وقال { أما الركوع فعظموا فيه الرب وأما السجود فاجتهدوا فيه بالدعاء فقمن أن يستجاب لكم } رواه مسلم . فجعل التعظيم في الركوع أخص منه بالسجود والتسبيح يتضمن التعظيم . ففي قوله " سبحان الله وبحمده " إثبات تنزيهه وتعظيمه وإلهيته وحمده . وأما قوله : " لا إله إلا الله والله أكبر " ففي لا إله إلا الله [ إثبات ] محامده فإنها كلها داخلة في إثبات إلهيته

وفي قوله : " الله أكبر " إثبات عظمته فإن الكبرياء تتضمن العظمة ولكن الكبرياء أكمل . ولهذا جاءت الألفاظ المشروعة في الصلاة والأذان بقول : " الله أكبر " فإن ذلك أكمل من قول الله أعظم كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { يقول الله تعالى الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحدا منهما عذبته } فجعل العظمة كالإزار والكبرياء كالرداء ومعلوم أن الرداء أشرف فلما كان التكبير أبلغ من التعظيم صرح بلفظه وتضمن ذلك التعظيم وفي قوله : سبحان الله صرح فيها بالتنزيه من السوء المتضمن للتعظيم فصار كل من الكلمتين [ ص: 254 ] متضمنا معنى الكلمتين الأخريين إذا أفردتا وعند الاقتران تعطى كل كلمة خاصيتها .

وهذا كما أن كل اسم من أسماء الله فإنه يستلزم معنى الآخر ; فإنه يدل على الذات والذات تستلزم معنى الاسم الآخر لكن هذا باللزوم . وأما دلالة كل اسم على خاصيته وعلى الذات بمجموعهما فبالمطابقة ودلالتها على أحدهما بالتضمن . فقول الداعي : { لا إله إلا أنت سبحانك } يتضمن معنى الكلمات الأربع اللاتي هن أفضل الكلام بعد القرآن . وهذه الكلمات تتضمن معاني أسماء الله الحسنى وصفاته العليا ففيها كمال المدح .

وقوله : { إني كنت من الظالمين } فيه اعتراف بحقيقة حاله وليس لأحد من العباد أن يبرئ نفسه عن هذا الوصف لا سيما في مقام مناجاته لربه . وقد ثبت في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { لا ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى } وقال : { من قال : أنا خير من يونس بن متى فقد كذب } فمن ظن أنه خير من يونس بحيث يعلم أنه ليس عليه أن يعترف بظلم نفسه فهو كاذب ولهذا كان سادات الخلائق لا يفضلون أنفسهم على يونس في هذا المقام بل يقولون : كما قال أبوهم آدم وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم .

[ ص: 255 ] فصل وأما قول السائل : لم كانت موجبة لكشف الضر ؟ فذلك لأن الضر لا يكشفه إلا الله . كما قال تعالى : { وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله } والذنوب سبب للضر والاستغفار يزيل أسبابه كما قال تعالى : { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون } فأخبر أنه سبحانه لا يعذب مستغفرا .

وفي الحديث : { من أكثر الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا ورزقه من حيث لا يحتسب } وقال تعالى : { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير } فقوله : { إني كنت من الظالمين } اعتراف بالذنب وهو استغفار فإن هذا الاعتراف متضمن طلب المغفرة . وقوله : { لا إله إلا أنت } تحقيق لتوحيد الإلهية فإن الخير لا موجب له إلا مشيئة الله فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن والمعوق له [ ص: 256 ] من العبد هو ذنوبه وما كان خارجا عن قدرة العبد فهو من الله وإن كانت أفعال العباد بقدر الله تعالى لكن الله جعل فعل المأمور وترك المحظور سببا للنجاة والسعادة فشهادة التوحيد تفتح باب الخير والاستغفار من الذنوب يغلق باب الشر .

ولهذا ينبغي للعبد أن لا يعلق رجاءه إلا بالله ولا يخاف من الله أن يظلمه : فإن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون ; بل يخاف أن يجزيه بذنوبه وهذا معنى ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال : لا يرجون عبد إلا ربه ولا يخافن إلا ذنبه . وفي الحديث المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم { أنه دخل على مريض فقال : كيف تجدك ؟ فقال أرجو الله وأخاف ذنوبي فقال ما اجتمعا في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وأمنه مما يخاف } . فالرجاء ينبغي أن يتعلق بالله ولا يتعلق بمخلوق ولا بقوة العبد ولا عمله فإن تعليق الرجاء بغير الله إشراك وإن كان الله قد جعل لها أسبابا فالسبب لا يستقل بنفسه بل لا بد له من معاون ولا بد أن يمنع المعارض المعوق له وهو لا يحصل ويبقى إلا بمشيئة الله تعالى .

[ ص: 257 ] ولهذا قيل : الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد ومحو الأسباب أن تكون أسبابا نقص في العقل والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع . ولهذا قال الله تعالى : { فإذا فرغت فانصب } { وإلى ربك فارغب } فأمر بأن تكون الرغبة إليه وحده وقال : { وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين } فالقلب لا يتوكل إلا على من يرجوه فمن رجا قوته أو عمله أو علمه أو حاله أو صديقه أو قرابته أو شيخه أو ملكه أو ماله غير ناظر إلى الله كان فيه نوع توكل على ذلك السبب وما رجا أحد مخلوقا أو توكل عليه إلا خاب ظنه فيه فإنه مشرك : { ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق } .

وكذلك المشرك يخاف المخلوقين ويرجوهم فيحصل له رعب كما قال تعالى : { سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا } والخالص من الشرك يحصل له الأمن كما قال تعالى : { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون } وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الظلم هنا بالشرك .

ففي الصحيح عن ابن مسعود { أن هذه الآية لما نزلت شق ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا : أينا لم يظلم نفسه ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنما هذا الشرك ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح : { إن الشرك لظلم عظيم } } [ ص: 258 ] وقال تعالى : { ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب } { إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب } { وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار } وقال تعالى : { قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا } { أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا } ولهذا يذكر الله الأسباب ويأمر بألا يعتمد عليها ولا يرجى إلا الله قال تعالى لما أنزل الملائكة : { وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم } وقال : { إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون } وقد قدمنا أن الدعاء نوعان . دعاء عبادة ودعاء مسألة . وكلاهما لا يصلح إلا لله فمن جعل مع الله إلها آخر قعد مذموما مخذولا والراجي سائل طالب فلا يصلح أن يرجو إلا الله ولا يسأل [ ص: 259 ] غيره

ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : { ما أتاك من هذا المال وأنت غير سائل ولا مشرف فخذه وما لا فلا تتبعه نفسك } . فالمشرف الذي يستشرف بقلبه والسائل الذي يسأل بلسانه وفي الحديث الذي في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري { قال : أصابتنا فاقة فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأسأله فوجدته يخطب الناس وهو يقول : أيها الناس والله مهما يكن عندنا من خير فلن ندخره عنكم وإنه من يستغن يغنه الله ومن يستعفف يعفه الله ومن يتصبر يصبره الله وما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر } .

و " الاستغناء " أن لا يرجو بقلبه أحدا فيتشرف إليه و " الاستعفاف ألا يسأل بلسانه أحدا ; ولهذا لما سئل أحمد بن حنبل عن التوكل فقال : قطع الاستشراف إلى الخلق ; أي لا يكون في قلبك أن أحدا يأتيك بشيء فقيل له : فما الحجة في ذلك ؟ فقال : قول الخليل لما قال له جبرائيل هل لك من حاجة ؟ فقال : " أما إليك فلا " . فهذا وما يشبهه مما يبين أن العبد في طلب ما ينفعه ودفع ما يضره لا يوجه قلبه إلا إلى الله ; فلهذا قال المكروب : ( لا إله إلا أنت ) .

ومثل هذا ما في الصحيحين عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم { كان يقول : عند الكرب لا إله إلا الله العظيم الحليم لا إله إلا الله رب العرش العظيم [ ص: 260 ] لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض رب العرش الكريم } فإن هذه الكلمات فيها تحقيق التوحيد وتأله العبد ربه وتعلق رجائه به وحده لا شريك له وهي لفظ خبر يتضمن الطلب . والناس وإن كانوا يقولون بألسنتهم : لا إله إلا الله فقول العبد لها مخلصا من قلبه له حقيقة أخرى وبحسب تحقيق التوحيد تكمل طاعة الله . قال تعالى : { أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا } { أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا } فمن جعل ما يألهه هو ما يهواه فقد اتخذ إلهه هواه أي جعل معبوده هو ما يهواه وهذا حال المشركين الذين يعبد أحدهم ما يستحسنه فهم يتخذون أندادا من دون الله يحبونهم كحب الله ولهذا قال الخليل : { لا أحب الآفلين } .

فإن قومه لم يكونوا منكرين للصانع ولكن كان أحدهم يعبد ما يستحسنه ويظنه نافعا له كالشمس والقمر والكواكب والخليل بين أن الآفل يغيب عن عابده وتحجبه عنه الحواجب فلا يرى عابده ولا يسمع كلامه ولا يعلم حاله ولا ينفعه ولا يضره بسبب ولا غيره فأي وجه لعبادة من يأفل . وكلما حقق العبد الإخلاص في قول : لا إله إلا الله خرج من قلبه [ ص: 261 ] تأله ما يهواه وتصرف عنه المعاصي والذنوب كما قال تعالى : { كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين } .

فعلل صرف السوء والفحشاء عنه بأنه من عباد الله المخلصين وهؤلاء هم الذين قال فيهم : { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } وقال الشيطان : { قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين }

{ إلا عبادك منهم المخلصين } .

وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { من قال لا إله إلا الله مخلصا من قلبه حرمه الله على النار } . فإن الإخلاص ينفي أسباب دخول النار ; فمن دخل النار من القائلين لا إله إلا الله لم يحقق إخلاصها المحرم له على النار ; بل كان في قلبه نوع من الشرك الذي أوقعه فيما أدخله النار والشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل ; ولهذا كان العبد مأمورا في كل صلاة أن يقول : { إياك نعبد وإياك نستعين } .

والشيطان يأمر بالشرك والنفس تطيعه في ذلك فلا تزال النفس تلتفت إلى غير الله . إما خوفا منه . وإما رجاء له فلا يزال العبد مفتقرا إلى تخليص توحيده من شوائب الشرك . وفي الحديث الذي رواه ابن أبي عاصم وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { يقول الشيطان : أهلكت الناس بالذنوب وأهلكوني بلا إله إلا الله والاستغفار فلما رأيت ذلك بثثت فيهم الأهواء فهم يذنبون ولا يستغفرون ; لأنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا } . [ ص: 262 ] فصاحب الهوى الذي اتبع هواه بغير هدى من الله له نصيب ممن اتخذ إلهه هواه فصار فيه شرك منعه من الاستغفار وأما من حقق التوحيد والاستغفار فلا بد أن يرفع عنه الشر ; فلهذا قال ذو النون : { لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين } .

ولهذا يقرن الله بين التوحيد والاستغفار في غير موضع . كقوله تعالى : { فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات } وقوله : { ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير } { وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه } وقوله : { وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } إلى قوله : { ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه } وقوله : { فاستقيموا إليه واستغفروه } .

وخاتمة المجلس : { سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك } إن كان مجلس رحمة كانت كالطابع عليه وإن كان مجلس لغو كانت كفارة له وقد روي أيضا أنها تقال في آخر الوضوء بعد أن يقال : { أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين } . وهذا الذكر يتضمن التوحيد والاستغفار ; فإن صدره الشهادتان [ ص: 263 ] اللتان هما أصلا الدين وجماعه ; فإن جميع الدين داخل في " الشهادتين " إذ مضمونهما ألا نعبد إلا الله وأن نطيع رسوله و " الدين " كله داخل في هذا في عبادة الله بطاعة الله وطاعة رسوله وكل ما يجب أو يستحب داخل في طاعة الله ورسوله .

وقد روي أنه يقول : { سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك } وهذا كفارة المجلس فقد شرع في آخر المجلس وفي آخر الوضوء وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يختم الصلاة كما في الحديث الصحيح أنه كان يقول في آخر صلاته : { اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به مني ; أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت } وهنا قدم الدعاء وختمه بالتوحيد ; لأن الدعاء مأمور به في آخر الصلاة وختم بالتوحيد ليختم الصلاة بأفضل الأمرين وهو التوحيد بخلاف ما لم يقصد فيه هذا فإن تقديم التوحيد أفضل .

فإن جنس الدعاء الذي هو ثناء وعبادة أفضل من جنس الدعاء الذي هو سؤال وطلب وإن كان المفضول قد يفضل على الفاضل في موضعه الخاص بسبب وبأشياء أخر كما أن الصلاة أفضل من القراءة والقراءة أفضل من الذكر الذي هو ثناء والذكر أفضل من الدعاء الذي هو سؤال ومع هذا فالمفضول له أمكنة وأزمنة [ ص: 264 ] وأحوال يكون فيها أفضل من الفاضل لكن أول الدين وآخره وظاهره وباطنه هو التوحيد وإخلاص الدين كله لله هو تحقيق قول لا إله إلا الله .

فإن المسلمين وإن اشتركوا في الإقرار بها فهم متفاضلون في تحقيقها تفاضلا لا نقدر أن نضبطه حتى أن كثيرا منهم يظنون أن التوحيد المفروض هو الإقرار والتصديق بأن الله خالق كل شيء وربه ولا يميزون بين الإقرار بتوحيد الربوبية الذي أقر به مشركو العرب وبين توحيد الإلهية الذي دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يجمعون بين التوحيد القولي والعملي . فإن المشركين ما كانوا يقولون : إن العالم خلقه اثنان ولا إن مع الله ربا ينفرد دونه بخلق شيء ; بل كانوا كما قال الله عنهم : { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله } وقال تعالى : { وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون } وقال تعالى : { قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون } { سيقولون لله قل أفلا تذكرون } { قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم }

{ سيقولون لله قل أفلا تتقون }

{ قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون } { سيقولون لله قل فأنى تسحرون } وكانوا مع إقرارهم بأن الله هو الخالق وحده يجعلون معه آلهة [ ص: 265 ] أخرى يجعلونهم شفعاء لهم إليه . ويقولون : ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى . ويحبونهم كحب الله .

والإشراك في الحب والعبادة والدعاء والسؤال غير الإشراك في الاعتقاد والإقرار كما قال تعالى : { ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله } فمن أحب مخلوقا كما يحب الخالق فهو مشرك به قد اتخذ من دون الله أندادا يحبهم كحب الله . وإن كان مقرا بأن الله خالقه . ولهذا فرق الله ورسوله بين من أحب مخلوقا لله وبين من أحب مخلوقا مع الله فالأول يكون الله هو محبوبه ومعبوده الذي هو منتهى حبه وعبادته لا يحب معه غيره ; لكنه لما علم أن الله يحب أنبياءه وعباده الصالحين أحبهم لأجله وكذلك لما علم أن الله يحب فعل المأمور وترك المحظور أحب ذلك فكان حبه لما يحبه تابعا لمحبة الله وفرعا عليه وداخلا فيه . بخلاف من أحب مع الله فجعله ندا لله يرجوه ويخافه أو يطيعه من غير أن يعلم أن طاعته طاعة لله ويتخذه شفيعا له من غير أن يعلم أن الله يأذن له أن يشفع فيه قال تعالى : { ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله } [ ص: 266 ] وقال تعالى : { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون }

وقد قال { عدي بن حاتم للنبي صلى الله عليه وسلم ما عبدوهم قال : أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم فكانت تلك عبادتهم إياهم } قال تعالى : { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } وقال تعالى : { ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا } { يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا }

{ لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا } . فالرسول وجبت طاعته ; لأنه من يطع الرسول فقد أطاع الله فالحلال ما حلله والحرام ما حرمه والدين ما شرعه ومن سوى الرسول من العلماء والمشايخ والأمراء والملوك إنما تجب طاعتهم إذا كانت طاعتهم طاعة لله وهم إذا أمر الله ورسوله بطاعتهم فطاعتهم داخلة في طاعة الرسول قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } .

فلم يقل وأطيعوا الرسول وأطيعوا أولي الأمر منكم ; بل جعل طاعة أولي الأمر داخلة في طاعة الرسول ; وطاعة الرسول طاعة لله وأعاد الفعل في طاعة الرسول دون طاعة أولي الأمر ; فإنه من يطع الرسول [ ص: 267 ] فقد أطاع الله ; فليس لأحد إذا أمره الرسول بأمر أن ينظر هل أمر الله به أم لا بخلاف أولي الأمر فإنهم قد يأمرون بمعصية الله فليس كل من أطاعهم مطيعا لله بل لا بد فيما يأمرون به أن يعلم أنه ليس معصية لله وينظر هل أمر الله به أم لا سواء كان أولي الأمر من العلماء أو الأمراء ويدخل في هذا تقليد العلماء وطاعة أمراء السرايا وغير ذلك وبهذا يكون الدين كله لله قال تعالى : { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله } وقال النبي صلى الله عليه وسلم { لما قيل له : يا رسول الله الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء . فأي ذلك في سبيل الله ؟ فقال : من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله } .

ثم إن كثيرا من الناس يحب خليفة أو عالما أو شيخا أو أميرا فيجعله ندا لله وإن كان قد يقول : إنه يحبه لله . فمن جعل غير الرسول تجب طاعته في كل ما يأمر به وينهى عنه وإن خالف أمر الله ورسوله فقد جعله ندا وربما صنع به كما تصنع النصارى بالمسيح ويدعوه ويستغيث به ويوالي أولياءه ويعادي أعداءه مع إيجابه طاعته في كل ما يأمر به وينهى عنه ويحلله ويحرمه ويقيمه مقام الله ورسوله فهذا من الشرك الذي يدخل أصحابه في قوله تعالى { ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله } .

[ ص: 268 ] فالتوحيد والإشراك يكون في أقوال القلب ويكون في أعمال القلب ولهذا قال الجنيد : التوحيد قول القلب والتوكل عمل القلب أراد بذلك التوحيد الذي هو التصديق فإنه لما قرنه بالتوكل جعله أصله وإذا أفرد لفظ التوحيد فهو يتضمن قول القلب وعمله والتوكل من تمام التوحيد . وهذا كلفظ " الإيمان " فإنه إذا أفرد دخلت فيه الأعمال الباطنة والظاهرة وقيل الإيمان قول وعمل أي قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارح ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه : { الإيمان بضع وستون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان } . ومنه قوله تعالى { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون } وقوله : { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون } { الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون }

{ أولئك هم المؤمنون حقا } وقوله : { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه } .

و " الإيمان المطلق " يدخل فيه الإسلام كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم { أنه قال لوفد عبد القيس : آمركم بالإيمان بالله أتدرون ما الإيمان بالله ؟ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله [ ص: 269 ] وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وأن تؤدوا خمس ما غنمتم } ولهذا قال من قال من السلف : كل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمنا . وأما إذا قرن لفظ الإيمان بالعمل أو بالإسلام فإنه يفرق بينهما كما في قوله تعالى { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات } وهو في القرآن كثير وكما في قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لما سأله جبريل عن الإسلام والإيمان والإحسان فقال : { الإسلام : أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت . قال : فما الإيمان ؟ قال أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت وتؤمن بالقدر خيره وشره . قال : فما الإحسان ؟ قال : أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك } . ففرق في هذا النص بين الإسلام والإيمان لما قرن بين الاسمين وفي ذلك النص أدخل الإسلام في الإيمان لما أفرده بالذكر . وكذلك لفظ " العمل " فإن الإسلام المذكور هو من العمل والعمل الظاهر هو موجب إيمان القلب ومقتضاه فإذا حصل إيمان القلب حصل إيمان الجوارح ضرورة وإيمان القلب لا بد فيه من تصديق القلب وانقياده وإلا فلو صدق قلبه بأن محمدا رسول الله وهو يبغضه ويحسده ويستكبر عن متابعته لم يكن قد آمن قلبه .

و " الإيمان " وإن تضمن التصديق فليس هو مرادفا له فلا يقال [ ص: 270 ] لكل مصدق بشيء : إنه مؤمن به . فلو قال : أنا أصدق بأن الواحد نصف الاثنين وأن السماء فوقنا والأرض تحتنا ونحو ذلك مما يشاهده الناس ويعلمونه لم يقل لهذا : إنه مؤمن بذلك ; بل لا يستعمل إلا فيمن أخبر بشيء من الأمور الغائبة كقول إخوة يوسف : { وما أنت بمؤمن لنا } فإنهم أخبروه بما غاب عنه وهم يفرقون بين من آمن له وآمن به فالأول يقال للمخبر والثاني يقال للمخبر به كما قال إخوة يوسف { وما أنت بمؤمن لنا } وقال تعالى : { فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه } .

وقال تعالى : { ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين } ففرق بين إيمانه بالله وإيمانه للمؤمنين ; لأن المراد يصدق المؤمنين إذا أخبروه وأما إيمانه بالله فهو من باب الإقرار به . ومنه قوله تعالى عن فرعون وملئه : { أنؤمن لبشرين مثلنا } أي نقر لهما ونصدقهما . ومنه قوله : { أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون } ومنه قوله تعالى { فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي } .

ومن المعنى الآخر قوله تعالى { يؤمنون بالغيب } وقوله : { آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله } وقوله : { ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين } أي أقر بذلك ومثل هذا في القرآن كثير .

و ( المقصود هنا ) أن لفظ " الإيمان " إنما يستعمل في بعض الأخبار وهو مأخوذ من الأمن كما أن الإقرار مأخوذ من قر فالمؤمن صاحب أمن كما أن المقر صاحب إقرار فلا بد في ذلك من عمل القلب بموجب تصديقه فإذا كان عالما بأن محمدا رسول الله ولم يقترن بذلك حبه وتعظيمه بل كان يبغضه ويحسده ويستكبر عن اتباعه فإن هذا ليس بمؤمن به بل كافر به . ومن هذا الباب كفر إبليس وفرعون وأهل الكتاب الذين يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وغير هؤلاء فإن إبليس لم يكذب خبرا ولا مخبرا بل استكبر عن أمر ربه . وفرعون وقومه قال الله فيهم : { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا } وقال له موسى : { لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر } وقال تعالى : { الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم } فمجرد علم القلب بالحق إن لم يقترن به عمل القلب بموجب علمه مثل محبة القلب له واتباع القلب له لم ينفع صاحبه بل أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 272 ] يقول : { اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ونفس لا تشبع ودعاء لا يسمع وقلب لا يخشع } ولكن الجهمية ظنوا أن مجرد علم القلب وتصديقه هو الإيمان وأن من دل الشرع على أنه ليس بمؤمن فإن ذلك يدل على عدم علم قلبه وهذا من أعظم الجهل شرعا وعقلا . وحقيقته توجب التسوية بين المؤمن والكافر ; ولهذا أطلق وكيع بن الجراح وأحمد بن حنبل وغيرهما من الأئمة كفرهم بذلك فإنه من المعلوم أن الإنسان يكون عالما بالحق ويبغضه لغرض آخر فليس كل من كان مستكبرا عن الحق يكون غير عالم به وحينئذ فالإيمان لا بد فيه من تصديق القلب وعمله وهذا معنى قول السلف : الإيمان قول وعمل . ثم إنه إذا تحقق القلب بالتصديق والمحبة التامة المتضمنة للإرادة لزم وجود الأفعال الظاهرة فإن الإرادة الجازمة إذا اقترنت بها القدرة التامة لزم وجود المراد قطعا وإنما ينتفي وجود الفعل لعدم كمال القدرة أو لعدم كمال الإرادة وإلا فمع كمالها يجب وجود الفعل الاختياري فإذا أقر القلب إقرارا تاما بأن محمدا رسول الله وأحبه محبة تامة امتنع مع ذلك أن لا يتكلم بالشهادتين مع قدرته على ذلك لكن إن كان عاجزا لخرس ونحوه أو لخوف ونحوه لم يكن قادرا على النطق بهما .

[ ص: 273 ] و " أبو طالب " وإن كان عالما بأن محمدا رسول الله وهو محب له فلم تكن محبته له لمحبته لله بل كان يحبه لأنه ابن أخيه فيحبه للقرابة وإذا أحب ظهوره فلما يحصل له بذلك من الشرف والرئاسة فأصل محبوبه هو الرئاسة ; فلهذا لما عرض عليه الشهادتين عند الموت رأى أن بالإقرار بهما زوال دينه الذي يحبه فكان دينه أحب إليه من ابن أخيه فلم يقر بهما - فلو كان يحبه لأنه رسول الله كما كان يحبه أبو بكر الذي قال الله فيه : { وسيجنبها الأتقى } { الذي يؤتي ماله يتزكى } { وما لأحد عنده من نعمة تجزى } { إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى } { ولسوف يرضى } وكما كان يحبه سائر المؤمنين به كعمر وعثمان وعلي وغيرهم لنطق بالشهادتين قطعا - فكان حبه حبا مع الله لا حبا لله ولهذا لم يقبل الله ما فعله من نصر الرسول ومؤازرته لأنه لم يعمله لله والله لا يقبل من العمل إلا ما أريد به وجهه بخلاف الذي فعل ما فعل ابتغاء وجه ربه الأعلى . وهذا مما يحقق أن " الإيمان والتوحيد " لا بد فيهما من عمل القلب كحب القلب فلا بد من إخلاص الدين لله والدين لا يكون دينا إلا بعمل ; فإن الدين يتضمن الطاعة والعبادة ; وقد أنزل الله عز وجل سورتي الإخلاص : { قل يا أيها الكافرون } و { قل هو الله أحد } إحداهما في توحيد القول والعلم . والثانية في توحيد العمل [ ص: 274 ] والإرادة ; فقال في الأول : { قل هو الله أحد } { الله الصمد } { لم يلد ولم يولد } { ولم يكن له كفوا أحد } فأمره أن يقول هذا التوحيد وقال في الثاني : { قل يا أيها الكافرون } { لا أعبد ما تعبدون } { ولا أنتم عابدون ما أعبد } { ولا أنا عابد ما عبدتم } { ولا أنتم عابدون ما أعبد } { لكم دينكم ولي دين } فأمره أن يقول ما يوجب البراءة من عبادة غير الله وإخلاص العبادة لله .

و " العبادة " أصلها القصد والإرادة . والعبادة إذا أفردت دخل فيها التوكل ونحوه وإذا قرنت بالتوكل صار التوكل قسيما لها كما ذكرناه في لفظ الإيمان قال تعالى : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } وقال تعالى : { يا أيها الناس اعبدوا ربكم } فهذا ونحوه يدخل فيه فعل المأمورات وترك المحظورات ; والتوكل من ذلك وقد قال في موضع آخر : { إياك نعبد وإياك نستعين } وقال : { فاعبده وتوكل عليه } ومثل هذا كثيرا ما يجيء في القرآن : تتنوع دلالة اللفظ في عمومه وخصوصه بحسب الإفراد والاقتران ; كلفظ " المعروف والمنكر " فإنه قد قال : { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر } وقال { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } وقال : { يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر } فالمنكر يدخل فيه ما كرهه الله ; كما يدخل في المعروف ما يحبه الله .

وقد قال في موضع آخر : { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } فعطف المنكر على الفحشاء ودخل في المنكر هنا البغي . وقال في موضع آخر : { إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي } فقرن بالمنكر الفحشاء والبغي . ومن هذا الباب لفظ " الفقراء والمساكين " إذا أفرد أحدهما دخل فيه الآخر وإذا قرن أحدهما بالآخر صار بينهما فرق ; لكن هناك أحد الاسمين أعم من الآخر وهنا بينهما عموم وخصوص فمحبة الله وحده والتوكل عليه وحده وخشية الله وحده ونحو هذا كل هذا يدخل في توحيد الله تعالى قال تعالى في المحبة : { ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله } وقال تعالى : { قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره } وقال تعالى : { ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون } فجعل الطاعة لله والرسول وجعل الخشية والتقوى لله وحده وقال تعالى : { ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون } وقال تعالى : { فإذا فرغت فانصب }

{ وإلى ربك فارغب } فجعل التحسب والرغبة إلى الله وحده . وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع . و ( المقصود ) هنا أن قول القائل : { لا إله إلا أنت } فيه إفراد الإلهية لله وحده وذلك يتضمن التصديق لله قولا وعملا فالمشركون كانوا يقرون بأن الله رب كل شيء ; لكن كانوا يجعلون معه آلهة أخرى فلا يخصونه بالإلهية . وتخصيصه بالإلهية يوجب ألا يعبد إلا إياه وأن لا يسأل غيره كما في قوله : { إياك نعبد وإياك نستعين } فإن الإنسان قد يقصد سؤال الله وحده والتوكل عليه لكن في أمور لا يحبها الله ; بل يكرهها وينهى عنها فهذا وإن كان مخلصا له في سؤاله والتوكل عليه لكن ليس هو مخلصا في عبادته وطاعته وهذا حال كثير من أهل التوجهات الفاسدة أصحاب الكشوفات والتصرفات المخالفة لأمر الله ورسوله فإنهم يعانون على هذه الأمور . وكثير منهم يستعين الله عليها لكن لما لم تكن موافقة لأمر الله ورسوله حصل لهم نصيب من العاجلة وكانت عاقبتهم عاقبة سيئة قال تعالى : { وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا } وقال تعالى : { وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه } .

وطائفة أخرى قد يقصدون طاعة الله ورسوله لكن لا يحققون التوكل عليه والاستعانة به . فهؤلاء يثابون على حسن نيتهم وعلى طاعتهم لكنهم مخذولون فيما يقصدونه إذ لم يحققوا الاستعانة بالله والتوكل عليه ولهذا يبتلى الواحد من هؤلاء بالضعف والجزع تارة " وبالإعجاب أخرى فإن لم يحصل مراده من الخير كان لضعفه وربما حصل له جزع فإن حصل مراده نظر إلى نفسه وقوته فحصل له إعجاب وقد يعجب بحاله فيظن حصول مراده فيخذل . قال تعالى : { ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين } إلى قوله : { ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفور رحيم } .

وكثيرا ما يقرن الناس بين الرياء والعجب فالرياء من باب الإشراك بالخلق والعجب من باب الإشراك بالنفس وهذا حال المستكبر فالمرائي لا يحقق قوله : { إياك نعبد } والمعجب لا يحقق قوله : { وإياك نستعين } فمن حقق قوله : { إياك نعبد } خرج عن الرياء ومن حقق قوله { وإياك نستعين } خرج عن الإعجاب وفي الحديث المعروف : { ثلاث مهلكات : شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه } . [ ص: 278 ] وشر من هؤلاء وهؤلاء من لا تكون عبادته لله ولا استعانته بالله بل يعبد غيره ويستعين غيره وهؤلاء المشركون من الوجهين . ومن هؤلاء من يكون شركه بالشياطين كأصحاب الأحوال الشيطانية فيفعلون ما تحبه الشياطين من الكذب والفجور ويدعونه بأدعية تحبها الشياطين ويعزمون بالعزائم التي تطيعها الشياطين مما فيها إشراك بالله كما قد بسط الكلام عليهم في مواضع أخر .

وهؤلاء قد يحصل لهم من الخوارق مما يظن أنه من كرامات الأولياء . وإنما هو من أحوال السحرة والكهان ; ولهذا يجب الفرق بين الأحوال الإيمانية القرآنية والأحوال النفسانية والأحوال الشيطانية . وأما القسم الرابع فهم أهل التوحيد الذين أخلصوا دينهم لله فلم يعبدوا إلا إياه ولم يتوكلوا إلا عليه . وقول المكروب : { لا إله إلا أنت } قد يستحضر في ذلك أحد النوعين دون الآخر فمن أتم الله عليه النعمة استحضر التوحيد في النوعين فإن المكروب همته منصرفة إلى دفع ضره وجلب نفعه فقد يقول " لا إله إلا الله " مستشعرا أنه لا يكشف الضر غيرك ولا يأتي بالنعمة إلا أنت فهذا مستحضر توحيد الربوبية ومستحضر توحيد السؤال والطلب والتوكل عليه معرض عن توحيد الإلهية الذي يحبه الله ويرضاه ويأمر [ ص: 279 ] به وهو ألا يعبد إلا إياه ولا يعبده إلا بطاعته وطاعة رسوله فمن استشعر هذا في قوله : { لا إله إلا أنت } كان عابدا لله متوكلا عليه وكان ممتثلا قوله : { فاعبده وتوكل عليه } وقوله : { عليه توكلت وإليه أنيب } وقوله : { واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا } { رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا } .

ثم إن كان مطلوبه محرما أثم وإن قضيت حاجته . وإن كان طالبا مباحا لغير قصد الاستعانة به على طاعة الله وعبادته لم يكن آثما ولا مثابا . وإن كان طالبا ما يعينه على طاعة الله وعبادته لقصد الاستعانة به على ذلك كان مثابا مأجورا

وهذا مما يفرق به بين العبد الرسول وخلفائه وبين النبي الملك فإن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم خير بين أن يكون نبيا ملكا أو عبدا رسولا فاختار أن يكون عبدا رسولا ; فإن العبد الرسول هو الذي لا يفعل إلا ما أمر به ففعله كله عبادة لله فهو عبد محض منفذ أمر مرسله كما ثبت عنه في صحيح البخاري أنه قال : { إني والله لا أعطي أحدا ولا أمنع أحدا وإنما أنا قاسم أضع حيث أمرت } وهو لم يرد بقوله { لا أعطي أحدا ولا أمنع } إفراد الله بذلك قدرا وكونا فإن جميع المخلوقين يشاركونه في هذا فلا يعطي أحدا ولا يمنع إلا بقضاء الله وقدره ; وإنما أراد إفراد الله بذلك شرعا ودينا . أي لا أعطي إلا من أمرت [ ص: 280 ] بإعطائه ولا أمنع إلا من أمرت بمنعه فأنا مطيع لله في إعطائي ومنعي فهو يقسم الصدقة والفيء والغنائم كما يقسم المواريث بين أهلها ; لأن الله أمره بهذه القسمة .

ولهذا كان المال حيث أضيف إلى الله ورسوله فالمراد به ما يجب أن يصرف في طاعة الله ورسوله ليس المراد به أنه ملك للرسول كما ظنه طائفة من الفقهاء ولا المراد به كونه مملوكا لله خلقا وقدرا ; فإن جميع الأموال بهذه المثابة . وهذا كقوله : { قل الأنفال لله والرسول } وقوله : { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول } الآية وقوله : { وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب } إلى قوله : { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى } الآية . فذكر في الفيء ما ذكر في الخمس . فظن طائفة من الفقهاء أن الإضافة إلى الرسول تقتضي أنه يملكه كما يملك الناس أملاكهم . ثم قال بعضهم : إن غنائم بدر كانت ملكا للرسول .

وقال بعضهم : إن الفيء وأربعة أخماسه كان ملكا للرسول . وقال بعضهم : إن الرسول إنما كان يستحق من الخمس خمسه . وقال بعض هؤلاء : وكذلك كان يستحق من خمس الفيء خمسه وهذه الأقوال توجد في كلام طوائف من أصحاب الشافعي وأحمد وأبي حنيفة وغيرهم وهذا غلط من وجوه : [ ص: 281 ] ( منها ) أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يملك هذه الأموال كما يملك الناس أموالهم ولا كما يتصرف الملوك في ملكهم فإن هؤلاء وهؤلاء لهم أن يصرفوا أموالهم في المباحات فإما أن يكون مالكا له فيصرفه في أغراضه الخاصة وإما أن يكون ملكا له فيصرفه في مصلحة ملكه وهذه حال النبي الملك كداود وسليمان . قال تعالى : { فامنن أو أمسك بغير حساب } أي أعط من شئت واحرم من شئت لا حساب عليك ونبينا كان عبدا رسولا لا يعطي إلا من أمر بإعطائه ولا يمنع إلا من أمر بمنعه فلم يكن يصرف الأموال إلا في عبادة لله وطاعة له . ( ومنها ) أن النبي لا يورث ولو كان ملكا فإن الأنبياء لا يورثون فإذا كان ملوك الأنبياء لم يكونوا ملاكا كما يملك الناس أموالهم فكيف يكون صفوة الرسل الذي هو عبد رسول مالكا .

( ومنها ) أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفق على نفسه وعياله قدر الحاجة ويصرف سائر المال في طاعة الله لا يستفضله وليست هذه حال الملاك بل المال الذي يتصرف فيه كله هو مال الله ورسوله بمعنى أن الله أمر رسوله أن يصرف ذلك المال في طاعته فتجب طاعته في قسمه كما تجب طاعته في سائر ما يأمر به ; فإنه من يطع الرسول فقد أطاع الله وهو في ذلك مبلغ عن الله . [ ص: 282 ] والأموال التي كان يقسمها النبي صلى الله عليه وسلم على وجهين : ( منها ) : ما تعين مستحقه ومصرفه كالمواريث . ( ومنها ) ما يحتاج إلى اجتهاده ونظره ورأيه فإن ما أمر الله به منه ما هو محدود بالشرع : كالصلوات الخمس وطواف الأسبوع بالبيت ومنه ما يرجع في قدره إلى اجتهاد المأمور فيزيده وينقصه بحسب المصلحة التي يحبها الله .

فمن هذا ما اتفق عليه الناس ومنه ما تنازعوا فيه : كتنازع الفقهاء فيما يجب للزوجات من النفقات : هل هي مقدرة بالشرع ؟ أم يرجع فيها إلى العرف فتختلف في قدرها وصفتها باختلاف أحوال الناس ؟ . وجمهور الفقهاء على القول الثاني وهو الصواب لقول النبي صلى الله عليه وسلم لهند : { خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف } وقال أيضا : في خطبته المعروفة { للنساء كسوتهن ونفقتهن بالمعروف } . وكذلك تنازعوا أيضا فيما يجب من الكفارات : هل هو مقدر بالشرع أو بالعرف ؟ . فما أضيف إلى الله والرسل من الأموال كان المرجع في قسمته إلى أمر [ ص: 283 ] النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف ما سمي مستحقوه كالمواريث ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم عام حنين { ليس لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس والخمس مردود عليكم } أي ليس له بحكم القسم الذي يرجع فيه إلى اجتهاده ونظره الخاص إلا الخمس ولهذا قال : { وهو مردود عليكم } بخلاف أربعة أخماس الغنيمة فإنه لمن شهد الوقعة . ولهذا كانت الغنائم يقسمها الأمراء بين الغانمين والخمس يرفع إلى الخلفاء الراشدين المهديين الذين خلفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته فيقسمونها بأمرهم فأما أربعة الأخماس فإنما يرجعون فيها ليعلم حكم الله ورسوله كما يستفتي المستفتي وكما كانوا في الحدود لمعرفة الأمر الشرعي والنبي صلى الله عليه وسلم أعطى المؤلفة قلوبهم من غنائم حنين ما أعطاهم ; فقيل : إن ذلك كان من الخمس ; وقيل : إنه كان من أصل الغنيمة ; وعلى هذا القول فهو فعل ذلك لطيب نفوس المؤمنين بذلك ; ولهذا أجاب من عتب من الأنصار بما أزال عتبه وأراد تعويضهم عن ذلك . ومن الناس من يقول الغنيمة قبل القسمة لم يملكها الغانمون ; وإن للإمام أن يتصرف فيها باجتهاده كما هو مذكور في غير هذا الموضع . فإن المقصود هنا بيان حال العبد المحض لله الذي يعبده ويستعينه فيعمل له ويستعينه ويحقق قوله : { إياك نعبد وإياك نستعين } .

[ ص: 284 ] توحيد الإلهية وتوحيد الربوبية ; وإن كانت الإلهية تتضمن الربوبية ; والربوبية تستلزم الإلهية ; فإن أحدهما إذا تضمن الآخر عند الانفراد لم يمنع أن يختص بمعناه عند الاقتران كما في قوله : { قل أعوذ برب الناس } { ملك الناس } { إله الناس } وفي قوله : { الحمد لله رب العالمين } فجمع بين الاسمين : اسم الإله واسم الرب . فإن " الإله " هو المعبود الذي يستحق أن يعبد . و " الرب " هو الذي يربي عبده فيدبره . ولهذا كانت العبادة متعلقة باسمه الله والسؤال متعلقا باسمه الرب ; فإن العبادة هي الغاية التي لها خلق الخلق . والإلهية هي الغاية ; والربوبية تتضمن خلق الخلق وإنشاءهم فهو متضمن ابتداء حالهم ; والمصلي إذا قال : { إياك نعبد وإياك نستعين } فبدأ بالمقصود الذي هو الغاية على الوسيلة التي هي البداية ; فالعبادة غاية مقصودة ; والاستعانة وسيلة إليها : تلك حكمة وهذا سبب ; والفرق بين العلة الغائية والعلة الفاعلية معروف ; ولهذا يقال : أول الفكرة آخر العمل وأول البغية آخر الدرك . فالعلة الغائية متقدمة في التصور والإرادة وهي متأخرة في الوجود . فالمؤمن يقصد عبادة الله ابتداء وهو يعلم أن ذلك لا يحصل إلا بإعانته فيقول : { إياك نعبد وإياك نستعين } .

ولما كانت العبادة متعلقة باسم الله تعالى جاءت الأذكار المشروعة بهذا الاسم مثل كلمات الأذان : الله أكبر الله أكبر . ومثل الشهادتين : [ ص: 285 ] أشهد أن لا إله إلا الله [ أشهد أن محمدا رسول الله ] ومثل التشهد : التحيات لله ومثل التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر . وأما السؤال فكثيرا ما يجيء باسم الرب كقول آدم وحواء : { ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين } وقول نوح : { رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم } وقول موسى : { رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي } وقول الخليل : { ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة } الآية وقوله مع إسماعيل : { ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم } وكذلك قول الذين قالوا : { ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار } ومثل هذا كثير . وقد نقل عن مالك أنه قال : أكره للرجل أن يقول في دعائه : يا سيدي يا سيدي يا حنان يا حنان ولكن يدعو بما دعت به الأنبياء ; ربنا ربنا نقله عنه العتبي في العتبية . وقال تعالى : عن أولي الألباب : { الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار } الآيات . [ ص: 286 ] فإذا سبق إلى قلب العبد قصد السؤال ناسب أن يسأله باسمه الرب . وإن سأله باسمه الله لتضمنه اسم الرب كان حسنا وأما إذا سبق إلى قلبه قصد العبادة فاسم الله أولى بذلك . إذا بدأ بالثناء ذكر اسم الله وإذا قصد الدعاء دعا باسم الرب ولهذا قال يونس : { لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين } وقال آدم : { ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين } فإن يونس عليه السلام ذهب مغاضبا وقال تعالى : { فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت }

وقال تعالى : { فالتقمه الحوت وهو مليم } ففعل ما يلام عليه فكان المناسب لحاله أن يبدأ بالثناء على ربه والاعتراف بأنه لا إله إلا هو فهو الذي يستحق أن يعبد دون غيره فلا يطاع الهوى فإن اتباع الهوى يضعف عبادة الله وحده وقد روي أن يونس عليه السلام ندم على ارتفاع العذاب عن قومه بعد أن أظلهم وخاف أن ينسبوه إلى الكذب فغاضب . وفعل ما اقتضى الكلام الذي ذكره الله تعالى وأن يقال : { لا إله إلا أنت } وهذا الكلام يتضمن براءة ما سوى الله من الإلهية سواء صدر ذلك [ عن ] هوى النفس أو طاعة الخلق أو غير ذلك . ولهذا قال : { سبحانك إني كنت من الظالمين } .

والعبد يقول مثل هذا الكلام فيما يظنه وهو غير مطابق وفيما يريده وهو غير حسن . [ ص: 287 ] وأما آدم عليه السلام فإنه اعترف أولا بذنبه فقال : { ظلمنا أنفسنا } ولم يكن عند آدم من ينازعه الإرادة لما أمر الله به مما يزاحم الإلهية بل ظن صدق الشيطان الذي { وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين }

{ فدلاهما بغرور } فالشيطان غرهما وأظهر نصحهما فكانا في قبول غروره وما أظهر من نصحه حالهما مناسبا لقولهما : { ربنا ظلمنا أنفسنا } لما حصل من التفريط لا لأجل هوى وحظ يزاحم الإلهية وكانا محتاجين إلى أن يربهما ربوبية تكمل علمهما وقصدهما . حتى لا يغترا بمثل ذلك فهما يشهدان حاجتهما إلى الله ربهما الذي لا يقضي حاجتهما غيره . وذو النون شهد ما حصل من التقصير في حق الإلهية بما حصل من المغاضبة وكراهة إنجاء أولئك ففي ذلك من المعارضة في الفعل لحب شيء آخر ما يوجب تجريد محبته لله وتألهه له وأن يقول : { لا إله إلا أنت } فإن قول العبد : لا إله إلا أنت يمحو أن يتخذ إلهه هواه .

وقد روي { ما تحت أديم السماء إله يعبد أعظم عند الله من هوى متبع } فكمل يونس صلوات الله عليه تحقيق إلهيته لله ومحو الهوى الذي يتخذ إلها من دونه فلم يبق له صلوات الله عليه وسلامه عند تحقيق قوله لا إله إلا أنت إرادة تزاحم إلهية الحق بل كان مخلصا لله الدين إذ كان من أفضل عباد الله المخلصين . و ( أيضا ) فمثل هذه الحال تعرض لمن تعرض له فيبقى فيه [ ص: 288 ] نوع مغاضبة للقدر ومعارضة له في خلقه وأمره ووساوس في حكمته ورحمته فيحتاج العبد أن ينفي عنه شيئين : الآراء الفاسدة والأهواء الفاسدة فيعلم أن الحكمة والعدل فيما اقتضاه علمه وحكمته لا فيما اقتضاه علم العبد وحكمته ويكون هواه تبعا لما أمر الله به فلا يكون له مع أمر الله وحكمه هوى يخالف ذلك . قال الله تعالى : { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما } وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : { والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به } رواه أبو حاتم في صحيحه . وفي الصحيح { أن عمر قال له : يا رسول الله والله لأنت أحب إلي من نفسي . قال : الآن يا عمر } . وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : { لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين } وقال تعالى : { قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره } .

فإذا كان الإيمان لا يحصل حتى يحكم العبد رسوله ويسلم له ويكون هواه تبعا لما جاء به ويكون الرسول والجهاد في سبيله مقدما على حب الإنسان نفسه وماله وأهله فكيف في تحكيمه الله تعالى والتسليم له [ ص: 289 ] فمن رأى قوما يستحقون العذاب في ظنه . وقد غفر الله لهم ورحمهم وكره هو ذلك فهذا إما أن يكون عن إرادة تخالف حكم الله وإما عن ظن يخالف علم الله والله عليم حكيم . وإذا علمت أنه عليم وأنه حكيم لم يبق لكراهية ما فعله وجه وهذا يكون فيما أمر به وفيما خلف ولم يأمرنا أن نكرهه ونغضب عليه . فأما ما أمرنا بكراهته من الموجودات : كالكفر والفسوق والعصيان فعلينا أن نطيعه في أمره بخلاف توبته على عباده وإنجائه إياهم من العذاب فإن هذا من مفعولاته التي لم يأمرنا أن نكرهها بل هي مما يحبها فإنه يحب التوابين ويحب المتطهرين . فكراهة هذا من نوع اتباع الإرادة المزاحمة للإلهية . فعلى صاحبها أن يحقق توحيد الإلهية فيقول : لا إله إلا أنت . فعلينا أن نحب ما يحب ونرضى ما يرضى ونأمر بما يأمر وننهى عما ينهى . فإذا كان ( يحب التوابين و يحب المتطهرين ) فعلينا أن نحبهم ; ولا نأله مراداتنا المخالفة لمحابه .

والكلام في هذا المقام مبني على " أصل " : وهو أن الأنبياء صلوات الله عليهم معصومون فيما يخبرون به عن الله سبحانه وفي تبليغ رسالاته باتفاق الأمة ولهذا وجب الإيمان بكل ما أوتوه كما [ ص: 290 ] قال تعالى : { قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون } { فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم } وقال : { ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين } وقال : { آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير } .

بخلاف غير الأنبياء فإنهم ليسوا معصومين كما عصم الأنبياء ولو كانوا أولياء لله ولهذا من سب نبيا من الأنبياء قتل باتفاق الفقهاء ومن سب غيرهم لم يقتل . وهذه العصمة الثابتة للأنبياء هي التي يحصل بها مقصود النبوة والرسالة ; فإن " النبي " هو المنبأ عن الله و " الرسول " هو الذي أرسله الله تعالى وكل رسول نبي وليس كل نبي رسولا والعصمة فيما يبلغونه عن الله ثابتة فلا يستقر في ذلك خطأ باتفاق المسلمين . [ ص: 291 ] ولكن هل يصدر ما يستدركه الله فينسخ ما يلقي الشيطان ويحكم الله آياته ؟ هذا فيه قولان . والمأثور عن السلف يوافق القرآن بذلك . والذين منعوا ذلك من المتأخرين طعنوا فيما ينقل من الزيادة في سورة النجم بقوله : تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى وقالوا : إن هذا لم يثبت ومن علم أنه ثبت : قال هذا ألقاه الشيطان في مسامعهم ولم يلفظ به الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن السؤال وارد على هذا التقدير أيضا . وقالوا في قوله : { إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته } هو حديث النفس .

وأما الذين قرروا ما نقل عن السلف فقالوا هذا منقول نقلا ثابتا لا يمكن القدح فيه والقرآن يدل عليه بقوله { وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم } { ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد } { وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهادي الذين آمنوا إلى صراط مستقيم } فقالوا الآثار في تفسير هذه الآية معروفة ثابتة في كتب التفسير والحديث والقرآن يوافق ذلك فإن نسخ الله لما يلقي الشيطان وإحكامه آياته إنما يكون لرفع ما وقع في آياته وتمييز الحق من الباطل حتى لا تختلط آياته [ ص: 292 ] بغيرها . وجعل ما ألقى الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم إنما يكون إذا كان ذلك ظاهرا يسمعه الناس لا باطنا في النفس والفتنة التي تحصل بهذا النوع من النسخ من جنس الفتنة التي تحصل بالنوع الآخر من النسخ .

وهذا النوع أدل على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وبعده عن الهوى من ذلك النوع فإنه إذا كان يأمر بأمر ثم يأمر بخلافه وكلاهما من عند الله وهو مصدق في ذلك فإذا قال عن نفسه إن الثاني هو الذي من عند الله وهو الناسخ وإن ذلك المرفوع الذي نسخه الله ليس كذلك كان أدل على اعتماده للصدق وقوله الحق وهذا كما قالت عائشة رضي الله عنها لو كان محمد كاتما شيئا من الوحي لكتم هذه الآية : { وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه } ألا ترى أن الذي يعظم نفسه بالباطل يريد أن ينصر كل ما قاله ولو كان خطأ فبيان الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله أحكم آياته ونسخ ما ألقاه الشيطان هو أدل على تحريه للصدق وبراءته من الكذب وهذا هو المقصود بالرسالة فإنه الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم تسليما ولهذا كان تكذيبه كفرا محضا بلا ريب .

وأما العصمة في غير ما يتعلق بتبليغ الرسالة فللناس فيه نزاع هل هو ثابت بالعقل أو بالسمع ؟ ومتنازعون في العصمة من الكبائر والصغائر أو من [ ص: 293 ] بعضها أم هل العصمة إنما هي في الإقرار عليها لا في فعلها ؟ أم لا يجب القول بالعصمة إلا في التبليغ فقط ؟ وهل تجب العصمة من الكفر والذنوب قبل المبعث أم لا ؟ والكلام على هذا مبسوط في غير هذا الموضع . والقول الذي عليه جمهور الناس وهو الموافق للآثار المنقولة عن السلف إثبات العصمة من الإقرار على الذنوب مطلقا والرد على من يقول إنه يجوز إقرارهم عليها وحجج القائلين بالعصمة إذا حررت إنما تدل على هذا القول .

وحجج النفاة لا تدل على وقوع ذنب أقر عليه الأنبياء فإن القائلين بالعصمة احتجوا بأن التأسي بهم مشروع وذلك لا يجوز إلا مع تجويز كون الأفعال ذنوبا ومعلوم أن التأسي بهم إنما هو مشروع فيما أقروا عليه دون ما نهوا عنه ورجعوا عنه كما أن الأمر والنهي إنما تجب طاعتهم فيما لم ينسخ منه فأما ما نسخ من الأمر والنهي فلا يجوز جعله مأمورا به ولا منهيا عنه فضلا عن وجوب اتباعه والطاعة فيه .

وكذلك ما احتجوا به من أن الذنوب تنافي الكمال أو أنها ممن عظمت عليه النعمة أقبح . أو أنها توجب التنفير أو نحو ذلك من الحجج العقلية فهذا إنما يكون مع البقاء على ذلك وعدم الرجوع وإلا فالتوبة النصوح التي يقبلها الله يرفع بها صاحبها إلى أعظم مما كان عليه كما قال [ ص: 294 ] بعض السلف : كان داود عليه السلام بعد التوبة خيرا منه قبل الخطيئة وقال آخر : لو لم تكن التوبة أحب الأشياء إليه لما ابتلى بالذنب أكرم الخلق عليه وقد ثبت في الصحاح حديث التوبة { لله أفرح بتوبة عبده من رجل نزل منزلا } إلخ .

وقد قال تعالى : { إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين } وقال تعالى : { إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات } وقد ثبت في الصحيح حديث { الذي يعرض الله صغار ذنوبه ويخبئ عنه كبارها وهو مشفق من كبارها أن تظهر فيقول الله له : إني قد غفرتها لك وأبدلتك مكان كل سيئة حسنة فيقول : أي رب إن لي سيئات لم أرها } إذا رأى تبديل السيئات بالحسنات طلب رؤية الذنوب الكبار التي كان مشفقا منها أن تظهر ومعلوم أن حاله هذه مع هذا التبديل أعظم من حاله لو لم تقع السيئات ولا التبديل . وقال طائفة من السلف منهم سعيد بن جبير : إن العبد ليعمل الحسنة فيدخل بها النار وإن العبد ليعمل السيئة فيدخل بها الجنة يعمل الحسنة فيعجب بها ويفتخر بها حتى تدخله النار ويعمل السيئة فلا يزال خوفه منها وتوبته منها حتى تدخله الجنة وقد قال تعالى : { وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا } { ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما } فغاية كل إنسان أن يكون من المؤمنين والمؤمنات الذين تاب الله عليهم . وفي الكتاب والسنة الصحيحة والكتب التي أنزلت قبل القرآن مما يوافق هذا القول ما يتعذر إحصاؤه . والرادون لذلك تأولوا ذلك بمثل تأويلات الجهمية والقدرية والدهرية لنصوص " الأسماء والصفات " ونصوص " القدر " ونصوص " المعاد " وهي من جنس تأويلات القرامطة الباطنية التي يعلم بالاضطرار أنها باطلة وأنها من باب تحريف الكلم عن مواضعه وهؤلاء يقصد أحدهم تعظيم الأنبياء فيقع في تكذيبهم ويريد الإيمان بهم فيقع في الكفر بهم .

ثم إن العصمة المعلومة بدليل الشرع والعقل والإجماع وهي " العصمة في التبليغ " لم ينتفعوا بها إذ كانوا لا يقرون بموجب ما بلغته الأنبياء وإنما يقرون بلفظ حرفوا معناه أو كانوا فيه كالأميين الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني والعصمة التي كانوا ادعوها لو كانت ثابتة لم ينتفعوا بها ولا حاجة بهم إليها عندهم فإنها متعلقة بغيرهم لا بما أمروا بالإيمان به فيتكلم أحدهم فيها على الأنبياء بغير سلطان من الله ويدع ما يجب عليه من تصديق الأنبياء وطاعتهم وهو الذي تحصل به السعادة وبضده تحصل الشقاوة قال تعالى : { فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم } الآية . [ ص: 296 ] والله تعالى لم يذكر في القرآن شيئا من ذلك عن نبي من الأنبياء إلا مقرونا بالتوبة والاستغفار كقولآدم وزوجته : { ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين } وقول نوح : { رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين } وقول الخليل عليه السلام { ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب } وقوله : { والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين } وقول موسى : { أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين } { واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك } وقوله : { رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي } وقوله : { فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين } وقوله تعالى عن داود : { فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب } { فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب } وقوله تعالى عن سليمان : { اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب } وأما يوسف الصديق فلم يذكر الله عنه ذنبا فلهذا لم يذكر الله عنه ما يناسب الذنب من الاستغفار بل قال { كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين } فأخبر أنه صرف عنه السوء والفحشاء وهذا يدل على أنه لم يصدر منه سوء ولا فحشاء .

وأما قوله : { ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه } [ ص: 297 ] فالهم اسم جنس تحته " نوعان " كما قال الإمام أحمد الهم همان : هم خطرات وهم إصرار وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم { أن العبد إذا هم بسيئة لم تكتب عليه وإذا تركها لله كتبت له حسنة وإن عملها كتبت له سيئة واحدة } وإن تركها من غير أن يتركها لله لم تكتب له حسنة ولا تكتب عليه سيئة ويوسف صلى الله عليه وسلم هم هما تركه لله ولذلك صرف الله عنه السوء والفحشاء لإخلاصه وذلك إنما يكون إذا قام المقتضي للذنب وهو الهم وعارضه الإخلاص الموجب لانصراف القلب عن الذنب لله . فيوسف عليه السلام لم يصدر منه إلا حسنة يثاب عليها ؟ وقال تعالى : { إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون } وأما ما ينقل : من أنه حل سراويله وجلس مجلس الرجل من المرأة وأنه رأى صورة يعقوب عاضا على يده وأمثال ذلك فكله مما لم يخبر الله به ولا رسوله وما لم يكن كذلك فإنما هو مأخوذ عن اليهود الذين هم من أعظم الناس كذبا على الأنبياء وقدحا فيهم وكل من نقله من المسلمين فعنهم نقله ; لم ينقل من ذلك أحد عن نبينا صلى الله عليه وسلم حرفا واحدا . [ ص: 298 ]

وقوله : { وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي } فمن كلام امرأة العزيز كما يدل القرآن على ذلك دلالة بينة لا يرتاب فيها من تدبر القرآن حيث قال تعالى : { وقال الملك ائتوني به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم } { قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين } { ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين } { وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم } فهذا كله كلام امرأة العزيز ويوسف إذ ذاك في السجن لم يحضر بعد إلى الملك ولا سمع كلامه ولا رآه ; ولكن لما ظهرت براءته في غيبته - كما قالت امرأة العزيز : { ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب } أي لم أخنه في حال مغيبه عني وإن كنت في حال شهوده راودته - فحينئذ : { وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين } وقد قال كثير من المفسرين إن هذا من كلام يوسف ومنهم من لم يذكر إلا هذا القول وهو قول في غاية الفساد ولا دليل عليه ; بل الأدلة تدل على نقضه وقد [ ص: 299 ] بسط الكلام على هذه الأمور في غير هذا الموضع .

و ( المقصود ) هنا أن ما تضمنته " قصة ذي النون " مما يلام عليه كله مغفور بدله الله به حسنات ; ورفع درجاته وكان بعد خروجه من بطن الحوت وتوبته أعظم درجة منه قبل أن يقع ما وقع قال تعالى : { فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم } { لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم } { فاجتباه ربه فجعله من الصالحين } وهذا بخلاف حال التقام الحوت فإنه قال : { فالتقمه الحوت وهو مليم } فأخبر أنه في تلك الحال مليم و " المليم " الذي فعل ما يلام عليه فالملام في تلك الحال لا في حال نبذه بالعراء وهو سقيم فكانت حاله بعد قوله : { لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين } أرفع من حاله قبل أن يكون ما كان والاعتبار بكمال النهاية لا بما جرى في البداية والأعمال بخواتيمها والله تعالى خلق الإنسان وأخرجه من بطن أمه لا يعلم شيئا ثم علمه فنقله من حال النقص إلى حال الكمال فلا يجوز أن يعتبر قدر الإنسان بما وقع منه قبل حال الكمال بل الاعتبار بحال كماله ويونس صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء في حال النهاية حالهم أكمل الأحوال . [ ص: 300 ] ومن هنا غلط من غلط في تفضيل الملائكة على الأنبياء والصالحين فإنهم اعتبروا كمال الملائكة مع بداية الصالحين ونقصهم فغلطوا ولو اعتبروا حال الأنبياء والصالحين بعد دخول الجنان ورضا الرحمن وزوال كل ما فيه نقص وملام وحصول كل ما فيه رحمة وسلام حتى استقر بهم القرار { والملائكة يدخلون عليهم من كل باب } { سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار } فإذا اعتبرت تلك الحال ظهر فضلها على حال غيرهم من المخلوقين وإلا فهل يجوز لعاقل أن يعتبر حال أحدهم قبل الكمال في مقام المدح والتفضيل والبراءة من النقائص والعيوب . ولو اعتبر ذلك لاعتبر أحدهم وهو نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم حين نفخت فيه الروح ثم هو وليد ثم رضيع ثم فطيم إلى أحوال أخر فعلم أن الواحد في هذه الحال لم تقم به صفات الكمال التي يستحق بها كمال المدح والتفضيل وتفضيله بها على كل صنف وجيل ; وإنما فضله باعتبار المآل عند حصول الكمال .

وما يظنه بعض الناس أنه من ولد على الإسلام فلم يكفر قط أفضل ممن كان كافرا فأسلم ليس بصواب ; بل الاعتبار بالعاقبة وأيهما كان أتقى لله في عاقبته كان أفضل . فإنه من المعلوم أن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار الذين آمنوا بالله ورسوله بعد كفرهم هم أفضل ممن ولد على الإسلام من أولادهم وغير أولادهم ; بل من عرف الشر وذاقه ثم عرف الخير وذاقه [ ص: 301 ] فقد تكون معرفته بالخير ومحبته له ومعرفته بالشر وبغضه له أكمل ممن لم يعرف الخير والشر ويذقهما كما ذاقهما ; بل من لم يعرف إلا الخير فقد يأتيه الشر فلا يعرف أنه شر فإما أن يقع فيه وإما أن لا ينكره كما أنكره الذي عرفه .

ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية . وهو كما قال عمر ; فإن كمال الإسلام هو بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتمام ذلك بالجهاد في سبيل الله ومن نشأ في المعروف لم يعرف غيره فقد لا يكون عنده من العلم بالمنكر وضرره ما عند من علمه ولا يكون عنده من الجهاد لأهله ما عند الخبير بهم ; ولهذا يوجد الخبير بالشر وأسبابه إذا كان حسن القصد عنده من الاحتراز عنه ومنع أهله والجهاد لهم ما ليس عند غيره . ولهذا كان الصحابة رضي الله عنهم أعظم إيمانا وجهادا ممن بعدهم لكمال معرفتهم بالخير والشر وكمال محبتهم للخير وبغضهم للشر لما علموه من حسن حال الإسلام والإيمان والعمل الصالح وقبح حال الكفر والمعاصي ولهذا يوجد من ذاق الفقر والمرض والخوف أحرص على الغنى والصحة والأمن ممن لم يذق ذلك .

ولهذا يقال : والضد يظهر حسنه الضد . [ ص: 302 ] ويقال : وبضدها تتبين الأشياء . وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : لست بخب ولا يخدعني الخب . فالقلب السليم المحمود هو الذي يريد الخير لا الشر وكمال ذلك بأن يعرف الخير والشر فأما من لا يعرف الشر فذاك نقص فيه لا يمدح به .

وليس المراد أن كل من ذاق طعم الكفر والمعاصي يكون أعلم بذلك وأكره له ممن لم يذقه مطلقا ; فإن هذا ليس بمطرد بل قد يكون الطبيب أعلم بالأمراض من المرضى والأنبياء عليهم الصلاة والسلام أطباء الأديان فهم أعلم الناس بما يصلح القلوب ويفسدها وإن كان أحدهم لم يذق من الشر ما ذاقه الناس . ولكن المراد أن من الناس من يحصل له بذوقه الشر من المعرفة به والنفور عنه والمحبة للخير إذا ذاقه ما لا يحصل لبعض الناس مثل من كان مشركا أو يهوديا أو نصرانيا وقد عرف ما في الكفر من الشبهات والأقوال الفاسدة والظلمة والشر ثم شرح الله صدره للإسلام وعرفه محاسن الإسلام ; فإنه قد يكون أرغب فيه وأكره للكفر من بعض من لم يعرف حقيقة الكفر والإسلام ; بل هو معرض عن بعض حقيقة هذا وحقيقة هذا أو مقلد في مدح هذا وذم هذا . [ ص: 303 ] ومثال ذلك من ذاق طعم الجوع ثم ذاق طعم الشبع بعده أو ذاق المرض ثم ذاق طعم العافية بعده أو ذاق الخوف ثم ذاق الأمن بعده فإن محبة هذا ورغبته في العافية والأمن والشبع ونفوره عن الجوع والخوف والمرض أعظم ممن لم يبتل بذلك ولم يعرف حقيقته .

وكذلك من دخل مع أهل البدع والفجور ثم بين الله له الحق وتاب عليه توبة نصوحا ورزقه الجهاد في سبيل الله فقد يكون بيانه لحالهم وهجره لمساويهم ; وجهاده لهم أعظم من غيره قال نعيم بن حماد الخزاعي - وكان شديدا على الجهمية - أنا شديد عليهم ; لأني كنت منهم .

وقد قال الله تعالى : { ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم } نزلت هذه الآية في طائفة من الصحابة كان المشركون فتنوهم عن دينهم ثم تاب الله عليهم فهاجروا إلى الله ورسوله ; وجاهدوا وصبروا . وكان عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد رضي الله عنهما من أشد الناس على الإسلام فلما أسلما تقدما على من سبقهما إلى الإسلام ; وكان [ بعض من سبقهما ] دونهما في الإيمان والعمل الصالح بما كان عندهما من كمال الجهاد للكفار والنصر لله ورسوله ; وكان عمر لكونه أكمل إيمانا وإخلاصا وصدقا ومعرفة وفراسة ونورا أبعد عن هوى النفس وأعلى همة [ ص: 304 ] في إقامة دين الله مقدما على سائر المسلمين غير أبي بكر رضي الله عنهم أجمعين .

وهذا وغيره مما يبين أن الاعتبار بكمال النهاية لا بنقص البداية . وما يذكر في الإسرائيليات : { أن الله قال لداود : أما الذنب فقد غفرناه ; وأما الود فلا يعود } فهذا لو عرفت صحته لم يكن شرعا لنا وليس لنا أن نبني ديننا على هذا ; فإن دين محمد صلى الله عليه وسلم في التوبة جاء بما لم يجئ به شرع من قبله ; ولهذا قال ; { أنا نبي الرحمة ; وأنا نبي التوبة } وقد رفع به من الآصار والأغلال ما كان على من قبلنا . وقد قال تعالى في كتابه : { إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين } وأخبر أنه تعالى يفرح بتوبة عبده التائب أعظم من فرح الفاقد لما يحتاج إليه من الطعام والشراب والمركب إذا وجده بعد اليأس . فإذا كان هذا فرح الرب بتوبة التائب وتلك محبته ; كيف يقال : إنه لا يعود لمودته { وهو الغفور الودود } { ذو العرش المجيد } { فعال لما يريد } ولكن وده وحبه بحسب ما يتقرب إليه العبد بعد التوبة ; فإن كان ما يأتي به من محبوبات الحق بعد التوبة أفضل مما كان يأتي به قبل ذلك كانت مودته له بعد التوبة أعظم من مودته له قبل التوبة . وإن كان أنقص [ ص: 305 ] كان الأمر أنقص ; فإن الجزاء من جنس العمل ; وما ربك بظلام للعبيد .

وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { يقول الله تعالى : من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب ; وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها : فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي ; ولئن سألني لأعطينه ; ولئن استعاذني لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه } . ومعلوم أن أفضل الأولياء بعد الأنبياء هم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ; وكانت محبة الرب لهم ومودته لهم بعد توبتهم من الكفر والفسوق والعصيان أعظم محبة ومودة ، وكلما تقربوا إليه بالنوافل بعد الفرائض أحبهم وودهم . وقد قال تعالى : { عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم } .

نزلت في المشركين الذين عادوا الله ورسوله مثل " أهل الأحزاب " كأبي سفيان بن حرب وأبي سفيان بن الحارث والحارث بن هشام وسهيل بن عمرو وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية وغيرهم . فإنهم بعد معاداتهم لله ورسوله [ ص: 306 ] جعل الله بينهم وبين الرسل والمؤمنين مودة وكانوا في ذلك متفاضلين وكان عكرمة وسهيل والحارث بن هشام أعظم مودة من أبي سفيان بن حرب ونحوه .

وقد ثبت في الصحيح { أن هند امرأة أبي سفيان أم معاوية قالت : والله يا رسول الله ما كان على وجه الأرض أهل خباء أحب إلي أن يذلوا من أهل خبائك وقد أصبحت وما على وجه الأرض أهل خباء أحب إلي أن يعزوا من أهل خبائك فذكر النبي صلى الله عليه وسلم لها نحو ذلك } . ومعلوم أن المحبة والمودة التي بين المؤمنين إنما تكون تابعة لحبهم لله تعالى فإن أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله . فالحب لله من كمال التوحيد ; والحب مع الله شرك .

قال تعالى : { ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله } فتلك المودة التي صارت بين الرسول والمؤمنين وبين الذين عادوهم من المشركين إنما كانت مودة لله ومحبة لله ومن أحب الله أحبه الله ومن ود الله وده الله فعلم أن الله أحبهم وودهم بعد التوبة كما أحبوه وودوه فكيف يقال : إن التائب إنما تحصل له المغفرة دون المودة .

وإن قال قائل : أولئك كانوا كفارا لم يعرفوا أن ما فعلوه محرم ; بل كانوا جهالا بخلاف من علم أن الفعل محرم وأتاه . [ ص: 307 ] قيل : الجواب من وجهين : ( أحدهما ) أنه ليس الأمر كذلك ; بل كان كثير من الكفار يعلمون أن محمدا رسول الله ويعادونه حسدا وكبرا وأبو سفيان قد سمع من أخبار نبوة النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يسمع غيره كما سمع من أمية بن أبي الصلت وما سمعه من هرقل ملك الروم وقد أخبر عن نفسه أنه لم يزل موقنا أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم سيظهر حتى أدخل الله عليه الإسلام وهو كاره له وقد سمع منه عام اليرموك وغيره ما دل على حسن إسلامه ومحبته لله ورسوله بعد تلك العداوة العظيمة . وقد قال تعالى : { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما } { يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا } { إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات } فإذا كان الله يبدل سيئاتهم حسنات فالحسنات توجب مودة الله لهم ، وتبديل السيئات حسنات ليس مختصا بمن كان كافرا وقد قال تعالى : { إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما } قال أبو العالية : سألت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية فقالوا لي : كل من عصى الله فهو [ ص: 308 ] جاهل وكل من تاب قبل الموت فقد تاب من قريب .

( الوجه الثاني ) : أن ما ذكر من الفرق بين تائب وتائب في محبة الله تعالى للتائبين فرق لا أصل له ; بل الكتاب والسنة يدل على أن الله يحب التوابين ويفرح بتوبة التائبين سواء كانوا عالمين بأن ما أتوه ذنبا أو لم يكونوا عالمين بذلك . ومن علم أن ما أتاه ذنبا ثم تاب فلا بد أن يبدل وصفه المذموم بالمحمود ; فإذا كان يبغض الحق فلا بد أن يحبه وإذا كان يحب الباطل فلا بد أن يبغضه . فما يأتي به التائب من معرفة الحق ومحبته والعمل به ومن بغض الباطل واجتنابه هو من الأمور التي يحبها الله تعالى ويرضاها ، ومحبة الله كذلك بحسب ما يأتي به العبد من محابه فكل من كان أعظم فعلا لمحبوب الحق كان الحق أعظم محبة له وانتقاله من مكروه الحق إلى محبوبه مع قوة بغض ما كان عليه من الباطل وقوة حب ما انتقل إليه من حب الحق ; فوجب زيادة محبة الحق له ومودته إياه ; بل يبدل الله سيئاته حسنات لأنه بدل صفاته المذمومة بالمحمودة فيبدل الله سيئاته حسنات . فإن الجزاء من جنس العمل . وحينئذ فإذا كان إتيان التائب بما يحبه الحق أعظم من إتيان غيره كانت محبة الحق له أعظم وإذا كان فعله لما يوده الله منه أعظم من فعله له قبل التوبة كانت [ ص: 309 ] مودة الله له بعد التوبة أعظم من مودته له قبل التوبة فكيف يقال : الود لا يعود .

وبهذا يظهر جواب شبهة من يقول : إن الله لا يبعث نبيا إلا من كان معصوما قبل النبوة كما يقول ذلك طائفة من الرافضة وغيرهم وكذلك من قال : إنه لا يبعث نبيا إلا من كان مؤمنا قبل النبوة فإن هؤلاء توهموا أن الذنوب تكون نقصا وإن تاب التائب منها وهذا منشأ غلطهم فمن ظن أن صاحب الذنوب مع التوبة النصوح يكون ناقصا فهو غالط غلطا عظيما فإن الذم والعقاب الذي يلحق أهل الذنوب لا يلحق التائب منه شيء أصلا ; لكن إن قدم التوبة لم يلحقه شيء وإن أخر التوبة فقد يلحقه ما بين الذنوب والتوبة من الذم والعقاب ما يناسب حاله . والأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه كانوا لا يؤخرون التوبة ; بل يسارعون إليها ويسابقون إليها ; لا يؤخرون ولا يصرون على الذنب بل هم معصومون من ذلك ، ومن أخر ذلك زمنا قليلا كفر الله ذلك بما يبتليه به كما فعل بذي النون صلى الله عليه وسلم هذا على المشهور أن إلقاءه كان بعد النبوة ; وأما من قال إن إلقاءه كان قبل النبوة فلا يحتاج إلى هذا . [ ص: 310 ] والتائب من الكفر والذنوب قد يكون أفضل ممن لم يقع في الكفر والذنوب ; وإذا كان قد يكون أفضل فالأفضل أحق بالنبوة ممن ليس مثله في الفضيلة وقد أخبر الله عن إخوة يوسف بما أخبر من ذنوبهم وهم الأسباط الذين نبأهم الله تعالى وقد قال تعالى : { فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي } .

فآمن لوط لإبراهيم عليه السلام ثم أرسله الله تعالى إلى قوم لوط وقد قال تعالى في قصة شعيب : { قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أولو كنا كارهين } { قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شيء علما على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين } وقال تعالى : { وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين } { ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد } .

وإذا عرف أن الاعتبار بكمال النهاية وهذا الكمال إنما يحصل بالتوبة والاستغفار ولا بد لكل عبد من التوبة وهي واجبة على الأولين والآخرين . كما قال تعالى : { ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما } .

[ ص: 311 ] وقد أخبر الله سبحانه بتوبة آدم ونوح ومن بعدهما إلى خاتم المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم وآخر ما نزل عليه - أو من آخر ما نزل عليه - قوله تعالى : { إذا جاء نصر الله والفتح } { ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا } { فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا } .

وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده : سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي } يتأول القرآن . وقد أنزل الله عليه قبل ذلك : { لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم } .

وفي صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول : { يا أيها الناس توبوا إلى ربكم فوالذي نفسي بيده إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة } . وفي صحيح مسلم عن الأغر المزني عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة } . وفي السنن عن ابن عمر أنه قال : كنا نعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد يقول : " رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الغفور " مائة مرة .

وفي الصحيحين عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان [ ص: 312 ] يقول : { اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني ; اللهم اغفر لي هزلي وجدي وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به مني . أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيء قدير } . وفي الصحيحين عن أبي هريرة أنه قال : { يا رسول الله أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ماذا تقول ؟ قال : أقول : اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والبرد والماء البارد }

. وفي صحيح مسلم وغيره أنه كان يقول نحو هذا إذا رفع رأسه من الركوع وفي صحيح مسلم عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في دعاء الاستفتاح : { اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت ، أنت ربي وأنا عبدك ظلمت نفسي وعملت سوءا فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت } . وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في سجوده : { اللهم اغفر لي ذنبي كله دقه وجله علانيته وسره أوله وآخره } . [ ص: 313 ] وفي السنن عن علي { أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بدابة ليركبها وأنه حمد الله وقال { سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين } { وإنا إلى ربنا لمنقلبون } ثم كبره وحمده ثم قال : سبحانك ظلمت نفسي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ثم ضحك وقال : إن الرب يعجب من عبده إذا قال اغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ، يقول : علم عبدي أنه لا يغفر الذنوب إلا أنا } . وقد قال تعالى : { واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات } وقال : { إنا فتحنا لك فتحا مبينا } { ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر } وثبت في الصحيحين في حديث الشفاعة { أن المسيح يقول : اذهبوا إلى محمد عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر } . وفي الصحيح { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم حتى ترم قدماه فيقال له : أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال أفلا أكون عبدا شكورا } .

ونصوص الكتاب والسنة في هذا الباب كثيرة متظاهرة والآثار في ذلك عن الصحابة والتابعين وعلماء المسلمين كثيرة . لكن المنازعون يتأولون هذه النصوص من جنس تأويلات الجهمية والباطنية كما فعل ذلك من صنف في هذا الباب . وتأويلاتهم تبين لمن [ ص: 314 ] تدبرها أنها فاسدة من باب تحريف الكلم عن مواضعه . كتأويلهم قوله { ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر } المتقدم ذنب آدم والمتأخر ذنب أمته وهذا معلوم البطلان ويدل على ذلك وجوه : ( أحدها ) أن آدم قد تاب الله عليه قبل أن ينزل إلى الأرض فضلا عن عام الحديبية الذي أنزل الله فيه هذه السورة قال تعالى : { وعصى آدم ربه فغوى }

{ ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى } وقال : { فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم } وقد ذكر أنه قال : { ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين } .

و ( الثاني ) أن يقال : فآدم عندكم من جملة موارد النزاع ولا يحتاج أن يغفر له ذنبه عند المنازع فإنه نبي أيضا ، ومن قال : إنه لم يصدر من الأنبياء ذنب يقول ذلك عن آدم ومحمد وغيرهما .

( الوجه الثالث ) أن الله لا يجعل الذنب ذنبا لمن لم يفعله فإنه هو القائل : { ولا تزر وازرة وزر أخرى } . فمن الممتنع أن يضاف إلى محمد صلى الله عليه وسلم ذنب آدم صلى الله عليه وسلم أو أمته أو غيرهما . وقد قال تعالى : { فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم } وقال تعالى : { فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك } ولو جاز هذا لجاز [ ص: 315 ] أن يضاف إلى محمد ذنوب الأنبياء كلهم ويقال : إن قوله { ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر } المراد ذنوب الأنبياء وأممهم قبلك فإنه يوم القيامة يشفع للخلائق كلهم وهو سيد ولد آدم وقال : { أنا سيد ولد آدم ولا فخر وآدم فمن دونه تحت لوائي يوم القيامة . أنا خطيب الأنبياء إذا وفدوا وإمامهم إذا اجتمعوا } وحينئذ فلا يختص آدم بإضافة ذنبه إلى محمد بل تجعل ذنوب الأولين والآخرين على قول هؤلاء ذنوبا له . فإن قال : إن الله لم يغفر ذنوب جميع الأمم قيل : وهو أيضا لم يغفر ذنوب جميع أمته .

( الوجه الرابع ) أنه قد ميز بين ذنبه وذنوب المؤمنين بقوله { واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات } فكيف يكون ذنب المؤمنين ذنبا له .

( الوجه الخامس ) أنه ثبت في الصحيح أن هذه الآية لما نزلت قال الصحابة يا رسول الله هذا لك فما لنا فأنزل الله { هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم } فدل ذلك على أن الرسول والمؤمنين علموا أن قوله { ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر } مختص به دون أمته .

( الوجه السادس ) أن الله لم يغفر ذنوب جميع أمته بل قد ثبت [ ص: 316 ] أن من أمته من يعاقب بذنوبه إما في الدنيا وإما في الآخرة وهذا مما تواتر به النقل وأخبر به الصادق المصدوق واتفق عليه سلف الأمة وأئمتها وشوهد في الدنيا من ذلك ما لا يحصيه إلا الله وقد قال الله تعالى : { ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به } والاستغفار والتوبة قد يكونان من ترك الأفضل . فمن نقل إلى حال أفضل مما كان عليه قد يتوب من الحال الأول ; لكن الذم والوعيد لا يكون إلا على ذنب .

فصل وأما قول السائل : هل الاعتراف بالخطيئة بمجرده مع التوحيد موجب لغفرانها وكشف الكربة الصادرة عنها ; أم يحتاج إلى شيء آخر ؟ فجوابه : أن الموجب للغفران مع التوحيد هو التوبة المأمور بها ; فإن الشرك لا يغفره الله إلا بتوبة ; كما قال تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } في موضعين من القرآن وما دون الشرك فهو مع التوبة مغفور ; وبدون التوبة معلق بالمشيئة .

كما قال تعالى : { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا } فهذا في حق التائبين ولهذا عمم وأطلق وحتم أنه يغفر الذنوب جميعا وقال في تلك الآية : { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } فخص ما دون الشرك وعلقه بالمشيئة ، فإذا كان الشرك لا يغفر إلا بتوبة ; وأما ما دونه فيغفره الله للتائب ; وقد يغفره بدون التوبة لمن يشاء ، فالاعتراف بالخطيئة مع التوحيد إن كان متضمنا للتوبة أوجب المغفرة ; وإذا غفر الذنب زالت عقوبته ; فإن المغفرة هي وقاية شر الذنب .

ومن الناس من يقول : الغفر الستر ويقول : إنما سمي المغفرة والغفار لما فيه من معنى الستر ، وتفسير اسم الله الغفار بأنه الستار وهذا تقصير في معنى الغفر ; فإن المغفرة معناها وقاية شر الذنب بحيث لا يعاقب على الذنب فمن غفر ذنبه لم يعاقب عليه . وأما مجرد ستره فقد يعاقب عليه في الباطن ومن عوقب على الذنب باطنا أو ظاهرا فلم يغفر له وإنما يكون غفران الذنب إذا لم يعاقب عليه العقوبة المستحقة بالذنب . وأما إذا ابتلي مع ذلك بما يكون سببا في حقه لزيادة أجره فهذا لا ينافي المغفرة .

[ ص: 318 ] وكذلك إذا كان من تمام التوبة أن يأتي بحسنات يفعلها فإن ما يشترط في التوبة من تمام التوبة ; وقد يظن الظان أنه تائب ولا يكون تائبا بل يكون تاركا والتارك غير التائب فإنه قد يعرض عن الذنب لعدم خطوره بباله أو المقتضي لعجزه عنه أو تنتفي إرادته له بسبب غير ديني ، وهذا ليس بتوبة بل لا بد من أن يعتقد أنه سيئة ويكره فعله لنهي الله عنه ويدعه لله تعالى ; لا لرغبة مخلوق ولا لرهبة مخلوق ; فإن التوبة من أعظم الحسنات ; والحسنات كلها يشترط فيها الإخلاص لله وموافقة أمره كما قال الفضيل بن عياض في قوله : { ليبلوكم أيكم أحسن عملا } قال أخلصه وأصوبه قالوا : يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه ؟ قال : إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل ; حتى يكون خالصا صوابا . والخالص أن يكون لله والصواب أن يكون على السنة .

وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول في دعائه : اللهم اجعل عملي كله صالحا واجعله لوجهك خالصا ولا تجعل لأحد فيه شيئا . وبسط الكلام في التوبة له موضع آخر . وأما الاعتراف بالذنب على وجه الخضوع لله من غير إقلاع عنه فهذا في نفس الاستغفار المجرد الذي لا توبة معه وهو كالذي يسأل [ ص: 319 ] الله تعالى أن يغفر له الذنب مع كونه لم يتب منه وهذا يأس من رحمة الله ولا يقطع بالمغفرة له فإنه داع دعوة مجردة .

وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { ما من داع يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا كان بين إحدى ثلاث : إما أن يعجل له دعوته وإما أن يدخر له من الجزاء مثلها ; وإما أن يصرف عنه من الشر مثلها . قالوا : يا رسول الله : إذا نكثر قال : الله أكثر } فمثل هذا الدعاء قد تحصل معه المغفرة وإذا لم تحصل فلا بد أن يحصل معه صرف شر آخر أو حصول خير آخر فهو نافع كما ينفع كل دعاء .

وقول من قال من العلماء : الاستغفار مع الإصرار توبة الكذابين ، فهذا إذا كان المستغفر يقوله على وجه التوبة أو يدعي أن استغفاره توبة وأنه تائب بهذا الاستغفار فلا ريب أنه مع الإصرار لا يكون تائبا فإن التوبة والإصرار ضدان : الإصرار يضاد التوبة لكن لا يضاد الاستغفار بدون التوبة . وقول القائل : هل الاعتراف بالذنب المعين يوجب دفع ما حصل بذنوب متعددة أم لا بد من استحضار جميع الذنوب ؟ فجواب هذا مبني على أصول : [ ص: 320 ] ( أحدها ) أن التوبة تصح من ذنب مع الإصرار على ذنب آخر إذا كان المقتضي للتوبة من أحدهما أقوى من المقتضي للتوبة من الآخر أو كان المانع من أحدهما أشد وهذا هو القول المعروف عند السلف والخلف .

وذهب طائفة من أهل الكلام كأبي هاشم إلى أن التوبة لا تصح من قبيح مع الإصرار على الآخر قالوا : لأن الباعث على التوبة إن لم يكن من خشية الله لم يكن توبة صحيحة ، والخشية مانعة من جميع الذنوب لا من بعضها وحكى القاضي أبو يعلى وابن عقيل هذا رواية عن أحمد لأن المروذي نقل عنه أنه سئل عمن تاب من الفاحشة وقال : لو مرضت لم أعد لكن لا يدع النظر فقال أحمد : أي توبة هذه قال جرير بن عبد الله { سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجأة فقال : اصرف بصرك } والمعروف عن أحمد وسائر الأئمة هو القول بصحة التوبة ، وأحمد في هذه المسألة إنما أراد أن هذه ليست توبة عامة يحصل بسببها من التائبين توبة مطلقا لم يرد أن ذنب هذا كذنب المصر على الكبائر فإن نصوصه المتواترة عنه وأقواله الثابتة تنافي ذلك وحمل كلام الإمام على ما يصدق بعضه بعضا أولى من حمله على التناقض لا سيما إذا كان القول الآخر مبتدعا لم يعرف عن أحد من السلف ، وأحمد يقول : [ ص: 321 ] إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام وكان في المحنة يقول : كيف أقول ما لم يقل ؟ واتباع أحمد للسنة والآثار وقوة رغبته في ذلك وكراهته لخلافه من الأمور المتواترة عنه يعرفها من يعرف حاله من الخاصة والعامة . وما ذكروه من أن الخشية توجب العموم . فجوابه أنه قد يعلم قبح أحد الذنبين دون الآخر ، وإنما يتوب مما يعلم قبحه .

و ( أيضا ) فقد يعلم قبحها ولكن هواه يغلبه في أحدهما دون الآخر فيتوب من هذا دون ذاك كمن أدى بعض الواجبات دون بعض ; فإن ذلك يقبل منه . ولكن المعتزلة لهم أصل فاسد وافقوا فيه الخوارج في الحكم وإن خالفوهم في الاسم فقالوا : إن أصحاب الكبائر يخلدون في النار ولا يخرجون منها بشفاعة ولا غيرها وعندهم يمتنع أن يكون الرجل الواحد ممن يعاقبه الله ثم يثيبه ; ولهذا يقولون : بحبوط جميع الحسنات بالكبيرة .

وأما الصحابة وأهل السنة والجماعة فعلى أن أهل الكبائر يخرجون [ ص: 322 ] من النار ويشفع فيهم وأن الكبيرة الواحدة لا تحبط جميع الحسنات ; ولكن قد يحبط ما يقابلها عند أكثر أهل السنة ولا يحبط جميع الحسنات إلا الكفر كما لا يحبط جميع السيئات إلا التوبة فصاحب الكبيرة إذا أتى بحسنات يبتغي بها رضا الله أثابه الله على ذلك وإن كان مستحقا للعقوبة على كبيرته . وكتاب الله عز وجل يفرق بين حكم السارق والزاني وقتال المؤمنين بعضهم بعضا وبين حكم الكفار في " الأسماء والأحكام " . والسنة المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم وإجماع الصحابة يدل على ذلك كما هو مبسوط في غير هذا الموضع .

وعلى هذا تنازع الناس في قوله : { إنما يتقبل الله من المتقين } فعلى قول الخوارج والمعتزلة لا تقبل حسنة إلا ممن اتقاه مطلقا فلم يأت كبيرة ، وعند المرجئة إنما يتقبل ممن اتقى الشرك فجعلوا أهل الكبائر داخلين في اسم " المتقين " ، وعند أهل السنة والجماعة يتقبل العمل ممن اتقى الله فيه فعمله خالصا لله موافقا لأمر الله فمن اتقاه في عمل تقبله منه وإن كان عاصيا في غيره . ومن لم يتقه فيه لم يتقبله منه وإن كان مطيعا في غيره . والتوبة من بعض الذنوب دون بعض كفعل بعض الحسنات المأمور [ ص: 323 ] بها دون بعض إذا لم يكن المتروك شرطا في صحة المفعول كالإيمان المشروط في غيره من الأعمال كما قال الله تعالى : { ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا } وقال تعالى : { ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة } وقال : { ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } .

( الأصل الثاني ) أن من له ذنوب فتاب من بعضها دون بعض فإن التوبة إنما تقتضي مغفرة ما تاب منه أما ما لم يتب منه فهو باق فيه على حكم من لم يتب لا على حكم من تاب وما علمت في هذا نزاعا إلا في الكافر إذا أسلم فإن إسلامه يتضمن التوبة من الكفر فيغفر له بالإسلام الكفر الذي تاب منه ، وهل تغفر له الذنوب التي فعلها في حال الكفر ولم يتب منها في الإسلام ؟ هذا فيه قولان معروفان : ( أحدهما ) يغفر له الجميع لإطلاق قوله صلى الله عليه وسلم { الإسلام يهدم ما كان قبله } رواه مسلم . مع قوله تعالى { قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف } .

( والقول الثاني ) أنه لا يستحق أن يغفر له بالإسلام إلا ما تاب منه ; [ ص: 324 ] فإذا أسلم وهو مصر على كبائر دون الكفر فحكمه في ذلك حكم أمثاله من أهل الكبائر وهذا القول هو الذي تدل عليه الأصول والنصوص ; فإن في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم { قال له حكيم بن حزام : يا رسول الله أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية ؟ فقال : من أحسن منكم في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر } فقد دل هذا النص على أنه إنما ترفع المؤاخذة بالأعمال التي فعلت في حال الجاهلية عمن أحسن لا عمن لا يحسن ; وإن لم يحسن أخذ بالأول والآخر ومن لم يتب منها فلم يحسن .

وقوله تعالى { قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف } يدل على أن المنتهي عن شيء يغفر له ما قد سلف منه لا يدل على أن المنتهي عن شيء يغفر له ما سلف من غيره ; وذلك لأن قول القائل لغيره : إن انتهيت غفرت لك ما تقدم ونحو ذلك يفهم منه عند الإطلاق أنك إن انتهيت عن هذا الأمر غفر لك ما تقدم منه وإذا انتهيت عن شيء غفر لك ما تقدم منه كما يفهم مثل ذلك في قوله : { إن تبت } لا يفهم منه أنك بالانتهاء عن ذنب يغفر لك ما تقدم من غيره .

وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم { الإسلام يهدم ما قبله } وفي رواية { يجب ما كان قبله } فهذا قاله لما أسلم عمرو بن العاص وطلب [ ص: 325 ] أن يغفر له ما تقدم من ذنبه فقال له : { يا عمرو أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله وأن التوبة تهدم ما كان قبلها وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها } ومعلوم أن التوبة إنما توجب مغفرة ما تاب منه ، لا توجب التوبة غفران جميع الذنوب .

( الأصل الثالث ) أن الإنسان قد يستحضر ذنوبا فيتوب منها وقد يتوب توبة مطلقة لا يستحضر معها ذنوبه لكن إذا كانت نيته التوبة العامة فهي تتناول كل ما يراه ذنبا ; لأن التوبة العامة تتضمن عزما عاما بفعل المأمور وترك المحظور وكذلك تتضمن ندما عاما على كل محظور . و " الندم " سواء قيل : إنه من باب الاعتقادات أو من باب الإرادات أو قيل : إنه من باب الآلام التي تلحق النفس بسبب فعل ما يضرها ; فإذا استشعر القلب أنه فعل ما يضره حصل له معرفة بأن الذي فعله كان من السيئات ، وهذا من باب الاعتقادات ، وكراهية لما كان فعله ، وهو من جنس الإرادات ; وحصل له أذى وغم لما كان فعله ; وهذا من باب الآلام كالغموم والأحزان كما أن الفرح والسرور هو من باب اللذات ليس هو من باب الاعتقادات والإرادات . ومن قال من المتفلسفة ومن اتبعهم : إن اللذة هي إدراك الملائم [ ص: 326 ] من حيث هو ملائم ، وأن الألم هو إدراك المنافر من حيث هو منافر ، فقد غلط في ذلك ; فإن اللذة والألم حالان يتعقبان إدراك الملائم والمنافر ، فإن الحب لما يلائمه كالطعام المشتهى مثلا له ثلاثة أحوال : ( أحدها ) الحب كالشهوة للطعام .

و ( الثاني ) إدراك المحبوب كأكل الطعام . و ( الثالث ) : اللذة الحاصلة بذلك واللذة أمر مغاير للشهوة ولذوق المشتهي ; بل هي حاصلة لذوق المشتهي ; ليست نفس ذوق المشتهي . وكذلك " المكروه " كالضرب مثلا . فإن كراهته شيء وحصوله شيء آخر والألم الحاصل به ثالث . وكذلك ما للعارفين أهل محبة الله من النعيم والسرور بذلك ; فإن حبهم لله شيء ثم ما يحصل من ذكر المحبوب شيء ثم اللذة الحاصلة بذلك أمر ثالث ولا ريب أن الحب مشروط بشعور المحبوب كما أن الشهوة مشروطة بشعور المشتهي ; لكن الشعور المشروط في اللذة غير الشعور المشروط في المحبة فهذا الثاني يسمى إدراكا وذوقا ونيلا ووجدا ووصالا ونحو ذلك مما يعبر به عن إدراك المحبوب [ ص: 327 ] سواء كان بالباطن أو الظاهر ثم هذا الذوق يستلزم اللذة واللذة أمر يحسه الحي باطنا وظاهرا .

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح { ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا } وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : { ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان : من كان الله ورسوله أحب إليه من سواهما ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار } فبين صلى الله عليه وسلم أن ذوق طعم الإيمان لمن رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا ، وأن وجد حلاوة الإيمان حاصل لمن كان حبه لله ورسوله أشد من حبه لغيرهما ومن كان يحب شخصا لله لا لغيره ومن كان يكره ضد الإيمان كما يكره أن يلقى في النار ; فهذا الحب للإيمان والكراهية للكفر استلزم حلاوة الإيمان كما استلزم الرضى المتقدم ذوق طعم الإيمان وهذا هو اللذة ; وليس هو نفس التصديق والمعرفة الحاصلة في القلب ولا نفس الحب الحاصل في القلب ; بل هذا نتيجة ذاك وثمرته ولازم له وهي أمور متلازمة فلا توجد اللذة إلا بحب وذوق وإلا فمن أحب شيئا ولم يذق منه [ ص: 328 ] شيئا لم يجد لذة كالذي يشتهي الطعام ولم يذق منه شيئا ولو ذاق ما لا يحبه لم يجد لذة كمن ذاق ما لا يريده فإذا اجتمع حب الشيء وذوقه حصلت اللذة بعد ذلك .

وإن حصل بغضه وذوق البغيض حصل الألم فالذي يبغض الذنب ولا يفعله لا يندم والذي لا يبغضه لا يندم على فعله فإذا فعله وعرف أن هذا مما يبغضه ويضره ندم على فعله إياه . وفي المسند عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { الندم توبة } . إذا تبين هذا . فمن تاب توبة عامة كانت هذه التوبة مقتضية لغفران الذنوب كلها وإن لم يستحضر أعيان الذنوب إلا أن يعارض هذا العام معارض يوجب التخصيص مثل أن يكون بعض الذنوب لو استحضره لم يتب منه ; لقوة إرادته إياه أو لاعتقاده أنه حسن ليس بقبيح فما كان لو استحضره لم يتب منه لم يدخل في التوبة وأما ما كان لو حضر بعينه لكان مما يتوب منه فإن التوبة العامة شاملته .

وأما " التوبة المطلقة " : وهي أن يتوب توبة مجملة ولا تستلزم التوبة من كل ذنب فهذه لا توجب دخول كل فرد من أفراد الذنوب فيها ولا تمنع دخوله كاللفظ المطلق ; لكن هذه تصلح أن تكون سببا لغفران المعين . كما تصلح أن تكون سببا لغفران الجميع ; بخلاف [ ص: 329 ] العامة فإنها مقتضية للغفران العام كما تناولت الذنوب تناولا عاما . وكثير من الناس لا يستحضر عند التوبة إلا بعض المتصفات بالفاحشة أو مقدماتها أو بعض الظلم باللسان أو اليد وقد يكون ما تركه من المأمور الذي يجب لله عليه في باطنه وظاهره من شعب الإيمان وحقائقه أعظم ضررا عليه مما فعله من بعض الفواحش فإن ما أمر الله به من حقائق الإيمان التي بها يصير العبد من المؤمنين حقا أعظم نفعا من نفع ترك بعض الذنوب الظاهرة كحب الله ورسوله ; فإن هذا أعظم الحسنات الفعلية حتى ثبت في الصحيح { أنه كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم رجل يدعى حمارا وكان يشرب الخمر وكان كلما أتي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم جلده الحد فلما كثر ذلك منه أتي به مرة فأمر بجلده فلعنه رجل فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله } . فنهى عن لعنه مع إصراره على الشرب لكونه يحب الله ورسوله مع أنه صلى الله عليه وسلم لعن في الخمر عشرة : { لعن الخمر وعاصرها ومعتصرها وشاربها وساقيها وحاملها والمحمولة إليه وبائعها ومبتاعها وآكل ثمنها } . ولكن لعن المطلق لا يستلزم لعن المعين الذي قام به ما يمنع لحوق اللعنة له .

[ ص: 330 ] وكذلك " التكفير المطلق " و " الوعيد المطلق " . ولهذا كان الوعيد المطلق في الكتاب والسنة مشروطا بثبوت شروط وانتفاء موانع فلا يلحق التائب من الذنب باتفاق المسلمين ، ولا يلحق من له حسنات تمحو سيئاته ولا يلحق المشفوع له والمغفور له ; فإن الذنوب تزول عقوبتها التي هي جهنم بأسباب التوبة والحسنات الماحية والمصائب المكفرة - لكنها من عقوبات الدنيا - وكذلك ما يحصل في البرزخ من الشدة ، وكذلك ما يحصل في عرصات القيامة ، وتزول أيضا بدعاء المؤمنين : كالصلاة عليه وشفاعة الشفيع المطاع كمن يشفع فيه سيد الشفعاء { محمد } صلى الله عليه وسلم تسليما .

وحينئذ فأي ذنب تاب منه ارتفع موجبه وما لم يتب منه فله حكم الذنوب التي لم يتب منها فالشدة إذا حصلت بذنوب وتاب من بعضها خفف منه بقدر ما تاب منه بخلاف ما لم يتب منه ; بخلاف صاحب التوبة العامة . والناس في غالب أحوالهم لا يتوبون توبة عامة مع حاجتهم إلى ذلك فإن التوبة واجبة على كل عبد في كل حال ; لأنه دائما يظهر له ما فرط فيه من ترك مأمور أو ما اعتدى فيه من فعل محظور فعليه أن يتوب دائما . والله أعلم .

[ ص: 331 ] وأما قول السائل : ما السبب في أن الفرج يأتي عند انقطاع الرجاء عن الخلق ؟ وما الحيلة في صرف القلب عن التعلق بهم وتعلقه بالله ؟ فيقال : سبب هذا تحقيق التوحيد : " توحيد الربوبية " و " توحيد الإلهية " .

" فتوحيد الربوبية " أنه لا خالق إلا الله فلا يستقل شيء سواه بإحداث أمر من الأمور ; بل ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ; فكل ما سواه إذا قدر سببا فلا بد له من شريك معاون وضد معوق فإذا طلب مما سواه إحداث أمر من الأمور طلب منه ما لا يستقل به ولا يقدر وحده عليه حتى ما يطلب من العبد من الأفعال الاختيارية لا يفعلها إلا بإعانة الله له كأن يجعله فاعلا لها بما يخلقه فيه من الإرادة الجازمة ويخلقه له من القدرة التامة وعند وجود القدرة التامة والإرادة الجازمة يجب وجود المقدور . فمشيئة الله وحده مستلزمة لكل ما يريده فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وما سواه لا تستلزم إرادته شيئا ; بل ما أراده لا يكون إلا بأمور خارجة عن مقدوره إن لم يعنه الرب بها لم يحصل مراده ونفس إرادته لا تحصل إلا بمشيئة الله تعالى . كما قال تعالى : { لمن شاء منكم أن يستقيم } { وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين } وقال [ ص: 332 ] تعالى : { فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا }

{ وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما } { يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذابا أليما } وقال : { فمن شاء ذكره } { وما يذكرون إلا أن يشاء الله هو أهل التقوى وأهل المغفرة } .

والراجي لمخلوق طالب بقلبه لما يريده من ذلك المخلوق ، وذلك المخلوق عاجز عنه ثم هذا من الشرك الذي لا يغفره الله فمن كمال نعمته وإحسانه إلى عباده المؤمنين أن يمنع حصول مطالبهم بالشرك حتى يصرف قلوبهم إلى التوحيد ثم إن وحده العبد توحيد الإلهية حصلت له سعادة الدنيا والآخرة . وإن كان ممن قيل فيه : { وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون } وفي قوله : { وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا } كان ما حصل له من وحدانيته حجة عليه . كما احتج سبحانه على المشركين الذين يقرون بأنه خالق كل شيء ثم يشركون ولا يعبدونه وحده لا شريك له قال تعالى : { قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون } { سيقولون لله قل أفلا تذكرون } [ ص: 333 ] { قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم } { سيقولون لله قل أفلا تتقون } { قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون } { سيقولون لله قل فأنى تسحرون } وقال تعالى : { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون } وهذا قد ذكر في القرآن في غير موضع . فمن تمام نعمة الله على عباده المؤمنين أن ينزل بهم الشدة والضر وما يلجئهم إلى توحيده فيدعونه مخلصين له الدين ويرجونه لا يرجون أحدا سواه وتتعلق قلوبهم به لا بغيره فيحصل لهم من التوكل عليه والإنابة إليه وحلاوة الإيمان وذوق طعمه والبراءة من الشرك ما هو أعظم نعمة عليهم من زوال المرض والخوف أو الجدب أو حصول اليسر وزوال العسر في المعيشة فإن ذلك لذات بدنية ونعم دنيوية قد يحصل للكافر منها أعظم مما يحصل للمؤمن .

وأما ما يحصل لأهل التوحيد المخلصين لله الدين فأعظم من أن يعبر عن كنهه مقال أو يستحضر تفصيله بال ولكل مؤمن من ذلك نصيب بقدر إيمانه ولهذا قال بعض السلف : يا ابن آدم لقد بورك لك في حاجة أكثرت فيها من قرع باب سيدك .

وقال بعض الشيوخ : إنه ليكون لي إلى الله حاجة فأدعوه فيفتح لي من لذيذ معرفته وحلاوة مناجاته ما لا أحب معه أن يعجل قضاء حاجتي خشية أن تنصرف نفسي [ ص: 334 ] عن ذلك ; لأن النفس لا تريد إلا حظها فإذا قضي انصرفت . وفي بعض الإسرائيليات يا ابن آدم البلاء يجمع بيني وبينك والعافية تجمع بينك وبين نفسك . وهذا المعنى كثير وهو موجود مذوق محسوس بالحس الباطن للمؤمن وما من مؤمن إلا وقد وجد من ذلك ما يعرف به ما ذكرناه فإن ذلك من باب الذوق والحس لا يعرفه إلا من كان له ذوق وحس بذلك .

ولفظ " الذوق " وإن كان قد يظن أنه في الأصل مختص بذوق اللسان فاستعماله في الكتاب والسنة يدل على أنه أعم من ذلك مستعمل في الإحساس بالملائم والمنافر كما أن لفظ " الإحساس " في عرف الاستعمال عام فيما يحس بالحواس الخمس بل وبالباطن . وأما في اللغة فأصله " الرؤية " كما قال : { هل تحس منهم من أحد } .

و ( المقصود ) لفظ " الذوق " قال تعالى : { فأذاقها الله لباس الجوع والخوف } فجعل الخوف والجوع مذوقا ; وأضاف إليهما اللباس ليشعر أنه لبس الجائع والخائف فشمله وأحاط به إحاطة اللباس باللابس ; [ ص: 335 ] بخلاف من كان الألم لا يستوعب مشاعره بل يختص ببعض المواضع وقال تعالى : فذوقوا العذاب الأليم وقال تعالى : { ذق إنك أنت العزيز الكريم } وقال تعالى : { ذوقوا مس سقر } وقال : { لا يذوقون فيها الموت } وقال تعالى : { لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا } { إلا حميما وغساقا } وقال : { ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر } وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم { ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا } . فاستعمال لفظ " الذوق " في إدراك الملائم والمنافر كثير . وقال النبي صلى الله عليه وسلم { ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان } كما تقدم ذكر الحديث . فوجود المؤمن حلاوة الإيمان في قلبه ، وذوق طعم الإيمان أمر يعرفه من حصل له هذا الوجد . وهذا الذوق أصحابه فيه يتفاوتون فالذي يحصل لأهل الإيمان عند تجريد توحيد قلوبهم إلى الله وإقبالهم عليه دون ما سواه بحيث يكونون حنفاء له مخلصين له الدين لا يحبون شيئا إلا له ولا يتوكلون إلا عليه ولا يوالون إلا فيه ولا يعادون إلا له ولا يسألون إلا إياه ولا يرجون إلا إياه ولا يخافون إلا إياه يعبدونه ويستعينون له وبه بحيث يكونون عند الحق بلا خلق وعند الخلق بلا هوى ; قد فنيت عنهم إرادة ما سواه بإرادته ومحبة ما سواه بمحبته وخوف [ ص: 336 ] ما سواه بخوفه ورجاء ما سواه برجائه ودعاء ما سواه بدعائه هو أمر لا يعرفه بالذوق والوجد إلا من له نصيب وما من مؤمن إلا له منه نصيب .

وهذا هو حقيقة الإسلام الذي بعث الله به الرسل وأنزل به الكتب وهو قطب القرآن الذي تدور عليه رحاه . والله سبحانه أعلم . [ ص: 337 ] قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى فصل " الفناء " الذي يوجد في كلام الصوفية يفسر بثلاثة أمور .

( أحدها ) : فناء القلب عن إرادة ما سوى الرب والتوكل عليه وعبادته وما يتبع ذلك ، فهذا حق صحيح وهو محض التوحيد والإخلاص وهو في " الحقيقة " عبادة القلب وتوكله واستعانته وتألهه وإنابته وتوجهه إلى الله وحده لا شريك له وما يتبع ذلك من المعارف والأحوال . وليس لأحد خروج عن هذا . وهذا هو " القلب السليم " الذي قال الله فيه : { إلا من أتى الله بقلب سليم } وهو سلامة القلب عن الاعتقادات الفاسدة . والإرادات الفاسدة وما يتبع ذلك . [ ص: 338 ] وهذا " الفناء " لا ينافيه البقاء ; بل يجتمع هو والبقاء فيكون العبد فانيا عن إرادة ما سواه وإن كان شاعرا بالله وبالسوى وترجمته قول لا إله إلا الله وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول : { لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن } وهذا في " الجملة " هو أول الدين وآخره .

( الأمر الثاني ) : فناء القلب عن شهود ما سوى الرب فذاك فناء عن الإرادة وهذا فناء عن الشهادة . ذاك فناء عن عبادة الغير والتوكل عليه وهذا فناء عن العلم بالغير والنظر إليه ، فهذا الفناء فيه نقص ; فإن شهود الحقائق على ما هي عليه وهو شهود الرب مدبرا لعباده آمرا بشرائعه أكمل من شهود وجوده أو صفة من صفاته أو اسم من أسمائه والفناء بذلك عن شهود ما سوى ذلك . ولهذا كان الصحابة أكمل شهودا من أن ينقصهم شهود للحق مجملا عن شهوده مفصلا ولكن عرض كثير من هذا لكثير من المتأخرين من هذه الأمة . كما عرض لهم عند تجلي بعض الحقائق : الموت والغشي والصياح والاضطراب وذلك لضعف القلب عن شهود الحقائق على ما هي عليه وعن شهود التفرقة في الجمع ، والكثرة في الوحدة حتى اختلفوا في إمكان ذلك وكثير منهم يرى أنه لا يمكن سوى ذلك لما رأى أنه إذا ذكر الخلق أو الأمر اشتغل عن الخالق الآمر . وإذا عورض بالنبي [ ص: 339 ] صلى الله عليه وسلم وخلفائه ادعى الاختصاص أو أعرض عن الجواب أو تحير في الأمر .

وسبب ذلك أنه قاس جميع الخلق على ما وجده من نفسه ; ولهذا يقول بعض هؤلاء : إنه لا يمكن حين تجلي الحق سماع كلامه ويحكى عن ابن عربي أنه لما ذكر له عن الشيخ شهاب الدين السهروردي أنه جوز اجتماع الأمرين . قال : نحن نقول له عن شهود الذات وهو يخبرنا عن شهود الصفات والصواب مع شهاب الدين فإنه كان صحيح الاعتقاد في امتياز الرب عن العبد . وإنما بنى ابن عربي على أصله الكفري في أن الحق هو الوجود الفائض على الممكنات ومعلوم أن شهود هذا لا يقع فيه خطاب وإنما الخطاب في مقام العقل . وفي هذا الفناء قد يقول : أنا الحق أو سبحاني أو ما في الجبة إلا الله إذا فني بمشهوده عن شهوده وبموجوده عن وجوده . وبمذكوره عن ذكره وبمعروفه عن عرفانه . كما يحكون أن رجلا كان مستغرقا في محبة آخر فوقع المحبوب في اليم فألقى الآخر نفسه خلفه فقال ما الذي أوقعك خلفي ؟ فقال : غبت بك عني فظننت أنك أني . وفي مثل هذا المقام يقع السكر الذي يسقط التمييز مع وجود [ ص: 340 ] حلاوة الإيمان كما يحصل بسكر الخمر وسكر عشيق الصور .

وكذلك قد يحصل الفناء بحال خوف أو رجاء كما يحصل بحال حب فيغيب القلب عن شهود بعض الحقائق ويصدر منه قول أو عمل من جنس أمور السكارى وهي شطحات بعض المشايخ : كقول بعضهم : أنصب خيمتي على جهنم ونحو ذلك من الأقوال والأعمال المخالفة للشرع ; وقد يكون صاحبها غير مأثوم وإن لم يكن فيشبه هذا الباب أمر خفراء العدو ومن يعين كافرا أو ظالما بحال ويزعم أنه مغلوب عليه . ويحكم [ على ] هؤلاء أن أحدهم إذا زال عقله بسبب غير محرم فلا جناح عليهم فيما يصدر عنهم من الأقوال والأفعال المحرمة بخلاف ما إذا كان سبب زوال العقل والغلبة أمرا محرما . وهذا كما قلنا في عقلاء المجانين والمولهين الذين صار ذلك لهم مقاما دائما كما أنه يعرض لهؤلاء في بعض الأوقات كما قال بعض العلماء ذلك في من زال عقله حتى ترك شيئا من الواجبات . إن كان زواله بسبب غير محرم مثل الإغماء بالمرض أو أسقي مكرها شيئا يزيل عقله فلا إثم عليه وإن زال بشرب الخمر ونحو ذلك من الأحوال المحرمة أثم بترك الواجب وكذلك الأمر في فعل المحرم .

وكما أنه لا جناح عليهم فلا يجوز الاقتداء بهم ولا حمل كلامهم وفعالهم على الصحة بل هم في الخاصة مثل الغافل والمجنون في التكاليف [ ص: 341 ] الظاهرة ; وقال فيهم بعض العلماء هؤلاء قوم أعطاهم الله عقولا وأحوالا فسلب عقولهم وترك أحوالهم وأسقط ما فرض بما سلب . ولهذا اتفق العارفون على أن حال البقاء أفضل من ذلك وهو شهود الحقائق بإشهاد الحق كما قال الله تعالى فيما روى عنه رسوله : { ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه . فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي } وفي رواية { وبي ينطق وبي يعقل } فإذا سمع بالحق ورأى به سمع الأمر على ما هو عليه وشهد الحق على ما هو عليه .

وعامة ما تجده في كتب أصحاء الصوفية مثل شيخ الإسلام ومن قبله من الفناء هو هذا مع أنه قد يغلط بعضهم في بعض أحكامه كما تكلمت عليه في غير هذا الموضع . وفي الجملة فهذا الفناء صحيح وهو في عيسوية المحمدية وهو شبيه بالصعق والصياح الذي حدث في التابعين .

ولهذا يقع كثير من هؤلاء في نوع ضلال ; لأن الفناء عن شهود الحقائق مرجعه إلى عدم العلم والشهود . وهو وصف نقص لا وصف كمال وإنما يمدح من جهة [ ص: 342 ] عدم إرادة ما سواه ; لأن ذكر المخلوق قد يدعو إلى إرادته والفتنة به . ولهذا غالب عباد " العيسوية " في عدم العلم بالسوى وإرادته والفتنة به ويوصفون بسلامة القلوب . وغالب علماء " الموسوية " في العلم بالسوى وإرادته والفتنة به ويوصفون بالعلم ; لكن الأولون موصوفون بالجهل والعدل . والآخرون موصوفون بالظلم وكلاهما صحيح . فأما العلم بالحق والخلق وإرادة الله وحده لا شريك له فهذا نعت المحمدية الكاملون في العلم والإرادة وسلامة القلب المحمودة هي سلامة إذ الجهل لا يكون بنفسه صفة مدح . إلا أنه قد يمدح لسلامته به عن الشرور ; فإن أكثر النفوس إذا عرفت الشر الذي تهواه اتبعته أو فزعت منه أو فتنها .

( الثالث ) : فناء عن وجود السوى : بمعنى أنه يرى أن الله هو الوجود وأنه لا وجود لسواه لا به ولا بغيره وهذا القول والحال للاتحادية الزنادقة من المتأخرين كالبلياني والتلمساني والقونوني ونحوهم الذين يجعلون الحقيقة أنه عين الموجودات وحقيقة الكائنات وأنه [ ص: 343 ] لا وجود لغيره ; لا بمعنى أن قيام الأشياء به ووجودها به كما قال النبي صلى الله عليه وسلم [ أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد ]

ألا كل شيء ما خلا الله باطل

. وكما قيل في قوله : { كل شيء هالك إلا وجهه } فإنهم لو أرادوا ذلك لكان ذلك هو الشهود الصحيح ; لكنهم يريدون أنه هو عين الموجودات فهذا كفر وضلال ربما تمسك أصحابه بألفاظ متشابهة توجد في كلام بعض المشايخ . كما تمسك النصارى بألفاظ متشابهة تروى عن المسيح . ويرجعون إلى وجد فاسد أو قياس فاسد . فتدبر هذا التقسيم فإنه بيان الصراط المستقيم .

[ ص: 344 ] وقال شيخ الإسلام قدس الله روحه فصل " الأمر والنهي " الذي يسميه بعض العلماء " التكليف الشرعي " هو مشروط بالممكن من العلم والقدرة فلا تجب الشريعة على من لا يمكنه العلم كالمجنون والطفل ، ولا تجب على من يعجز كالأعمى والأعرج والمريض في الجهاد ; وكما لا تجب الطهارة بالماء والصلاة قائما والصوم وغير ذلك على من يعجز عنه . سواء قيل : يجوز تكليف ما لا يطاق أو لم يجز ; فإنه لا خلاف أن تكليف العاجز الذي لا قدرة له على الفعل بحال غير واقع في [ ص: 345 ] الشريعة بل قد تسقط الشريعة التكليف عمن لم تكمل فيه أداة العلم والقدرة تخفيفا عنه وضبطا لمناط التكليف وإن كان تكليفه ممكنا كما رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم وإن كان له فهم وتمييز ; لكن ذاك لأنه لم يتم فهمه ; ولأن العقل يظهر في الناس شيئا فشيئا ; وهم يختلفون فيه ، فلما كانت الحكمة خفية ومنتشرة قيدت بالبلوغ .

وكما لا يجب الحج إلا على من ملك زادا وراحلة عند جمهور العلماء ; مع إمكان المشي لما فيه من المشقة وكما لا يجب الصوم على المسافر مع إمكانه منه تخفيفا عليه وكما تسقط الواجبات بالمرض الذي يخاف معه زيادة المرض وتأخر البرء وإن كان فعلها ممكنا . لكن هذه المواضع هي مما تختلف فيها الشرائع ; فقد يوجب الله في شريعة ما يشق ، ويحرم ما يشق تحريمه : كالآصار والأغلال التي كانت على بني إسرائيل وقد يخفف في شريعة أخرى كما قال المؤمنون : { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا } وكما قال الله تعالى : { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } وقال تعالى { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج } وقال : { وما جعل عليكم في الدين من حرج } وقال : { يريد الله أن يخفف عنكم } [ ص: 346 ] وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه في قصة الأعرابي : { إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين } وقال لمعاذ وأبي موسى : { يسرا ولا تعسرا } وقال : { إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه } وقال : { لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم فإن أقواما شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم } وقال : { لا رهبانية في الإسلام } وقال { لكني أصوم وأفطر وأقوم وأنام وأتزوج النساء وآكل اللحم فمن رغب عن سنتي فليس مني } وقال : { إن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يكره أن تؤتى معصيته } وروي عنه أنه قال : { بعثت بالحنيفية السمحة } .

وأما كون الإنسان مريدا لما أمر به أو كارها له فهذا لا تلتفت إليه الشرائع بل ولا أمر عاقل بل الإنسان مأمور بمخالفة هواه . و " الإرادة " هي الفارقة بين أهل الجنة وأهل النار كما قال تعالى : { من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا }

{ ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا } وقال تعالى : { تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا } وقال تعالى : { من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها } الآية وقال تعالى : { ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه } ونظائره كثيرة . فإن هذه الأصول ممهدة في الكتاب والسنة وكلام العلماء والعارفين وليس الغرض هنا تقريرها . وإنما الغرض شيء آخر وهو أنه إذا كان التكليف مشروطا بالتمكن من العلم الذي أصله العقل وبالقدرة على الفعل فنقول : كل من هذين قد يزول بأسباب محظورة وبأسباب غير محظورة

فإذا أزال عقله بشرب الخمر أو البنج ونحوهما لم يزل عنه بذلك إثم بما يتركه من الواجبات ويفعله من المحرمات إذا كان السكر يقتضي ذلك ; بخلاف ما إذا زال بسبب غير محرم كالإغماء لمرض أو خوف أو سكر بشرب غير محرم مثل أن يجرع الخمر مكرها فإن هذا لا إثم عليه . وأما قضاء الصلاة عليه عند أحمد وعند من يقول : يقضي صلاة يوم وليلة فذاك نظير وجوب قضائها على النائم والناسي ولا إثم عليهما كما قال النبي صلى الله عليه وسلم { ليس في النوم تفريط وإنما التفريط في اليقظة } وقال : { من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها لا كفارة لها إلا ذلك } [ ص: 348 ] وكذلك " قدرة العبد " فإنه لو فرط بعد وجوب الحج عليه حتى ضيع ماله بقي الحج في ذمته وكذلك في استحلال المحرمات قال الله تعالى : { فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه } .

فالضرورة بسبب محظور لا تستباح بها المحرمات ; بخلاف الضرورة التي هي بسبب غير محظور . وقد اختلف العلماء في العاصي بسفره هل يترخص ترخص المسافر ؟ ومذهب الشافعي وأحمد أنه لا يترخص . فالأحوال التي ترد على العباد وأهل المعرفة والزهاد ونحوهم مما توجب زوال عقل أحدهم وعلمه حتى تجعله كالمجنون والموله والسكران والنائم ، أو زوال قدرته حتى تجعله كالعاجز أو تجعله كالمضطر الذي يصدر عنه القول والفعل بغير إرادته واختياره فإن زوال العقل والقدرة قد يوجب عجزه عن أداء واجبات وقد يوجب وقوعه في محرمات .

فهؤلاء يقال فيهم : إن كان زوال ذلك بسبب غير محرم فلا حرج عليهم فيما يتركونه من الواجبات ويفعلونه من المحرمات ولا يجوز أيضا اتباعهم فيما هو خارج عن الشريعة من أقوالهم وأفعالهم ولا نذمهم على ذلك بل قد يمدحون على ما وافقوا فيه الشريعة من [ ص: 349 ] الأقوال والأعمال ويرفع عنهم اللوم فيما عذرهم فيه الشارع كما يقال في المجتهد المخطئ سواء بل المجتهد المخطئ نوع من هذا الجنس حيث سقط عنه اللوم لعجزه عن العلم . وإن كان زوال ذلك بسبب محرم استحقوا الذم والعقاب على ما يتركونه من واجب ويفعلونه من محرم .

مثال " الأول " من يسمع القرآن على الوجه المشروع فهاج له وجد يحبه أو مخافة أو رجاء فضعف عن حمله حتى مات أو صعق أو صاح صياحا عظيما أو اضطرب اضطرابا كثيرا فتولد عن ذلك ترك صلاة واجبة أو تعدى على بعض الناس فإن هذا معذور في ذلك ; فإن هذا في هذه الحال بمنزلة عقلاء المجانين المولهين الذين حصل لهم الجنون ; مع أنهم من الصالحين وأهل المعرفة إما لقوة الوارد الذي ورد عليهم ; وإما لضعف قلوبهم عن حمله ; وإما لانحراف أمزجتهم وقوة الخلط ; وإما لعارض من الجن ; فإن هؤلاء كما بلغنا عن الإمام أبي محمد المقدسي حيث سئل عنهم فقال : هؤلاء قوم أعطاهم الله عقولا وأحوالا ; فسلب عقولهم وأبقى أحوالهم وأسقط ما فرض بما سلب .

ولهذا كان هذا الصنف والذي قبله موجودا في التابعين ومن [ ص: 350 ] بعدهم ; لا سيما في عباد البصريين فإن فيهم من مات من سماع القرآن كزرارة بن أوفى وأبي جهير الضرير وغيرهما وأما الصحابة فإن حالهم كان أكمل من أن يكون فيهم مجنون أو مصعوق ; ومن هؤلاء أيضا من غلب عليه الذكر لله والتوحيد له والمحبة حتى غاب بالمذكور المشهود المحبوب المعبود عما سواه ; كما يحصل لبعض العاشقين في غيبته بمعشوقه عما سواه فيقول أحدهم في هذه الحال : أنا الحق أو سبحاني أو ما في الجبة إلا الله . ومنهم من غلب عليه حال الرجاء والرحمة حتى قال : أبسط سجادتي على جهنم . فمن قال هذا في حال زوال عقله بحيث يكون كالسكران أو الموله وكان السبب الذي أوجب ذلك غير منهي عنه شرعا فلا إثم عليه .

ومثال " الثاني " : ما قد يحصل عند سماع المكاء والتصدية لكثير من أهل السماع فإنه قد ينشد أشعارا فيها ما يخالف الشرع بأصوات مخالفة للشرع ويكون الإنسان فيه استعداد فيوجب ذلك اختلاطا وزوال عقل حتى يقتل بعضهم بعضا إما ظاهرا وإما باطنا بالهمة والقلوب ويوجب أيضا من ترك واجبات الشريعة ومن الاعتداء على المؤمنين في الدين والدنيا ما الله به عليم .

[ ص: 351 ] وكذلك قد يسلك أحدهم عبادات غير شرعية في الاعتقادات والأعمال فتورثه تلك العبادات والأعمال أحوالا قوية قاهرة يترك بها الواجبات ويفعل بها المحرمات أعظم مما يفعله الملك الجبار إذا سكر بشرب الخمر بالنفوس والأموال . وإذ خوطب أحدهم في حال صحوه وعقله قال : كنت مغلوبا وورد علي وارد فعل بي هذا والحكم للوارد وهذه حال كثير من خفراء العدو وكثير ممن يعين الكفرة والظلمة ويعتدي على المسلمين والمؤمنين من أهل الأحوال ويقول : إنه مغلوب في ذلك وإنه ورد عليه وارد أوجب ذلك وإنه خوطب بذلك الفعل . فيقال : أما زوال عقلك حتى صرت لا تفهم أمر الله ونهيه ، وزوال قدرتك حتى صرت مضطرا إلى تلك الأفعال وإن كنت صادقا في ذلك فسببه تفريطك وعدوانك أولا حتى صرت في حال المجانين والسكارى فأنت بمنزلة شارب الخمر الذي سكر منها والمتعرض للعشق حتى يعشق فيفعل فيه العشق الأفاعيل إذ لا فرق بين سكر الأصوات والصور والشراب ; فإن هذا سكر الأجسام وهذا سكر النفوس وهذا سكر الأرواح فإذا كان السبب محظورا لم يكن السكران معذورا في دين الإسلام .

[ ص: 352 ] ولهذا إنما تقع هذه الأحوال ممن فيه نصرانية يميل بسببها إلى السكر كما يفعله النصارى في الشراب والأصوات والصور ولهذا كان هؤلاء في عالم الضلال . وأما قولك : إنك خوطبت بذلك وأمرت فمن أي الجهتين ؟ أمن جهة الكلمات الدينية ؟ أم من جهة الكلمات الكونية ؟ . فالأولى مثل قوله : { إن الله يأمر بالعدل والإحسان } وقوله : { هو الذي بعث في الأميين } وقوله : { لقد أرسلنا رسلنا بالبينات } .

والثانية مثل قوله : { أمرنا مترفيها } وقوله : { بعثنا عليكم عبادا لنا } وقوله : { أنا أرسلنا الشياطين } فإن ذكرت أنه من الجهة " الأولى " فباطل بخلاف الكتاب والسنة . وإن أقررت أنه من " الثانية " فصحيح لكن هذا حال الكفار والمنافقين مثل إبليس وفرعون ونمرود وسائر من أطاع الأوامر الكونية وتبع الإرادة القدرية وأعرض عن الأوامر الشرعية ولم يقف عند الإرادة الدينية .

فتدبر هذا الأصل فإنه عظيم نافع جدا فتنكشف به الأحوال المخالفة للشرع . وانقسام أهلها إلى معذور وموزور كانقسامها إلى [ ص: 353 ] مسطور على صاحبه ومغفور بمنزلة الأحوال الصادرة عن غير أهل العبادات والزهادات من العقل والصحو ومن الإغماء والسكر والجنون ومن الاضطرار والاختيار فإن أحوال الملوك والأمراء وأحوال الهداة والعلماء وأحوال المشايخ والفقراء تشترك في هذه القاعدة الشريفة وتحكم الشريعة فيها بالفرقان . وإذا ضم إلى ذلك أن ما يصدر عن ذوي الأحوال من كشف علمي أو تأثير قدري ليس بمستلزم لولاية الله بل ولا للصلاح بل ولا للإيمان إذ قد يكون هذا الجنس في كافر ومنافق وفاسق وعاص وإنما أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون . ففرق بين ولاية الله وبين الأحوال كما فرق بين خلافة النبوة وبين جنس الملك وفرق بين العلم الذي ورثته الأنبياء وبين جنس الكلام فبين هذين النوعين خصوص وعموم فقد يكون الرجل وليا لله له حال تأثير وكشف وقد يكون وليا ليس له تلك الحال بكمالها وقد يكون له شيء من هذه الأحوال وليس وليا لله كما قد يكون خليفة نبي مطاعا وقد يكون خليفة نبي مستضعفا وقد يكون جبارا مطاعا ليس من النبوة في شيء وقد يكون عالما ليس متكلما بما يخالف كلام الأنبياء وقد يكون عالما متكلما بكلام الأنبياء .

التالي السابق


الخدمات العلمية