صفحة جزء
. فصل قال ( الشيخ عبد القادر : " وإن كنت في حال الحقيقة وهي حال الولاية : فخالف هواك ، واتبع الأمر في الجملة واتباع الأمر على " قسمين " : ( أحدهما ) : أن تأخذ من الدنيا القوت الذي هو حق النفس وتترك الحظ ، وتؤدي الفرض وتشتغل بترك الذنوب ما ظهر منها وما بطن . [ ص: 523 ] و ( القسم الثاني ) : ما كان بأمر باطن وهو أمر الحق تبارك وتعالى يأمر عبده وينهاه وإنما يتحقق هذا الأمر في المباح الذي ليس حكما في الشرع على معنى أنه ليس من قبيل النهي ولا من قبيل الأمر الواجب بل هو مهمل ترك العبد يتصرف فيه باختياره فسمي مباحا فلا يحدث العبد فيه شيئا من عنده بل ينتظر الأمر فيه فإذا أمر امتثل فيصير جميع حركاته وسكناته بالله تعالى ما في الشرع حكمه فبالشرع وما ليس له حكم في الشرع فبالأمر الباطن فحينئذ يصير محققا من أهل الحقيقة وما ليس فيه أمر باطن فهو مجرد الفعل حالة التسليم . وإن كنت في حالة حق الحق وهي حالة المحق ، والفناء حالة الأبدال المنكسري القلوب ; لأجل الحق الموحدين العارفين أرباب العلوم ، والفعل السادة الأمراء السخي الخفراء للحق خلفاء الرحمن وأجلائه وأعيانه وأحبابه عليهم السلام فاتباع الأمر فيها بمخالفتك إياك بالتبري من الحول والقوة وأن لا تكون لك إرادة وهمة في شيء ألبتة دنيا وأخرى ، عبد الملك لا عبد الملك ، وعبد الأمر لا عبد الهوى كالطفل مع الظئر والميت الغسيل مع الغاسل والمريض المغلوب على حسه مع الطبيب فيما سوى الأمر والنهي .

وقال أيضا : " اتبع الشرع في جميع ما ينزل بك إن كنت في [ ص: 524 ] حال التقوى التي هي القدم الأولى ، واتبع الأمر في حالة الولاية ووجود الهوى ولا تتجاوزه وهي القدم الثانية ، وارض بالفعل ووافق وافن في حالة البدلية والعينية والصديقية وهي المنتهى . تنح عن الطريق القذر خل عن سبيله رد نفسك وهواك كف لسانك عن الشكوى فإذا فعلت ذلك إن كان خيرا زادك المولى طيبة ولذة وسرورا ، وإن كان شرا حفظك في طاعته فيه وأزال عنك الملامة وأقعدك فيه حتى يتجاوز ويريحك عند انقضاء أجله كما ينقضي الليل فيسفر عن النهار ، والبرد في الشتاء فيسفر عن الصيف ذلك النموذج عندك فاعتبر به . ثم ذنوب وآثام وإجرام وتلويث بأنواع المعاصي والخطايا ولا يصلح لمجالسة الكريم إلا طاهر عن أنجاس الذنوب والزلات ، ولا يقبل على شدته إلا طيب من دون الدعوى والهواشات كما لا يصلح لمجالسة الملوك إلا الطاهر من الأنجاس وأنواع النتن والأوساخ فالبلايا مكفرات . قال النبي صلى الله عليه وسلم " { حمى يوم كفارة سنة } " .

قلت : فقد بين الشيخ عبد القادر - رضي الله عنه - أن لزوم الأمر والنهي لا بد منه في كل مقام ، وذكر الأحوال الثلاث التي جعلها : حال صاحب التقوى وحال الحقيقة ، وحال حق الحق وقد فسر مقصوده بأنه لا بد للعبد في كل حال من أن يريد فعل ما أمر به [ ص: 525 ] في الشرع ، وترك ما نهي عنه في الشرع وأنه إذا أمر العبد بترك إرادته فهو فيما لم يؤمر به ولم ينه عنه وهذا حق . فإنه لم يؤمر به فتكون له إرادة في وجوده ولا نهي عنه فتكون له إرادة في عدمه فيخلو في مثل هذا عن إرادة النقيضين .

وقد بين أن صاحب الحقيقة عليه أن يلزم الأمر دائما الأمر الشرعي الظاهر إن عرفه أو الأمر الباطن ، وبين أن الأمر الباطن إنما يكون فيما ليس بواجب في الشرع ولا محرم وأن مثل هذا ينتظر فيه الأمر الخاص حتى يفعله بحكم الأمر . فإن قلت : فما الفرق بين هذا وبين صاحب التقوى الذي قبله ؟ وصاحب الحق الذي بعده ؟ . قيل : أما الذي بعده الذين سماهم " الأبدال " فهم الذين لا يفعلون إلا بأمر الحق ، ولا يفعلون إلا به فلا يشهدون لأنفسهم فعلا فيما فعلوه من الطاعة ; بل يشهدون أنه هو الفاعل بهم ما قام بهم من طاعة أمره .

ولهذا قال : فاتباع الأمر فيها مخالفتك إياك بالتبري من الحول والقوة . فهؤلاء يشهدون توحيد الربوبية مع توحيد الإلهية فيشهدون [ ص: 526 ] أن الله هو الذي خلق ما قام بهم من أفعال البر والخير فلا يرون لأنفسهم حمدا ولا منة على أحد ، ويرون أن الله خالق أفعال العباد فلا يرون أحدا مسيئا إليهم ولا يرون لهم حقا على أحد إذ قد شهدوا أن الله خالق كل شيء من أفعال العباد وغيرها وهم يعلمون أن العباد لا يستحقون من أنفسهم ولا بأنفسهم على الله شيئا بل هو الذي كتب على نفسه الرحمة ويشهدون أنه يستحق أن يعبد ولا يشرك به شيء ، وأنه يستحق أن يتقى حق تقاته ، وحق تقاته أن يطاع فلا يعصى ، ويذكر فلا ينسى ، ويشكر فلا يكفر فيرون أن ما قام بهم من العمل الصالح فهو جوده وفضله وكرمه له الحمد في ذلك . ويشهدون : أنه لا حول ولا قوة إلا بالله . وأما ما قام بالعباد من أذاهم فهو خلقه وهو من عدله ، وما تركه الناس من حقوقهم التي يستحقونها على الناس فهو الذي لم يخلقه وله الحمد على كل حال على ما فعل وما لم يفعل .

ولهذا كانوا منكسرة قلوبهم ; لشهودهم وجوده الكامل ، وعدمهم المحض ، ولا أعظم انكسارا ممن لم ير لنفسه إلا العدم لا يرى له شيئا ولا يرى به شيئا . وصاحب الحقيقة الذي هو دون هذا قد شاركه في إخلاص الدين لله وأنه لا يفعل إلا ما أمر به فلا يفعل إلا لله لكن قصر عنه في شهود توحيد الربوبية ورؤيته وأنه لا حول ولا قوة إلا بالله [ ص: 527 ] وأنه ليس له في الحقيقة شيء . بل الرب هو الخالق الفاعل لكل ما قام به وأن كمال هذا الشهود لا يبقي شيئا من العجب ولا الكبر ونحو ذلك . فكلاهما قائم بالأمر مطيع لله لكن هذا يشهد أن الله هو الذي جعله مسلما مصليا وأنه في الحقيقة لم يحدث شيئا ، وذاك وإن كان يؤمن بهذا ويصدق به إذ كان مقرا بأن الله خالق أفعال العباد ; لكن قد لا يشهده شهودا يجعله فيه بمنزلة المعدوم .

وأيضا بينهما فرق من جهة ثانية : وهي أن الأول تكون له إرادة وهمة في أمور فيتركها فهو يميز في مراداته بينما يؤمر به وما ينهى عنه وما لا يؤمر به ولا ينهى عنه ; ولهذا لم يبق له مراد أصلا إلا ما أراده الرب إما أمرا به فيمتثله هو بالله وإما فعلا فيه فيفعله الله به ولهذا شبهه بالطفل مع الظئر في غير الأمر والنهي .

وأما ( الأول : الذي هو في مقام التقوى العامة فإن له شهوات للمحرمات وله التفات إلى الخلق وله رؤية نفسه فيحتاج إلى المجاهدة بالتقوى بأن يكف عن المحرمات وعن تناول الشهوات بغير الأمر فهذا يحتاج أن يميز بين ما يفعله وما لا يفعله وهو التقوى وصاحب الحقيقة لم يبق له ما يفعله إلا ما يؤمر به فقط فلا يفعل إلا ما أمر به في الشرع وما كان مباحا لم يفعل إلا ما أمر به .

[ ص: 528 ] وأما ( الثالث ) : فقد تم شهوده في أنه لا يفعل إلا لله وبالله . فلا يفعل إلا ما أمر الله به لله ويشهد أن الله هو الذي فعل ذلك في الحقيقة ولا تكون له همة إرادة أن يفعل لنفسه ولا لغير الله ولا يفعل بنفسه ولا بغير الله تعالى . و ( الثلاثة ) مشتركون في الطريق في أن كلا منهم لا يفعل إلا الطاعة لكن يتفاوتون بكمال المعرفة والشهادة وبصفاء النية والإرادة . والله أعلم

التالي السابق


الخدمات العلمية