صفحة جزء
[ ص: 109 ] وسئل رحمه الله عما يذكر من قولهم : اتخذوا مع الفقير أيادي فإن لهم دولة وأي دولة وقول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحدث مع أبي بكر رضي الله عنه وكنت بينهما كالزنجي ما معنى ذلك ؟

وقول بعض الناس لبعض : نحن في بركتك أو من وقت حللت عندنا حلت علينا البركة . ونحن في بركة هذا الشيخ المدفون عندنا . هل هو قول مشروع أم لا ؟ أفتونا مأجورين .


فأجاب : الحمد لله . أما الحديثان الأولان فكلاهما كذب وما قال عمر بن الخطاب ما ذكر عنه قط ولا روى هذا أحد بإسناد صحيح ولا ضعيف وهو كلام باطل ; فإن من كان دون عمر كان يسمع كلام النبي صلى الله عليه وسلم ويفهم ما ينفعه الله به فكيف بعمر ؟

وعمر أفضل الخلق بعد أبي بكر فكيف يكون كلام النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر بمنزلة كلام الزنجي .

[ ص: 110 ] ثم الذين يذكرون هذا الحديث من ملاحدة الباطنية ; يدعون أنهم علموا ذلك السر الذي لم يفهمه عمر . وحمله كل قوم على رأيهم الفاسد ; والنجادية يدعون أنه قولهم وأهل الحقيقة الكونية الذين ينفون الأمر والنهي والوعيد يدعون أنه قولهم .

وأهل الحلول الخاص أشباه النصارى يدعون أنه قولهم ; إلى أصناف أخر يطول تعدادها .

فهل يقول عاقل : إن عمر وهو شاهد لم يفهم ما قالا وإن هؤلاء الجهال الضلال أهل الزندقة والإلحاد والمحال علموا معنى ذلك الخطاب ولم ينقل أحد لفظه .

وإنما وضع مثل هذا الكذب ملاحدة الباطنية حتى يقول الناس : إن ما أظهره الرسل من القرآن والإيمان والشريعة له باطن يخالف ظاهره ; وكان أبو بكر يعلم ذلك الباطن دون عمر ; ويجعلون هذا ذريعة عند الجهال إلى أن يسلخوهم من دين الإسلام .

ونظير هذا ما يروونه أن عمر تزوج امرأة أبي بكر ليعرف حاله في الباطن فقالت : كنت أشم رائحة الكبد المشوية . فهذا أيضا كذب وعمر لم يتزوج امرأة أبي بكر . بل تزوجها علي بن أبي طالب وكانت قبل أبي بكر عند جعفر وهي أسماء بنت عميس وكانت من [ ص: 111 ] عقلاء النساء وعمر كان أعلم بأبي بكر من نسائه وغيرهم .

وأما الحديث الآخر وهو قوله : { اتخذوا مع الفقراء أيادي فإن لهم دولة وأي دولة } فهذا - أيضا - كذب ما رواه أحد من الناس والإحسان إلى الفقراء الذين ذكرهم الله في القرآن قال الله فيهم : { إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم } - إلى قوله - { للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله } وأهل الفيء وهم الفقراء المجاهدون الذين قال الله فيهم : { للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم } الآية . والمحسن إليهم وإلى غيرهم عليه أن يبتغي بذلك وجه الله ولا يطلب من مخلوق لا في الدنيا ولا في الآخرة .

كما قال تعالى : { وسيجنبها الأتقى } { الذي يؤتي ماله يتزكى } { وما لأحد عنده من نعمة تجزى } { إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى } { ولسوف يرضى } وقال : { ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا } { إنما نطعمكم لوجه الله } الآية .

ومن طلب من الفقراء الدعاء أو الثناء خرج من هذه الآية ; فإن في الحديث الذي في سنن أبي داود { من أسدى إليكم معروفا فكافئوه فإن لم تجدوا ما تكافئوه فادعوا له حتى تعلموا أنكم قد كافأتموه } ولهذا كانت عائشة إذا أرسلت إلى قوم بهدية تقول للرسول : اسمع ما دعوا به لنا ; حتى ندعو لهم بمثل ما دعوا ويبقى أجرنا على الله .

[ ص: 112 ] وقال بعض السلف : إذا أعطيت المسكين فقال : بارك الله عليك . فقل : بارك الله عليك . أراد أنه إذا أثابك بالدعاء فادع له بمثل ذلك الدعاء حتى لا تكون اعتضت منه شيئا . هذا والعطاء لم يطلب منهم .

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم { ما نفعني مال كمال أبي بكر } أنفقه يبتغي به وجه الله كما أخبر الله عنه لا يطلب الجزاء من مخلوق لا نبي ولا غيره لا بدعاء ولا شفاعة .

وقول القائل : لهم في الآخرة دولة وأي دولة فهذا كذب ; بل الدولة لمن كان مؤمنا تقيا فقيرا كان أو غنيا وقال تعالى : { ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون } { فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات } الآيتين وقال تعالى : { إن الأبرار لفي نعيم } { وإن الفجار لفي جحيم } وقال تعالى : { أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار } ونظير هذا في القرآن كثير .

ومع هذا فالمؤمنون : الأنبياء وسائر الأولياء لا يشفعون لأحد إلا بإذن الله كما قال تعالى : { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } وقال : { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى } وقال تعالى : { والأمر يومئذ لله } فمن أحسن إلى مخلوق يرجو أن ذلك المخلوق يجزيه يوم القيامة كان من الأخسرين أعمالا : الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ; بل إنما يجزي على الأعمال يومئذ الواحد القهار [ ص: 113 ] الذي إليه الإياب والحساب الذي لا يظلم مثقال ذرة . وإن تكن حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما . ولا يقبل من العمل إلا ما أريد به وجهه .

فصل وأما قول القائل : نحن في بركة فلان أو من وقت حلوله عندنا حلت البركة . فهذا الكلام صحيح باعتبار باطل باعتبار .

فأما الصحيح : فأن يراد به أنه هدانا وعلمنا وأمرنا بالمعروف ونهانا عن المنكر فببركة اتباعه وطاعته حصل لنا من الخير ما حصل فهذا كلام صحيح . كما كان أهل المدينة لما قدم عليهم النبي صلى الله عليه وسلم في بركته لما آمنوا به وأطاعوه فببركة ذلك حصل لهم سعادة الدنيا والآخرة بل كل مؤمن آمن بالرسول وأطاعه حصل له من بركة الرسول بسبب إيمانه وطاعته من خير الدنيا والآخرة ما لا يعلمه إلا الله .

و ( أيضا إذا أريد بذلك أنه ببركة دعائه وصلاحه دفع الله الشر وحصل لنا رزق ونصر فهذا حق كما قال النبي صلى الله عليه وسلم { وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم بدعائهم وصلاتهم وإخلاصهم ؟ } وقد يدفع العذاب عن الكفار والفجار لئلا يصيب من بينهم من المؤمنين ممن [ ص: 114 ] لا يستحق العذاب .

ومنه قوله تعالى { ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات } - إلى قوله - { لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما } فلولا الضعفاء المؤمنون الذين كانوا بمكة بين ظهراني الكفار عذب الله الكفار : وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم { لولا ما في البيوت من النساء والذراري لأمرت بالصلاة فتقام ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة معنا فأحرق عليهم بيوتهم } وكذلك ترك رجم الحامل حتى تضع جنينها .

وقد قال المسيح عليه السلام { وجعلني مباركا أين ما كنت } فبركات أولياء الله الصالحين باعتبار نفعهم للخلق بدعائهم إلى طاعة الله وبدعائهم للخلق وبما ينزل الله من الرحمة ويدفع من العذاب بسببهم حق موجود فمن أراد بالبركة هذا وكان صادقا فقوله حق .

وأما " المعنى الباطل " فمثل أن يريد الإشراك بالخلق : مثل أن يكون رجل مقبور بمكان فيظن أن الله يتولاهم لأجله وإن لم يقوموا بطاعة الله ورسوله فهذا جهل . فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم مدفون بالمدينة عام الحرة وقد أصاب أهل المدينة من القتل والنهب والخوف ما لا يعلمه إلا الله وكان ذلك لأنهم بعد الخلفاء الراشدين أحدثوا أعمالا أوجبت ذلك وكان على عهد الخلفاء يدفع الله عنهم بإيمانهم وتقواهم لأن الخلفاء الراشدين كانوا يدعونهم إلى ذلك [ ص: 115 ] وكان ببركة طاعتهم للخلفاء الراشدين وبركة عمل الخلفاء معهم ينصرهم الله ويؤيدهم .

وكذلك الخليل صلى الله عليه وسلم مدفون بالشام وقد استولى النصارى على تلك البلاد قريبا من مائة سنة وكان أهلها في شر .

فمن ظن أن الميت يدفع عن الحي مع كون الحي عاملا بمعصية الله فهو غالط .

وكذلك إذا ظن أن بركة الشخص تعود على من أشرك به وخرج عن طاعة الله ورسوله مثل أن يظن أن بركة السجود لغيره وتقبيل الأرض عنده ونحو ذلك يحصل له السعادة ; وإن لم يعمل بطاعة الله ورسوله .

وكذلك إذا اعتقد أن ذلك الشخص يشفع له ويدخله الجنة بمجرد محبته وانتسابه إليه فهذه الأمور ونحوها مما فيه مخالفة الكتاب والسنة فهو من أحوال المشركين . وأهل البدع . باطل لا يجوز اعتقاده . ولا اعتماده . والله سبحانه وتعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية