صفحة جزء
[ ص: 587 ] سئل شيخ الإسلام رحمه الله عن " السماع "


فأجاب : " السماع " الذي أمر الله به ورسوله واتفق عليه سلف الأمة ومشايخ الطريق : هو سماع القرآن فإنه سماع النبيين وسماع العالمين وسماع العارفين وسماع المؤمنين قال سبحانه وتعالى : { أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا } وقال تعالى : { إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا } { ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا } { ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا } .

وقال تعالى : { وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين } وقال تعالى : { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون } { الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون } { أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم } وقال سبحانه وتعالى : { وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون } وقال تعالى : { وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين } .

وقال سبحانه وتعالى : { الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله } وقال سبحانه وتعالى : { الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه } وهذا كثير في القرآن .

وكما أثنى سبحانه وتعالى على هذا السماع فقد ذم المعرضين عنه كما قال : { وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون } وقال : { والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا } وقال سبحانه وتعالى : { فما لهم عن التذكرة معرضين } { كأنهم حمر مستنفرة } وقال سبحانه وتعالى : { ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه } وقال : { إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون } { ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون } وقال سبحانه وتعالى : [ ص: 589 ] { وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا فبشره بعذاب أليم } .

وهذا كثير في كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإجماع المسلمين يمدحون من يقبل على هذا السماع ويحبه ويرغب فيه ويذمون من يعرض عنه ويبغضه ; ولهذا شرع الله للمسلمين في صلاتهم ولطسهم شرع سماع المغرب والعشاء الآخر .

وأعظم سماع في الصلوات سماع الفجر الذي قال الله فيه : { وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا } وقال عبد الله بن رواحة - رضي الله عنه - يمدح النبي صلى الله عليه وسلم - :

وفينا رسول الله يتلو كتابه إذا انشق معروف من الفجر ساطع     يبيت يجافي جنبه عن فراشه
إذا استثقلت بالمشركين المضاجع     أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا
به موقنات أن ما قال واقع

وهو مستحب لهم خارج الصلوات وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم " { أنه خرج على أهل الصفة وفيهم واحد يقرأ وهم [ ص: 590 ] يستمعون فجلس معهم } " .

وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اجتمعوا أمروا واحدا منهم يقرأ والباقون يستمعون .

وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : يا أبا موسى ذكرنا ربنا فيقرأ وهم يستمعون { ومر النبي صلى الله عليه وسلم بأبي موسى وهو يقرأ : فجعل يستمع لقراءته وقال : لقد أوتي هذا مزمارا من مزامير داود وقال : يا أبا موسى لقد مررت بك البارحة وأنت تقرأ فجعلت أستمع لقراءتك فقال : لو علمت أنك تستمع لقراءتي لحبرته لك تحبيرا } أي : حسنته لك تحسينا .

وقال النبي صلى الله عليه وسلم { ليس منا من لم يتغن بالقرآن . } { زينوا القرآن بأصواتكم } "

وقال : " { لله أشد أذنا للرجل حسن الصوت من صاحب القينة إلى قينته } " وقوله : " ما أذن الله إذنا " أي سمع سمعا ومنه قوله : { وأذنت لربها وحقت } أي سمعت والآثار في هذا كثيرة .

وهذا سماع له آثار إيمانية من المعارف القدسية .

والأحوال الزكية يطول شرحها ووصفها .

وله في الجسد آثار محمودة .

من خشوع القلب ودموع العين واقشعرار الجلد وقد ذكر الله هذه الثلاثة في القرآن .

وكانت موجودة في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 591 ] - الذين أثنى عليهم في القرآن ووجد بعدهم في التابعين آثار ثلاثة : الاضطراب والاختلاج والإغماء - أو الموت والهيام ; فأنكر بعض السلف ذلك - إما لبدعتهم وإما لحبهم .

وأما جمهور الأئمة والسلف فلا ينكرون ذلك ; فإن السبب إذا لم يكن محظورا كان صاحبه فيما تولد عنه معذورا .

لكن سبب ذلك قوة الوارد على قلوبهم وضعف قلوبهم عن حمله فلو لم يؤثر السماع لقسوتهم كانوا مذمومين كما ذم الله الذين قال فيهم : { ثم قست قلوبكم من بعد ذلك } وقال : { ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون } ولو أثر فيهم آثارا محمودة لم يجذبهم عن حد العقل .

لكانوا كمن أخرجهم إلى حد الغلبة كانوا محمودين أيضا ومعذورين .

فأما سماع القاصدين لصلاح القلوب في الاجتماع على ذلك : إما نشيد مجرد نظير الغبار .

وإما بالتصفيق ونحو ذلك .

فهو السماع المحدث في الإسلام فإنه أحدث بعد ذهاب القرون الثلاثة الذين أثنى عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث قال : { خير القرون : القرن الذي بعثت فيه ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم } وقد كرهه أعيان الأمة ولم يحضره أكابر المشايخ .

[ ص: 592 ] وقال الشافعي - رحمه الله - : خلفت ببغداد شيئا أحدثته الزنادقة يسمونه التغبير يصدون به الناس عن القرآن .

وسئل عنه الإمام أحمد بن حنبل فقال : هو محدث أكرهه قيل له : إنه يرق عليه القلب .

فقال : لا تجلسوا معهم .

قيل له : أيهجرون ؟ فقال : لا يبلغ بهم هذا كله .

فبين أنه بدعة لم يفعلها القرون الفاضلة لا في الحجاز ولا في الشام ولا في اليمن ولا في مصر ولا في العراق ولا خراسان .

ولو كان للمسلمين به منفعة في دينهم لفعله السلف .

ولم يحضره مثل : إبراهيم بن أدهم ولا الفضيل بن عياض ولا معروف الكرخي ولا السري السقطي ولا أبو سليمان الداراني ولا مثل الشيخ عبد القادر والشيخ عدي والشيخ أبي البيان ولا الشيخ حياة وغيرهم ; بل في كلام طائفة من هؤلاء - كالشيخ عبد القادر وغيره - النهي عنه .

وكذلك أعيان المشايخ . وقد حضره من المشايخ طائفة وشرطوا له المكان والإمكان والخلان والشيخ الذي يحرس من الشيطان .

وأكثر الذين حضروه من المشايخ الموثوق بهم رجعوا عنه في آخر عمرهم . كالجنيد فإنه حضره وهو شاب وتركهم في آخر عمره .

وكان يقول : من تكلف السماع [ ص: 593 ] فتن به ومن صادفه السماع استراح به .

فقد ذم من يجتمع له ورخص فيمن يصادفه من غير قصد .

ولا اعتماد للجلوس له .

وسبب ذلك أنه مجمل ليس فيه تفصيل .

فإن الأبيات المتضمنة لذكر الحب والوصل والهجر والقطيعة والشوق والتتيم والصبر على العذل واللوم ونحو ذلك هو قول مجمل يشترك فيه محب الرحمن ومحب الأوثان ومحب الإخوان ومحب الأوطان ومحب النسوان ومحب المردان .

فقد يكون فيه منفعة إذا هيج القاطن وأثار الساكن وكان ذلك مما يحبه الله ورسوله .

لكن فية مضرة راجحة على منفعته : كما في الخمر والميسر فإن فيهما إثما كبيرا ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما .

فلهذا لم تأت به الشريعة لم تأت إلا بالمصلحة الخالصة أو الراجحة وأما ما تكون مفسدته غالبة على مصلحته فهو بمنزلة من يأخذ درهما بدينار أو يسرق خمسة دراهم ويتصدق منها بدرهمين .

وذلك أنه يهيج الوجد المشترك فيثير من النفس كوامن تضره آثارها ويغذي النفس ويفتنها فتعتاض به عن سماع القرآن حتى لا يبقى فيها محبة لسماع القرآن ولا التذاذ به ولا استطابة له .

بل [ ص: 594 ] يبقى في النفس بغض لذلك واشتغال عنه .

كمن شغل نفسه بتعلم التوراة والإنجيل وعلوم أهل الكتاب والصابئين واستفادته العلم والحكمة منها فأعرض بذلك عن كتاب الله وسنة رسوله إلى أشياء أخرى تطول .

فلما كان هذا السماع لا يعطي بنفسه ما يحبه الله ورسوله من الأحوال والمعارف بل قد يصد عن ذلك ويعطي ما لا يحبه الله ورسوله أو ما يبغضه الله ورسوله لم يأمر الله به ولا رسوله ولا سلف الأمة ولا أعيان مشايخها .

ومن نكته أن الصوت يؤثر في النفس بحسنه : فتارة يفرح وتارة يحزن وتارة يغضب وتارة يرضى وإذا قوي أسكر الروح فتصير في لذة مطربة من غير تمييز .

كما يحصل للنفس إذا سكرت بالرقص وللجسد أيضا إذا سكر بالطعام والشراب فإن السكر هو الطرب الذي يؤثر لذة بلا عقل فلا تقوم منفعته بتلك اللذة بما يحصل من غيبة العقل التي صدت عن ذكر الله وعن الصلاة وأوقعت العداوة والبغضاء .

و " بالجملة " فعلى المؤمن أن يعلم : أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يترك شيئا يقرب إلى الجنة إلا وقد حدث به ولا شيئا يبعد عن [ ص: 595 ] النار إلا وقد حدث به وأن هذا السماع لو كان مصلحة لشرعه الله ورسوله فإن الله يقول : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا } وإذا وجد فيه منفعة لقلبه ولم يجد شاهد ذلك لا من الكتاب ولا من السنة لم يلتفت إليه .

قال سهل بن عبد الله التستري : كل وجد لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل .

وقال أبو سليمان الداراني : إنه لتلم بقلبي النكتة من نكت القوم فلا أقبلها إلا بشاهدين عدلين : الكتاب والسنة .

وقال أبو سليمان أيضا : ليس لمن ألهم شيئا من الخير أن يفعله حتى يجد فيه أثرا فإذا وجد فيه أثرا كان نورا على نور .

وقال الجنيد بن محمد : علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة فمن لم يقرأ القرآن ولم يكتب الحديث لا يصلح له أن يتكلم في علمنا . و " أيضا " فإن الله يقول في الكتاب { وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية } قال السلف من الصحابة والتابعين : " المكاء " كالصفير ونحوه من التصويت مثل الغناء . و " التصدية " : التصفيق باليد .

فقد أخبر الله عن المشركين أنهم كانوا يجعلون التصدية [ ص: 596 ] والغناء لهم صلاة وعبادة وقربة يعتاضون به عن الصلاة التي شرعها الله ورسوله .

وأما المسلمون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان : فصلاتهم وعبادتهم القرآن واستماعه والركوع والسجود وذكر الله ودعاؤه ونحو ذلك مما يحبه الله ورسوله فمن اتخذ الغناء والتصفيق عبادة وقربة فقد ضاهى المشركين في ذلك وشابههم فيما ليس من فعل المؤمنين : المهاجرين والأنصار .

فإن كان يفعله في بيوت الله فقد زاد في مشابهته أكبر وأكبر واشتغل به عن الصلاة وذكر الله ودعائه فقد عظمت مشابهته لهم .

وصار له كفل عظيم من الذم الذي دل عليه قوله سبحانه وتعالى : { وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية } لكن قد يغفر له ذلك لاجتهاده أو لحسنات ماحية أو غير ذلك . فيما يفرق فيه [ بين ] المسلم والكافر . لكن مفارقته للمشركين في غير هذا لا يمنع أن يكون مذموما خارجا عن الشريعة داخلا في البدعة التي ضاهى بها المشركين فينبغي للمؤمن أن يتفطن له لهذا ويفرق بين سماع المؤمنين الذي أمر الله به ورسوله وسماع المشركين الذي نهى الله عنه ورسوله .

[ ص: 597 ] ويعلم أن هذا السماع المحدث هو من جنس سماع المشركين وهو إليه أقرب منه إلى سماع المسلمين .

وإن كان قد غلط فيه قوم من صالح المسلمين فإن الله لا يضيع أجرهم وصلاحهم لما وقع من خطئهم .

فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " { إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر واحد } " وهذا كما أن جماعة من السلف قاتلوا أمير المؤمنين عليا بتأويل وعلي بن أبي طالب وأصحابه أولى بالحق منهم وقد قال فيهم : من قصد الله فله الجنة .

وجماعة من السلف والخلف استحلوا بعض الأشربة بتأويل - وقد ثبت بالكتاب والسنة تحريم ما استحلوه - وإن كان خطؤهم مغفورا لهم .

والذين حضروا هذا السماع من المشايخ الصالحين شرطوا له شروطا لا توجد إلا نادرا فعامة هذه السماعات خارجة عن إجماع المشايخ ومع هذا فأخطئوا - والله يغفر لهم خطأهم فيما خرجوا به عن السنة - وإن كانوا معذورين .

والسبب الذي أخطئوا فيه أوقع أمما كثيرة في المنكر الذي نهوا [ ص: 598 ] عنه وليس للعالمين شرعة ولا منهاج ولا شريعة ولا طريقة أكمل من الشريعة التي بعث الله بها نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - كما كان يقول في خطبته : { خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم } " ومن غلط بعضهم توهمه أن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين حضروا هذا السماع سماع المكاء والتصدية والغناء والتصفيق بالأكف حتى روى بعض الكاذبين { أن النبي صلى الله عليه وسلم أنشده أعرابي شعرا .

قوله :

قد لسعت حية الهوى كبدي فلا طبيب لها ولا راقي     سوى الحبيب الذي شغفت به
فمنه دائي ومنه ترياقي

وأن النبي صلى الله عليه وسلم تواجد حتى سقطت البردة عن منكبيه .

وقال : ليس بكريم من لم يتواجد عند ذكر المحبوب
} " .

وهذا الحديث كذب بإجماع العارفين بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته وأحواله .

كما كذب بعض الكذابين : أن أهل الصفة قاتلوا المؤمنين مع [ ص: 599 ] المشركين وأمثال هذه الأمور المكذوبة إنما يكذبها من خرج عن أمر الله ورسوله وأطبقت عليه طوائف من الجاهلين بأحوال الرسول وأصحابه ; بل بأصول الإسلام .

وأما " الرقص " فلم يأمر الله به ولا رسوله ولا أحد من الأئمة بل قد قال الله في كتابه : { واقصد في مشيك } وقال في كتابه : { وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا } أي : بسكينة ووقار .

وإنما عبادة المسلمين الركوع والسجود ; بل الدف والرقص في الطابق لم يأمر الله به ولا رسوله ولا أحد من سلف الأمة ; بل أمروا بالقرآن في الصلاة والسكينة .

ولو ورد على الإنسان حال يغلب فيها حتى يخرج إلى حالة خارجة عن المشروع وكان ذلك الحال بسبب مشروع .

كسماع القرآن ونحوه سلم إليه ذلك الحال كما تقدم فأما إذا تكلف من الأسباب ما لم يؤمر به مع علمه بأنه يوقعه فيما لا يصلح له : مثل شرب الخمر مع علمه أنها تسكره وإذا قال : ورد علي الحال وأنا سكران قيل له : إذا كان السبب محظورا لم يكن السكران معذورا .

فهذه الأحوال الفاسدة من كان فيها صادقا فهو مبتدع ضال من جنس خفراء العدو وأعوان الظلمة من ذوي الأحوال الفاسدة الذين ضارعوا عباد النصارى والمشركين والصابئين . في بعض ما لهم من الأحوال [ ص: 600 ] ومن كان كاذبا فهو منافق ضال .

قال سيد المسلمين في وقته - الفضيل بن عياض - في قوله تعالى { ليبلوكم أيكم أحسن عملا } قال : أخلصه وأصوبه .

قيل له : يا أبا علي ما أخلصه ؟ وأصوبه ؟ .

قال : إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا .

والخالص أن يكون لله والصواب أن يكون على السنة .

وكان يقول : من وقر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام ومن زوج كريمته لصاحب بدعة فقد قطع رحمها ومن انتهر صاحب بدعة ملأ الله قلبه أمنا وإيمانا .

وأكثر إشارته وإشارات غيره من المشايخ بالبدعة إنما هي إلى البدع في العبادات والأحوال كما قال عن النصارى { ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم } وقال ابن مسعود : " عليكم بالسبيل والسنة فإنه ما من عبد على السبيل والسنة ذكر الله خاليا فاقشعر جلده من مخافة الله إلا تحاتت عنه خطاياه كما يتحات الورق اليابس عن الشجرة وما من عبد على السبيل والسنة ذكر الله خاليا فدمعت عيناه من خشية الله إلا لم تمسه النار أبدا وإن اقتصادا في سبيل وسنة خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة .

فاحرصوا أن تكون أعمالكم - إن كانت اجتهادا أو اقتصادا - على منهاج الأنبياء وسنتهم " .

[ ص: 601 ] وأما قول القائل : هذه شبكة يصاد بها العوام . فقد صدق فإن أكثرهم إنما يتخذون ذلك شبكة لأجل الطعام والتوانس على الطعام . كما قال الله فيهم : { يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله } ومن فعل هذا فهو من أئمة الضلال الذين قيل في رءوسهم : { يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا } { وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا } { ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا } .

وأما الصادقون منهم : فهم يتخذونه شبكة لكن هي شبكة مخرقة يخرج منها الصيد إذا دخل فيها كما هو الواقع كثيرا ; فإن الذين دخلوا في السماع المبتدع في الطريق ولم يكن معهم أصل شرعي شرعه الله ورسوله أورثتهم أحوالا فاسدة . وإلى عبادته ومحبته وطاعته والرغبة إليه والتبتل له والتوكل عليه أحسن من الإسلامية والشريعة القرآنية والمناهج الموصلة الحقيقة الجامعة لمصالح الدنيا والآخرة .

[ ص: 602 ] وإذا كان غير مشروع ولا مأمور به فالتطهر أو الإنصات له واستفتاح باب الرحمة هو من جنس عادة الرهبان ليس من عبادة أهل الإسلام والإيمان ولا عبادة أهل القرآن ولا من أهل السنة والإحسان . والحمد لله وحده .

التالي السابق


الخدمات العلمية