صفحة جزء
وكل واحد من طريقي النظر والتجرد : طريق فيه منفعة عظيمة وفائدة جسيمة بل كل منهما واجب لا بد منه ولا تتم السعادة إلا به والقرآن كله يدعو إلى النظر والاعتبار والتفكر وإلى التزكية والزهد والعبادة .

وقد ذكر القرآن صلاح القوة النظرية العلمية والقوة الإرادية العملية : في غير موضع كقوله { هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله } فالهدى كمال العلم ودين الحق كمال العمل . كقوله : { أولي الأيدي والأبصار } وقوله : { كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه } . وقوله : { آمنوا وعملوا الصالحات } وقوله : { إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح } وفي خطبة النبي صلى الله عليه وسلم { إن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد } لكن النظر النافع أن يكون في دليل فإن النظر في غير دليل لا يفيد العلم بالمدلول عليه والدليل هو الموصل إلى المطلوب والمرشد إلى المقصود والدليل التام هو الرسالة والصنائع .

وكذلك العبادة التامة فعل ما أمر به العبد وما جاءت به الرسل وقد وقع [ ص: 60 ] الخطأ في الطريقين من حيث : أخذ كل منهما أو مجموعهما مجردا في الابتداء عن الإيمان بالله وبرسوله .

بل اقتصر فيهما على مجرد ما يحصله نظر القلب وذوقه الموافق لما جاءت به الرسل تارة والمخالف لما جاءت به أخرى في مجرد النظر العقلي ومجرد العبادات العقلية أو الصعود عن ذلك إلى النظر الملي والعبادات الملية والواجب أنه لا بد في كل واحد من النظر والعمل من [ أن ] يوجد فيه العقلي والملي والشرعي فلما قصروا : وقع كل من الفريقين ; إما في الضلال ; وإما في الغواية وإما فيهما .

وحاصلهم : إما الجهل البسيط ; أو الكفر البسيط أو الجهل المركب أو الكفر المركب مع الجهل والظلم .

وذلك أن طريقة أهل النظر والقياس : مدارها على مقدمة لا بد منها في كل قياس يسلكه الآدميون وهي مقدمة كلية جامعة تتناول المطلوب وتتناول غيره بمعنى أنها لا تمنع غيره من الدخول ; وإن لم يكن له وجود في الخارج فهي لا تتناول المطلوب لخاصيته بل بالقدر المشترك بينه وبين غيره والمطلوب بها هو الله تعالى فلم يصلوا إليه إلا بجامع ما يشترك فيه هو وغيره من القضايا الإيجابية والسلبية .

والمشترك بينه وبين غيره لا يعرف بخصوصه أصلا فلم يعرفوا الله [ ص: 61 ] بل لما اعتقدوا فيه القدر المشترك صاروا مشركين به وحكموا على القدر المشترك بأحكام سلبية أو إيجابية ; فإنها تصح في الجملة ; لأن ما انتفى عن المعنى العام المشترك انتفى عن الخاص المميز وليس ما انتفى عن الخاص المميز انتفى عن العام ; فما نفيته عن الحيوان أو عن النبي : انتفى عن الإنسان والرسول . وليس ما نفيته عن الإنسان أو الرسول انتفى عن الحيوان أو النبي .

ولهذا كان قوله : { لا نبي بعدي } ينفي الرسول ; وكذلك ما ثبت للمعنى المشترك بصفة العموم ثبت للخاص وما ثبت له بصفة الإطلاق لم يجب أن يثبت للخاص فإذا ثبت حكم لكل نبي دخل فيه الرسول . وأما إذا ثبت للنبي مطلقا : لم يجب أن يثبت للرسول وقد تتألف من مجموع القضايا السلبية والإيجابية : أمور لا تصدق إلا عليه ولا يصح أن يوصف بها غيره ; كما إذا وصف نبي بمجموع صفات لا توجد في غيره .

لكن هذا القدر يعرف انتفاء غيره أن يكون إياه وأما عينه فلا يعرف بمجموع تلك القضايا الكلية فلا يحصل للعقل من القياس في الرب إلا العلم بالسلب والعدم ; إذا كان القياس صحيحا .

ولهذا جاءت الأمثال المضروبة في القرآن - وهي المقاييس العقلية - دالة على النفي في مثل قوله : { ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم } ؟ الآية ومثل قوله : { وضرب الله مثلا رجلين } الآيات وقوله : { يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله } الآية ; وقوله : { قل لو كان معه آلهة كما يقولون } الآية وقوله : { ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض } وأمثال ذلك من الأمثال - وهي القياسات - التي مضمونها نفي الملزوم لانتفاء لازمه أو نحو ذلك .

ولهذا كان الغالب على أهل القياس من أهل الفلسفة والكلام في جانب الربوبية : إنما هي المعارف السلبية . ثم لم يقتصروا على مقدار ما يعلمه العقل من القياس بل تعدوا ذلك ; فنفوا أشياء مشبهة القياس الفاسد مثل نفي الصفات النبوية الخبرية : بل ونفي الفلاسفة ; والمعتزلة للصفات التي يثبتها متكلمو أهل الإثبات ويسمونها الصفات العقلية ; لإثباتهم إياها بالقياس العقلي .

ومعلوم أن العقل لا ينفي بالقياس إلا القدر المشترك ; الذي هو مدلول القضية الكلية التي لا بد منها في القياس ; مثل أن ينفي الإرادة أو الرحمة أو العلم المشترك بين مسميات هذا الاسم والقدر المشترك في المخلوقين تلحقه صفات لا تثبت لله تعالى فينفون المعنى المشترك المطلق على صفات الحق وصفات الخلق - تبعا لانتفاء ما يختص به الخلق - فيعطلون كما أن أهل التمثيل يثبتون ما يختص به الخلق - تبعا للقدر المشترك - وكلاهما قياس خطأ .

ففي هذه الصفات بل وفي الذوات ثلاث اعتبارات :

أحدها : ما تختص به ذات الرب وصفاته .

والثاني : ما يختص به المخلوق وصفاته .

[ ص: 63 ] والثالث : المعنى المطلق الجامع .

فاستعمال القياس الجامع في نفي الأول خطأ وكذلك استعماله في إثبات الثاني وأما استعماله في إثبات الثالث فيحتاج إلى إدراك العقل لثبوت المعنى الجامع الكلي وهذا أصل القياس والدليل فإن لم يعرف العقل بنفسه - أو بواسطة قياس آخر - ثبوت هذا وإلا لم يستقم القياس .

وكذلك في معارفهم الثبوتية لا يأتون إلا بمعان مطلقة مجملة . مثل ثبوت الوجود ووجوب الوجود أو كونه ربا أو صانعا أو أولا أو مبدأ أو قديما ونحو ذلك من المعاني الكلية التي لا يعلم بها خصوص الرب تعالى إذ القياس لا يدل على الخصوص فإنه إذا استدل بأن كل ممكن فلا بد له من موجب وبأن كل محدث فلا بد له من محدث : كان مدلول هذا القياس أمرا عاما وقد بسطت هذا في غير هذا الموضع .

وكذلك أصحاب الرياضة والتجرد : فإن صفوتهم الذين يشتغلون بذكر بسيط مثل لا إله إلا الله إن لم يغلوا فيقتصروا على مجرد الله الله ويعتقدون أن ذلك أفضل وأكمل . كما فعله كثير منهم وربما اقتصر بعضهم على هو هو . أو على قوله : لا هو إلا هو لأن هذا الذكر المبتدع الذي هو لا يفيد بنفسه إلا أنه مطلقا ليس فيه بنفسه ذكر لله إلا بقصد المتكلم .

فقد ينضم إلى ذلك اعتقاد صاحبه أنه [ لا ] وجود إلا هو كما يصرح به بعضهم ويقول : لا هو إلا هو أو لا موجود إلا هو وهذا عند الاتحادية [ ص: 64 ] أجود من قول لا إله إلا الله لأنه مصرح بحقيقة مذهبهم الفرعوني القرمطي حتى يقول بعضهم . لا إله إلا الله ذكر العابدين والله الله ذكر العارفين وهو ذكر المحققين ويجعل ذكره يا من لا هو إلا هو وإذا قال الله الله إنما يفيد مجرد ثبوته فقد ينضم إلى ذلك نفي غيره لا نفي إلهية غيره فيقع صاحبه في [ وحدة الوجود ] وربما انتفى شهود القلب للسوى إذا كان في مقام الفناء فهذا قريب أما اعتقاد أن وجود الكائنات هي هو فهذا هو الضلال .

ويضمون إلى ذلك نوعا من التصفية مثل ترك الشهوات البدنية من الطعام والشراب والرياسة والخلوة وغير ذلك من أنواع الزهادة المطلقة والعبادة المطلقة فيصلون أيضا إلى تأله مطلق ومعرفة مطلقة بثبوت الرب ووجوده ونحو ذلك من نحو ما يصل إليه أرباب القياس .

ثم قد تتوارى هذه المعرفة والعلم بملابسة الأمور الطبيعية من الطعام والاجتماع بالناس فإن سببها إنما هو ذلك التجرد فإذا زال زال ; ولهذا قيل كل حال أعطاكه الجوع فإنه يذهب بالشبع كما قد تتوارى معرفة الأولى المطلقة بغفلة القلب عن تلك المقاييس النظرية ولا ريب أن القياس يفضي إلى معرفة بحسب مقتضاه وأن الرياضة والتأله يفضي إلى معرفة بحسب مقتضاه لكن معرفة مطلقة بسبب قد يثبت وقد يزول وكثيرا ما يفضي إلى الاتحاد والحلول والإباحة وذلك لأنهم يجردون التأله عما لا بد منه من صالح البشر فإذا احتاجوا إليها أعرضوا عن التأله .

فهم إما آلهة عند نفوسهم وإما زنادقة أو فساق ولهذا حدثني الشيخ [ ص: 65 ] الصالح يوسف من أصحابنا أنه رآني في المنام وأنا أخاطبهم .

والمعرفة الحاصلة بذلك : هي المعرفة التي تصلح حال العبد وتجب عليه ; لكن قد يحصل مع صدق الطلب - بواسطة القياس أو بواسطة الوجد - وصول إلى الرسالة فيتلقى حينئذ من الرسالة ما يصلح حاله ويعرفه المعرفة التامة والعلم النافع الواجب عليه - وهي الطريق الشرعية النبوية التي ذكرناها أولا - وقد لا يحصل ذلك فيقع كثير منهم في الاستغناء عن النبوة اعتقادا أو حالا بالإعراض عما جاءت به ; فيفوته من الإيمان والعلم والمعرفة - التي جاء بها الرسول - ما يضل بفواته في الدنيا عن الهدى ويشقى به الشقاء الأكبر كحال الكافرين بالرسول وإن آمنوا بوجود الرب من اليهود والنصارى والصابئين فإن في المسلمين من ينافق في الرسول كما كفر هؤلاء به ظاهرا وهذا النفاق كثير جدا قديما وحديثا .

وقد تنعقد في قلبه مقاييس فاسدة ومواجيد فاسدة يحكم بمقتضاها في الربوبية أحكاما فاسدة مثل : أحكام المنحرفة إلى صابئية أو يهودية أو نصرانية من الفلاسفة والمتكلمين والمتصوفة الذين انحرفوا إما إلى تعطيل للصفات وتكذيب بها .

وإما إلى تمثيل لها وتشبيه .

وإما إلى اعتقاد أن الرب هو الوجود المطلق الذي لا يتميز وأن عين [ ص: 66 ] الوجود : هو عين الخالق وأنه ليس وراء السموات والأرض شيء آخر ; وإنما هذه الأشياء كلها مراتب للصفات وأن الربوبية والإلهية : مراتب ذهنية [ شكوكية ] .

وأما في الحقيقة : فليس إلا عين ذاته فالمحجوبون يرون المراتب والمكاشف ما ترى إلا عين الحق .

ويحسبون - ويحسب كثير بسببهم - أن هذا التوحيد : هو توحيد الصديقين الذين عرفوا الله وقالوا :

ألا كل شيء ما خلا الله باطل

. كما يحسب المتكلم الزائغ أن توحيده - الذي هو نفي الصفات - هو توحيد الأنبياء ; والصديقين ; الذين عرفوا الله ; ولهذا يقع في هؤلاء الشرك كثيرا ; حتى يسجد بعضهم لبعض ; كما يقع في القسم الآخر تحريم الحلال من العقود والعبادات المباحة .

فاقتسم الفريقان : ما ذم الله به المشركين من الشرك وتحريم الحلال وهكذا يوجد كثيرا في هؤلاء المشبهة للنصارى . وظهر في الآخرين من الآصار والأغلال وجحود الحق وقسوة القلوب : ما يوجد كثيرا في هؤلاء المشبهة لليهود .

هذا في غير الغالية منهم وأما الغالية من الصنفين : فعندهم أن معرفتهم وحالهم فوق معرفة الأنبياء وحالهم . كما يقول التلمساني : القرآن يوصل إلى الجنة وكلامنا يوصل إلى الله .

[ ص: 67 ] وكما يزعم الفارابي : أن الفيلسوف أكمل من النبي ; وإنما خاصة النبي جودة التخييل للحقائق ; إلى أنواع من الزندقة والكفر يلتحقون فيها بالإسماعيلية ; والنصيرية ; والقرامطة ; والباطنية ; ويتبعون فرعون ; والنمروذ وأمثالهما من الكافرين بالنبوات أو النبوة والربوبية .

وهذا كثير جدا في هؤلاء وهؤلاء وسبب ذلك عدم أصل في قلوبهم وهو الإيمان بالله والرسول . فإن هذا الأصل إن لم يصحب الناظر والمريد والطالب في كل مقام . وإلا خسر خسرانا مبينا وحاجته إليه كحاجة البدن إلى الغذاء أو الحياة إلى الروح .

فالإنسان بدون الحياة والغذاء لا يتقوم أبدا ولا يمكنه أن يعلم ولا أن يعلم . كذلك الإنسان بدون الإيمان بالله ورسوله لا يمكنه أن ينال معرفة الله ولا الهداية إليه وبدون اهتدائه إلى ربه : لا يكون إلا شقيا معذبا وهو حال الكافرين بالله ورسوله ومع الإيمان بالله ورسوله إذا نظر واستدل : كان نظره في دليل وبرهان - وهو ثبوت الربوبية والنبوة - وإذا تجرد وتصفى كان معه من الإيمان ما يذوقه بذلك ويجده .

ثم هذا النظر وهذا الذوق يجتلب له ما وراء ذلك من أنواع المعالم الربانية والمواجيد الإلهية . والعلم والوجد متلازمان .

وذلك : أن الأنبياء والمرسلين : عرفوا الله بالوحي المعرفة التي هي معرفة وعبدوه العبادة التي هي حق له بحسب ما منحهم الله تعالى .

وهم درجات في ذلك ; لكن عرفوا من خصوص الربوبية ما لا يقوم به [ ص: 68 ] مجرد القياس النظري ولا يناله مجرد الذوق الإرادي ثم أخبروا عن ذلك . ولا بد في الوصف والإخبار من أن يذكر المسمى الموصوف بالأسماء والأوصاف المتواطئة التي فيها اشتراك وتمييز عن المخلوقات بما يقطع الشركة ; لأن القصد بالإخبار والوصف تعريف المخاطبين ; والمخاطبون لا يعرفون الخصوصيات التي هي خصوص ذات الله وصفاته .

فلو أخبروا بذلك وحده مجردا لم يعرفوا شيئا بل ربما أنكروا ذلك . فإذا خوطبوا بالمعاني المشتركة وأزيل مفسدة الاشتراك بما يقطع التماثل كقوله : { ليس كمثله شيء } { ولم يكن له كفوا أحد } ونحو ذلك كانوا أحد رجلين :

إما رجل مؤمن آمن بمعاني تلك الصفات على الوجه المطلق الجملي وأثبتها لله على وجه يليق به ويختص به لا يشركه فيه مخلوق ; فهذا غاية الممكن في حال هؤلاء .

وإما رجل قذف الله في قلبه من نوره وهدايته الخاصة ما أشهده شيئا من الخصوصيات التي هي أعيان تلك الأسماء والصفات فيعلم ذلك لا بمجرد القياس ولا بمجرد الوجد بل بشهود على مطابق لما أخبرت [ به ] الرسل وتدله على صحة شهوده موافقته لما أنبأت به الرسل ويحصل له نصيب من النبوة فإن النبوة انقطعت بكمالها وإما وجود بعض أجزائها فلم ينقطع . ولا بد أن يكون في بعض الأمور محجوبا عن أن يشهد ما شهده النبي فيصدقه فيه ; لشهوده بعض ما أخبر به النبي ويبقى ما شهده محققا عنده لثبوت ما لم يشهده وهذه حال الصديقين مع الأنبياء .

[ ص: 69 ] وذلك نظير من وصف له ملك مدينة بأنواع من الصفات فقدم حتى رأى بعض شئونه التي دلته على صدق المخبر فيما لم يشهد . ولست أجعل مجرد هذه الشهادة مصدقة ; فإن المخبر قد يصدق في بعض ويخطئ في بعض وإنما ذلك بواسطة إخبار المخبر - أي رسول الله - وشهوده منه ما يوجب له امتناع الكذب عليه كما يذكر في غير هذا الموضع .

فإن قلت : فمن أين له ابتداء صحة الإيمان بالله ورسوله حتى يصير ذلك أصلا يبنى عليه وينتقل معه إلى ما بعده ؟ فأهل القياس والوجد : إنما تعبوا التعب الطويل - في تقرير هذا الأصل - في نفوسهم ; ولهذا يسمي المتكلمون كل ما يقرر الربوبية والنبوة : العقليات والنظريات ويسميها أولئك الذوقيات والوجديات ورأوا أن ما لا يتم معرفة الله ورسوله إلا به فمعرفته متقدمة على ذلك ; وإلا لزم الدور . فسموا تلك عقليات والعقليات لا تنال إلا بالقياس العقلي المنطقي .

قلت . جواب هذا من وجوه :

أحدها : المعارضة بالمثل ; فإن سالك سبيل النظر القياسي أو الإرادة الذوقية : من أين له ابتداء أن سلوك هذا الطريق يحصل له علما ومعرفة ليس معه ابتداء إلا مجرد إخبار مخبر بأنه سلك هذا الطريق فوصل أو خاطر يقع في قلبه سلوك هذا الطريق : إما مجوزا للوصول أو متحريا أو غير ذلك أو سلوكا ابتداء بلا انتهاء ; وليس ذلك مختصا بالعلم الإلهي ; بل كل العلوم لا بد للسالك فيها ابتداء من مصادرات يأخذها مسلمة إلى أن تتبرهن فيما بعد .

[ ص: 70 ] إذ لو كان كل طالب العلم حين يطلبه قد نال ذلك العلم : لم يكن طالبا له والطريق التي يسلكها قد يعلم أنها تفضي به إلى العلم .

لكن الكلام في أول الأوائل ودليل الأدلة وأصل الأصول . فإنه لو كان حين ينظر فيه يعلم أنه دليل مفض لم يمكن ذلك حتى يعلم ارتباطه بالمدلول فإن الدليل إن لم يستلزم المدلول : لم يكن دليلا .

والعلم بالاستلزام موقوف على العلم بالملزوم واللازم فلا يعلم أنه دليل على المدلول المعين حتى يعلم ثبوت المدلول المعين ويعلم أنه ملزوم له وإذا علم ذلك : استغنى عن الاستدلال به على ثبوته ; وإنما يفيده التذكير به لا ابتداء العلم به وإنما يقع الاشتباه هنا ; لأنه كثيرا ما يعرف الإنسان ثبوت شيء ثم يطلب الطريق إلى معرفة صفاته ومشاهدة ذاته ; إما بالحس ; وإما بالقلب فيسلك طريقا يعلم أنها موصلة إلى ذلك المطلوب ; لأنه قد علم أن تلك الطريق مستلزم لذلك المطلوب الذي علم ثبوته قبل ذلك .

كمن طلب أن يحج إلى الكعبة التي قد علم وجودها فيسلك الطريق التي يعلم أنها تفضي إلى الكعبة ; لإخبار الناس له بذلك أو يستدل بمن يعلم أنه عارف بتلك الطريق فسلوكه للطريق بنفسه بعد علمه أنها طريق - المقصود - بإخبار الواصلين أو سلوكه بدليل خريت - يهديه في كل منزلة - لا يكون إلا بعد العلم بثبوت المطلوب وثبوت أن هذا طريق ودليل .

وهكذا حال الطالبين لمعرفة الله والمريدين له والسائرين إليه قد عرفوا [ ص: 71 ] وجوده أولا وهم يطلبون معرفة صفاته أو مشاهدة قلوبهم له في الدنيا . فيسلكون الطريق الموصلة إلى ذلك بالإيمان والقرآن .

فالإيمان : نظير سلوك الرجل الطريق التي وصفها له السالكون فإنهم متفقون على ذلك .

والقرآن : تصديق الرسل فيما تخبر به وهو نظير اتباع الدليل منزلة منزلة ولا بد في طريق الله منهما .

وأما الشيء الذي لم يعلم العقل ثبوته أولا إذا سلك طريقا يفضي إلى العلم به - فلا يسلكها ابتداء إلا بطريق التقليد والمصادرة - كسائر مبادئ العلوم - فإذا كان لا بد في الطريقة القياسية والعملية من تقليد في الأول - في سلوكه فيما لم يعلم أنه طريق وأنه مفض إلى المطلوب - أو أن المطلوب موجود . فالطريقة الإيمانية - إذا فرض أنها كذلك - لم يقدح ذلك فيها بل تكون هي أحق ; لوجوه كثيرة .

ونذكر بعضها إن شاء الله .

بل لا طريق إلا هي أو ما يفضي إليها أو يقترن بها فهي شرط قطعا في درك المطلوب وما سواها ليس بشرط ; بل يحصل المطلوب دونه وقد يضر بحصول المطلوب فلا يحصل أو يحصل نقيضه وهو الشقاء الأعظم على التقديرين فتلك الطريق مفضية قطعا ولا فساد فيها وما سواها يعتريه الفساد كثيرا وهو لا يوصل وحده بل لا بد من الطريقة الإيمانية .

[ ص: 72 ] الوجه الثاني في الجواب . أن الطريقة القياسية والرياضية إذا سلكها الرجل وأفضت به إلى المعرفة - إن أفضت - علم حينئذ أنه سلك طريقا صحيحا وأن مطلوبه قد حصل وأما قبل ذلك فهو لا يعرف فأدنى أحوال الإيمانية - ولا دناءة فيها - أن تكون كذلك . فإنه إذا أخذ الإيمان بالله ورسله مسلما ونظر في موجبه وعمل بمقتضاه : حصل له بأدنى سعي مطلوبه من معرفة الله وأن الطريق التي سلكها صحيحة فإن نفس تصديق الرسول فيما أخبر به عن ربه وطاعته يقرر عنده علما يقينيا بصحة ذلك أبلغ بكثير مما ذكر أولا .

الوجه الثالث : أن الإقرار بالله قسمان ; فطري وإيماني . فالفطري : - وهو الاعتراف بوجود الصانع - ثابت في الفطرة . كما قرره الله في كتابه في مواضع وقد بسطت القول فيه في غير هذا الموضع . فلا يحتاج هذا إلى دليل ; بل هو أرسخ المعارف وأثبت العلوم وأصل الأصول .

وأما الإقرار بالرسول : فبأدنى نظر فيما جاء به أو في حاله أو في آياته أو نحو ذلك من شئونه يحصل العلم بالنبوة : أقوى بكثير مما يحصل المطالب القياسية والوجدية في الأمور الإلهية ; ثم إذا قوى النظر في أحواله : حصل من اليقين الضروري الذي لا يمكن دفعه ما يكون أصلا راسخا . وبسط هذا مذكور في غير هذا الموضع . إذ المقصود هنا بيان خطأ من مسلك طريق القياس أو الرياضة دون الإيمان ابتداء . وأما تقرير طريقة الإيمان فشأنه عظيم وأعظم مما كتبته هنا .

الوجه الرابع : أنا نخاطب المسلمين المتسمين بالإيمان الذين غرض أحدهم [ ص: 73 ] معرفة الله الخاصة ; التي يمتاز بها العلماء والعارفون : عن العامة ; فيسلك بعضهم طريقة أهل القياس المبتدع والفلاسفة والمتكلمين وبعضهم : طريقة أهل الرياضة والإرادة المبتدعة من المتفلسفة والمتصوفة معرضا عما جاء به الرسول في تفاصيل هذه الأمور ; فإن هؤلاء إذا كانوا عالمين بصدق الرسول - المبلغ عن ربه الهادي إليه الداعي إليه الذي أكمل له الدين وأنزل عليه الكتاب تبيانا لكل شيء - كيف يدعون الاستدلال بما جاء به والاقتداء به إلى ما ذكر من الطريقين ؟

الوجه الخامس : أن أكثر من سلك الطريقين المنحرفين : لم يعتقد أن هناك طريقا ثالثا - كما يذكره رجال من فضلاء العالم الغالطين في القواعد الكبار - فهم ينتقلون من مادة فلسفية صابئية : إلى مادة إرادية نصرانية إلى مادة كلامية يهودية .

وأهل فلسفتهم يوما مع ذوي إرادتهم ويوما مع ذوي كلامهم وهم متهوكون في هذه المجاراة .

والطريقة الإيمانية النبوية المحمدية الدينية السنية الأثرية : لا يهتدون إليها ولا يعرفونها ولا يظنون أنها طريقة إلى مطلوبهم ولا تفضي إلى مقصودهم ; وذلك لعدم وجود من يسلكها في اعتقادهم أو كبتوا نفوسهم عنها ظلما ; فلضلالهم عنها أو غوايتهم وجهلهم بها أو ظلمهم أنفسهم : أعرضوا عنها .

فإن قلت : فالقرآن يأمر بالنظر في الآيات .

[ ص: 74 ] قلت : النظر لا ريب في صحته في الجملة وأنه إذا كان في دليل أفضى إلى العلم بالمدلول وإذا كان في آيات الله أفضى إلى الإيمان به . الذي هو رأس العبادة كما أن العبادة والإرادة لا ريب في صحتها في الجملة وأنها إذا كانت على منهاج الأنبياء أفضت إلى رضوان الله ; لكن عليك أن تفرق بين الآيات . وبين القياس كما قد بيناه في غير هذا الموضع .

فإن الآية : هي العلامة . وهي ما تستلزم بنفسها لما هي آية عليه من غير توسط حد أوسط ينتظم به قياس مشتمل على مقدمة كلية ; كالشعاع فإنه آية الشمس وكذلك النبات للمطر في الأرض القفر والدخان للنار وإن لم ينعقد في النفس قياس ; بل العقل يعلم تلازمهما بنفسه فيعلم من ثبوت الآية ثبوت لازمها والعلم بالتلازم قد يكون فطريا وقد لا يكون .

الوجه السادس : أن تينك الطريقين ليستا باطلا محضا ; بل يفضي كل منهما إلى حق ما ; لكن ليس هو الحق الواجب وكثيرا ما يقترن معه الباطل فلا يحصل بكل منهما بمجرده أداء الواجب ولا اجتناب المحرم ولا تحصلان المقصود الذي فيه سعادة العبد من نجاته ونعيمه بعد مبعث الرسول .

أما الطريقة النظرية القياسية : فإنه لا بد فيها من الاستدلال بالممكن على الواجب أو المحدث على المحدث أو بالحركة على المحرك وذلك يعطي فاعلا عظيما من حيث الجملة .

وكذلك الطريقة الرياضية الذوقية تعطي انقياد القلب وخضوعه إلى الصانع [ ص: 75 ] المطلق وكل منهما لا بد فيها من علم اضطراري يضطر القلب إليه إذ القلب لا يحصل له علم إلا من جنس الاضطراري ابتداء بتوسط الضروري ; فإن النظر يبنى على مقدمات تنتهي إلى ما هو من جنس الضروري . إما بتوسط الحس أو مجردا عن الحس .

فالطريق القياسية تفيد العلم بتوسط مقدمات ضرورية مثل أن يقال : الوجود المعلوم إما ممكن وإما واجب والممكن لا يوجد إلا بواجب . فثبت وجود الواجب على التقديرين .

ومثل أن يقال : العالم محدث أو كثير منه محدث . والثاني ضروري والأول يستدل عليه . ثم يقال : وكل محدث فله محدث . أو يقال : لا شك أن [ ثم ] وجودا وهو إما قديم وإما محدث والمحدث لا بد له من قديم فثبت وجود القديم على التقديرين . كما يقال : لا ريب أن ثم وجودا وهو إما واجب وإما ممكن والممكن لا بد له من واجب فثبت وجود الواجب على التقديرين .

وقد يقال : أيضا لا ريب أن ثم وجودا وهو إما مصنوع أو غير مصنوع أو مخلوق أو غير مخلوق أو مفطور أو غير مفطور والمصنوع أو المخلوق أو المفطور : لا بد له من صانع وخالق وفاطر . فثبت وجود ما ليس بمصنوع ولا مفطور ولا مخلوق على التقديرين .

[ ص: 76 ] فهذه الوجوه وما يشبهها تدل على وجود واجب قديم ليس بمصنوع ; لكن الشأن في تعيينه ; فإن عامة الدهرية يقولون : هذا هو العالم أو شيء قائم به . ثم إن افتقار الممكن إلى الواجب والمحدث إلى القديم والمصنوع إلى الصانع مقدمة ضرورية ; وإن كان طائفة من النظار يستدلون على هذه المقدمة وعلى أن الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح والجمهور على الاكتفاء بالضرورة فيهما .

والطريق العبادية تفيد العلم بتوسط الرياضة وصفاء النفس فإنه حينئذ يحصل للقلب علم ضروري ; كما قال الشيخ إسماعيل الكوراني لعز الدين بن عبد السلام لما جاء إليه يطلب علم المعرفة - وقد سلك الطريقة الكلامية - فقال : أنتم تقولون إن الله يعرف بالدليل ونحن نقول : عرفنا نفسه فعرفناه . وكما قال نجم الدين الكبرى لابن الخطيب ورفيقه المعتزلي وقد سألاه عن علم اليقين ؟ فقال : هو واردات ترد على النفوس تعجز النفوس عن ردها فأجابهما : بأن علم اليقين عندنا هو موجود بالضرورة لا بالنظر وهو جواب حسن .

فإن العلم الضروري : هو الذي يلزم نفس العبد لزوما لا يمكنه الانفكاك عنه . فالقائس إن لم يحصل له العلم الضروري ابتداء وإلا فلا بد أن يبني نظره وقياسه على مقدمات ضرورية . ثم حينئذ يحصل له العلم .

ولهذا : قال طائفة منهم أبو المعالي الجويني : إن جميع العلوم ضرورية [ ص: 77 ] باعتباراتها بعد وجود النظر الصحيح في الدليل تحصل العلم ضرورة ; لكن منها ما هو ضروري عند تصور طرفي القضية ومنها ما هو ضروري بعد تأمل ونظر ومنها ما هو ضروري بعد النظر في دليل ذي مقدمتين أو مقدمات .

فقال الشيخ العارف : نحن نجد العلم وجدا ضروريا بالطريق التي نسلكها من تزكية النفس وإصلاح القلب الذي هو حامل العلم وداعيه فكل منهما يفيض الله العلم على قلبه وينزله على فؤاده ; ولكن أحدهما بتحصيل العلم المقارن للعلم المطلوب الذي هو المقدمات والآخر بإصلاح طالب العلم الذي يريد أن يكون عالما - وهو القلب - بمنزلة من يخطب امرأة فتارة تجمل لها وتعرض حتى رأته فرغبت فيه وخطبته وتارة بأن أرسل إليها من تأنس إليه وتطيعه فخطبها له فأجابت فكان سعي الأول وعمله في إصلاح نفسه وتعرضه لها حتى ترغب وكان سعي الثاني في تحصيل الرسول المطاع حتى تجيب . وبمنزلة من يصيد صيدا .

لكن مجرد النظر والعمل مجتمعين ومنفردين : لا يحصلان إلا أمرا مجملا كما هو الواقع وذلك صحيح . فإن ثبوت الأمر المجمل حق ; فإن ضما إلى ذلك ما يعلم بنور الرسالة من الأمر المفصل حصل الإيمان النافع وزال ما يخاف من سوء عاقبة ذينك الطريقين .

وهذه حال من تحيز من أهل النظر الكلامي والعمل العبادي إلى اتباع الرسول والإيمان به ; فقبل منه وأخذ عنه [ ص: 78 ] وإن لم يضم أحدهما إلى ذلك ما جاء به الرسول فإما أن يضم ضده أو لا يضم شيئا ; فإن ضم إلى ذلك ضد ما جاء به الرسول : وقع في التكذيب وهو الكفر المركب وإن لم يضم إليه شيء بقي في الكفر البسيط سواء كان في ريب أو في إعراض وغفلة .

التالي السابق


الخدمات العلمية