صفحة جزء
[ ص: 149 ] وكذلك ما ابتدعه في هذه الطريق ابن سينا وأتباعه من الاستدلال بالممكن على الواجب أبطل من ذلك كما قد بسط ذلك في غير هذا الموضع وحقيقته أن كل موجود فهو ممكن ليس في الوجود موجود بنفسه مع أنهم جعلوا هذا طريقا لإثبات الواجب بنفسه كما يجعل أولئك هذا طريقا لإثبات القديم وكلاهما يناقض ثبوت القديم والواجب فليس في واحد منهما إثبات قديم ولا واجب بنفسه مع أن ثبوت موجود قديم وواجب بنفسه معلوم بالضرورة . ولهذا صار حذاق هؤلاء إلى أن الموجود الواجب والقديم هو العالم بنفسه وقالوا : هو الله . وأنكروا أن يكون للعالم رب مباين للعالم ; إذ كان ثبوت القديم الواجب بنفسه لا بد منه على كل قول وفرعون ونحوه ممن أنكر الصانع ما كان ينكر هذا الوجود المشهود فلما كان حقيقة قول أولئك يستلزم أنه ليس موجود قديم ولا واجب لكنهم لا يعرفون أن هذا يلزمهم ; بل يظنون أنهم أقاموا الدليل على إثبات القديم الواجب بنفسه . ولكن وصفوه بصفات الممتنع فقالوا : لا داخل العالم ولا خارجه ولا هو صفة ولا موصوف ولا يشار إليه ونحو ذلك من الصفات السلبية التي تستلزم عدمه وكان هذا مما تنفر عنه العقول والفطر ويعرف أن هذا صفة المعدوم الممتنع لا صفة الموجود فدليلهم في نفس [ ص: 150 ] الأمر يستلزم أنه ما ثم قديم ولا واجب ولكن ظنوا أنهم أثبتوا القديم والواجب وهذا الذي أثبتوه هو ممتنع فما أثبتوا قديما ولا واجبا . فجاء آخرون من جهميتهم فرأوا هذا مكابرة ولا بد من إثبات القديم والواجب فقالوا : هو هذا العالم فكان قدماء الجهمية يقولون : إنه بذاته في كل مكان وهؤلاء قالوا : هو عين الموجودات والموجود القديم الواجب هو نفس الموجود المحدث الممكن والحلول هو الذي أظهرته الجهمية للناس حتى عرفه السلف والأئمة وردوه وأما حقيقة قولهم فهو النفي أنه لا داخل العالم ولا خارجه ولكن هذا لم تسمعه الأئمة ولم يعرفوا أنه قولهم إلا من باطنهم ; ولهذا كان الأئمة يحكون عن الجهمية أنه في كل مكان ويحكون عنهم وصفه بالصفات السلبية وشاع عند الناس أن الجهمية يصفونه بالسلوب حتى قال أبو تمام : جهمية الأوصاف إلا أنها قد حليت بمحاسن الأشياء وهم لم يقصدوا نفي القديم والواجب فإن هذا لا يقصده أحد من العقلاء لا مسلم ولا كافر ; إذ كان خلاف ما يعلمه كل أحد ببديهة عقله فإنه إذا قدر أن جميع الموجودات حادثة عن عدم لزم أن كل الموجودات حدثت بأنفسها ومن المعلوم ببداهة العقول أن الحادث [ ص: 151 ] لا يحدث بنفسه ; ولهذا قال تعالى : { أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون } وقد قيل : { أم خلقوا من غير شيء } من غير رب خلقهم وقيل : من غير مادة وقيل : من غير عاقبة وجزاء والأول مراد قطعا فإن كل ما خلق من مادة أو لغاية فلا بد له من خالق .

ومعرفة الفطر أن المحدث لا بد له من محدث أظهر فيها من أن كل محدث لا بد له من مادة خلق منها وغاية خلق لها فإن كثيرا من العقلاء نازع في هذا وهذا ولم ينازع في الأول . طائفة قالت : إن هذا العالم حدث من غير محدث أحدثه ; بل من الطوائف من قال : إنه قديم بنفسه واجب بنفسه ليس له صانع وأما أن يقول : إنه محدث حدث بنفسه بلا صانع فهذا لا يعرف عن طائفة معروفة وإنما يحكى عمن لا يعرف . ومثل هذا القول وأمثاله يقوله من يقوله ممن حصل له فساد في عقله صار به إلى السفسطة والسفسطة تعرض لآحاد الناس وفي بعض الأمور ; ولكن أمة من الأمم كلهم سوفسطائية في كل شيء هذا لا يتصور ; فلهذا لا يعرف عن أمة من الأمم أنهم قالوا بحدوث العالم من غير محدث . وهؤلاء لما اعتقدوا أن كل موصوف أو كل ما قامت به صفة أو [ ص: 152 ] فعل بمشيئته فهو محدث وممكن لزمهم القول بحدوث كل موجود ; إذ كان الخالق جل جلاله متصفا بما يقوم به من الصفات والأمور الاختياريات مثل أنه متكلم بمشيئته وقدرته ويخلق ما يخلقه بمشيئته وقدرته ; لكن هؤلاء اعتقدوا انتفاء هذه الصفات عنه ; لاعتقادهم صحة القول بأن ما قامت به الصفات والحوادث فهو حادث ; لأن ذلك لا يخلو من الحوادث وما لم يخل من الحوادث فهو حادث وإذا كان حادثا كان له محدث قديم واعتقدوا أنهم أثبتوا الرب وأنه ذات مجردة عن الصفات ووجوده مطلق لا يشار إليه ولا يتعين . ويقولون : هو بلا إشارة ولا تعيين وهذا الذي أثبتوه لا حقيقة له في الخارج وإنما هو في الذهن فكان ما أثبتوه واعتقدوا أنه الصانع للعالم إنما يتحقق في الأذهان لا في الأعيان وكان حقيقة قولهم تعطيل الصانع . فجاء إخوانهم في أصل المقالة . وقالوا : هذا الوجود المطلق المجرد عن الصفات هو الوجود الساري في الموجودات فقالوا بحلوله في كل شيء . وقال آخرون منهم : هو وجود كل شيء ومنهم من فرق بين الوجود والثبوت ومنهم من فرق بين التعيين والإطلاق ومنهم من جعله في العالم كالمادة في الصورة ومنهم من جعله في العالم كالزبد في [ ص: 153 ] اللبن وكالزيت والشيرج في السمسم والزيتون وقد بسط الكلام على هؤلاء في غير هذا الموضع .

و " المقصود هنا " أن الأصل الذي أضلهم قولهم ما قامت به الصفات والأفعال والأمور الاختيارية أو الحوادث فهو حادث ثم قالوا : والجسم لا يخلو من الحوادث وأثبتوا ذلك بطرق منهم من قال : لا يخلو عن الأكوان الأربعة : الحركة والسكون والاجتماع والافتراق ومنهم من قال : لا يخلو عن الحركة والسكون فقط ومنهم من قال : لا يخلو عن الأعراض والأعراض كلها حادثة وهي لا تبقى زمانين وهذه طريقة الآمدي وزعم أن أكثر أصحاب الأشعرية اعتمدوا عليها والرازي اعتمد على طريقة الحركة والسكون . وقد بسط الكلام على هذه الطرق وجميع ما احتجوا به على حدوث الجسم وإمكانه وذكرنا في ذلك كلامهم هم أنفسهم في فساد جميع هذه الطرق وأنهم هم بينوا فساد جميع ما استدل به على حدوث الجسم وإمكانه وبينوا فسادها طريقا طريقا بما ذكروه كما قد بسط هذا في غير هذا الموضع . وأماالهشامية والكرامية وغيرهم ممن يقول بأنه جسم قديم فقد شاركوهم في أصل هذه المقالة ; لكن لم يقولوا بحدوث كل جسم ولا [ ص: 154 ] قالوا : إن الجسم لا ينفك عن الحوادث ; إذ كان القديم عندهم جسما قديما وهو خال من الحوادث وقد قيل : أول من قال في الإسلام أن القديم جسم هو هشام بن الحكم كما أن أول من أظهر في الإسلام نفي الجسم هو الجهم بن صفوان .

التالي السابق


الخدمات العلمية