صفحة جزء
فصل ولفظ " الحسنات " و " السيئات " في كتاب الله : يتناول هذا وهذا قال الله تعالى عن المنافقين { إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا } وقال تعالى : { إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون } وقال تعالى { وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون } وقال تعالى { وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور } وقال تعالى في حق الكفار المتطيرين بموسى ومن معه : { فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه } ذكر هذا بعد قوله : { ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون }

. وأما الأعمال المأمور بها والمنهي عنها : ففي مثل قوله تعالى { من جاء بالحسنة فله خير منها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون } وقوله تعالى { إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين } وقوله تعالى { فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما } . وهنا قال { ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك } ولم يقل : وما فعلت وما كسبت . كما قال : { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم } وقال تعالى : { فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم } وقال تعالى : { قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا } وقال تعالى : { ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم } وقال تعالى : { فأصابتكم مصيبة الموت } وقال تعالى : { وبشر الصابرين } { الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون } .

فلهذا كان قول { ما أصابك من حسنة } و { من سيئة } متناول لما يصيب الإنسان ويأتيه من النعم التي تسره ومن المصائب التي تسوءه . فالآية متناولة لهذا قطعا . وكذلك قال عامة المفسرين .

قال أبو العالية : { وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله } [ ص: 236 ] قال : هذه في السراء { وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك } قال : وهذه في الضراء .

وقال السدي : { وإن تصبهم حسنة } قالوا والحسنة الخصب ينتج خيولهم وأنعامهم ومواشيهم ويحسن حالهم وتلد نساؤهم الغلمان { يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة } قالوا - والسيئة : الضرر في أموالهم تشاؤما بمحمد - قالوا : { هذه من عندك } يقولون : بتركنا ديننا واتباعنا محمدا أصابنا هذا البلاء . فأنزل الله { قل كل من عند الله } الحسنة والسيئة { فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا } قال : القرآن .

وقال الوالبي عن ابن عباس { ما أصابك من حسنة فمن الله } قال : ما فتح الله عليك يوم بدر . وكذلك قال الضحاك . وقال الوالبي أيضا عن ابن عباس " من حسنة " قال : ما أصاب من الغنيمة والفتح فمن الله .

قال : " والسيئة " ما أصابه يوم أحد . إذ شج في وجهه وكسرت رباعيته . وقال : أما " الحسنة " فأنعم الله بها عليك وأما " السيئة " فابتلاك الله بها . [ ص: 237 ] وروي أيضا عن حجاج عن عطية عن ابن عباس { ما أصابك من حسنة فمن الله } قال : هذا يوم بدر { وما أصابك من سيئة فمن نفسك } قال : هذا يوم أحد .

يقول : ما كان من نكبة : فمن ذنبك وأنا قدرت ذلك عليك . وكذلك روى ابن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد عن أبي صالح فمن " نفسك " قال : فبذنبك وأنا قدرتها عليك . روى هذه الآثار ابن أبي حاتم وغيره . وروي أيضا عن مطرف بن عبد الله بن الشخير .

قال : ما تريدون من القدر ؟ أما تكفيكم هذه الآية التي في سورة النساء { وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك } ؟ أي من نفسك . والله ما وكلوا إلى القدر . وقد أمروا به . وإليه يصيرون . وكذلك في تفسير أبي صالح عن ابن عباس { وإن تصبهم حسنة } الخصب والمطر { وإن تصبهم سيئة } الجدب والبلاء .

وقال ابن قتيبة { ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك } قال : الحسنة النعمة . والسيئة البلية . [ ص: 238 ] وقد ذكر أبو الفرج في قوله " { ما أصابك من حسنة } - ومن سيئة " ثلاثة أقوال . أحدها : أن " الحسنة " ما فتح الله عليهم يوم بدر .

و " السيئة " ما أصابهم يوم أحد . قال : رواه ابن أبي طلحة - وهو الوالبي - عن ابن عباس . قال : والثاني " الحسنة " الطاعة . و " السيئة " المعصية . قاله أبو العالية . والثالث " الحسنة " النعمة . و " السيئة " البلية . قاله ابن منبه . قال : وعن أبي العالية نحوه . وهو أصح . قلت : هذا هو القول المعروف بالإسناد عن أبي العالية كما تقدم من تفسيره المعروف الذي يروى عنه هو وغيره من طريق أبي جعفر الداري عن الربيع بن أنس عنه وأمثاله .

وأما الثاني : فهو لم يذكر إسناده . ولكن ينقل من كتب المفسرين الذين يذكرون أقوال السلف بلا إسناد . وكثير منها ضعيف . بل كذب لا يثبت عمن نقل عنه .

وعامة المفسرين المتأخرين أيضا يفسرونه على مثل أقوال السلف وطائفة منهم تحملها على الطاعة والمعصية . [ ص: 239 ] فأما الصنف الأول : فهي تتناوله قطعا . كما يدل عليه لفظها وسياقها ومعناها وأقوال السلف .

وأما المعنى الثاني : فليس مرادا دون الأول قطعا . ولكن قد يقال : إنه مراد مع الأول باعتبار أن ما يهديه الله إليه من الطاعة : هو نعمة في حقه من الله أصابته . وما يقع منه من المعصية : هو سيئة أصابته . ونفسه التي عملت السيئة . وإذا كان الجزاء من نفسه فالعمل الذي أوجب الجزاء : أولى أن يكون من نفسه .

فلا منافاة أن تكون سيئة العمل وسيئة الجزاء من نفسه . مع أن الجميع مقدر كما تقدم . وقد روي عن مجاهد عن ابن عباس : أنه كان يقرأ " فمن نفسك وأنا قدرتها عليك " .

التالي السابق


الخدمات العلمية