صفحة جزء
فصل والله سبحانه قد تفضل على بني آدم بأمرين . هما أصل السعادة . أحدهما : أن كل مولود يولد على الفطرة كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { كل مولود يولد على الفطرة . فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء . هل تحسون فيها من جدعاء ؟ ثم يقول أبو هريرة : اقرءوا إن شئتم { فطرة الله التي فطر الناس عليها } } قال تعالى { فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم }

. [ ص: 296 ] وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { يقول الله تعالى : خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين . وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا } . فالنفس بفطرتها إذا تركت كانت مقرة لله بالإلهية محبة له تعبده لا تشرك به شيئا . ولكن يفسدها ما يزين لها شياطين الإنس والجن بما يوحي بعضهم إلى بعض من الباطل . قال تعالى { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين } { أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون } .

وتفسير هذه الآية مبسوط في غير هذا الموضع . الثاني : أن الله تعالى قد هدى الناس هداية عامة بما جعل فيهم بالفطرة من المعرفة وأسباب العلم وبما أنزل إليهم من الكتب وأرسل إليهم من الرسل . قال تعالى { اقرأ باسم ربك الذي خلق } { خلق الإنسان من علق } { اقرأ وربك الأكرم } { الذي علم بالقلم } { علم الإنسان ما لم يعلم } وقال تعالى { الرحمن } { علم القرآن } { خلق الإنسان } { علمه البيان } وقال تعالى { سبح اسم ربك الأعلى } { الذي خلق فسوى } { والذي قدر فهدى } وقال تعالى { وهديناه النجدين } . ففي كل أحد ما يقتضي معرفته بالحق ومحبته له . وقد هداه ربه إلى أنواع من العلم يمكنه أن يتوصل بها إلى سعادة الأولى والآخرة . وجعل في فطرته محبة لذلك .

لكن قد يعرض الإنسان - بجاهليته وغفلته - عن طلب علم ما ينفعه . وكونه لا يطلب ذلك ولا يريده : أمر عدمي لا يضاف إلى الله تعالى . فلا يضاف إلى الله : لا عدم علمه بالحق ولا عدم إرادته للخير . لكن النفس كما تقدم : الإرادة والحركة من لوازمها فإنها حية حياة طبيعية ; لكن سعادتها ونجاتها إنما تتحقق بأن تحيا الحياة النافعة الكاملة . وكان ما لها من الحياة الطبيعية موجبا لعذابها . فلا هي حية متنعمة بالحياة . ولا هي ميتة مستريحة من العذاب . قال تعالى { فذكر إن نفعت الذكرى } { سيذكر من يخشى } { ويتجنبها الأشقى } { الذي يصلى النار الكبرى } { ثم لا يموت فيها ولا يحيا } فالجزاء من جنس العمل . لما كان في الدنيا : ليس بحي الحياة النافعة التي خلق لأجلها . [ ص: 298 ]

بل كانت حياته من جنس حياة البهائم . ولم يكن ميتا عديم الإحساس : كان في الآخرة كذلك . فإن مقصود الحياة : هو حصول ما ينتفع به الحي ويستلذ به والحي لا بد له من لذة أو ألم . فإذا لم تحصل له اللذة : لم يحصل له مقصود الحياة فإن الألم ليس مقصودا . كمن هو حي في الدنيا وبه أمراض عظيمة لا تدعه يتنعم بشيء مما يتنعم به الأحياء . فهذا يبقى طول حياته يختار الموت ولا يحصل له .

فلما كان من طبع النفس الملازم لها : وجود الإرادة والعمل إذ هو حارث همام . فإن عرفت الحق وأرادته وأحبته وعبدته : فذلك من تمام إنعام الله عليها . وإلا فهي بطبعها لا بد لها من مراد معبود غير الله . ومرادات سيئة تضرها . فهذا الشر قد تركب من كونها لم تعرف الله ولم تعبده . وهذا عدم لا يضاف إلى فاعل ومن كونها بطبعها لا بد لها من مراد معبود . فعبدت غيره . وهذا هو الشر الذي تعذب عليه .

وهو من مقتضى طبعها مع عدم هداها . والقدرية يعترفون بهذا جميعه . وبأن الله خلق الإنسان مريدا . لكن يجعلون المخلوق كونه مريدا بالقوة والقبول . أي قابلا لأن يريد هذا وهذا . [ ص: 299 ] وأما كونه مريدا لهذا المعين وهذا المعين : فهذا عندهم ليس مخلوقا لله وغلطوا في ذلك غلطا فاحشا . فإن الله خالق هذا كله . وإرادة النفس لما تريده من الذنوب وفعلها : هو من جملة مخلوقات الله تعالى فإن الله خالق كل شيء . وهو الذي ألهم النفس - التي سواها - فجورها وتقواها . { وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها . أنت وليها ومولاها } . وهو سبحانه : جعل إبراهيم وآله أئمة يهدون بأمره . وجعل فرعون وآله أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون . لكن هذا لا يضاف مفردا إلى الله تعالى لوجهين : من جهة علته الغائية ومن جهة سببه وعلته الفاعلية .

أما الغائية : فإن الله إنما خلقه لحكمة هو باعتبارها خير لا شر . وإن كان شرا إضافيا . فإذا أضيف مفردا : توهم المتوهم مذهب جهم : أن الله يخلق الشر المحض الذي لا خير فيه لأحد لا لحكمة ولا رحمة . والأخبار والسنة والاعتبار تبطل هذا المذهب . [ ص: 300 ] كما أنه إذا قيل : محمد وأمته يسفكون الدماء ويفسدون في الأرض : كان هذا ذما لهم وكان باطلا .

وإذا قيل : يجاهدون في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين كله لله ويقتلون من منعهم من ذلك : كان هذا مدحا لهم وكان حقا . فإذا قيل : إن الرب تبارك وتعالى حكيم رحيم . أحسن كل شيء خلقه وأتقن ما صنع وهو أرحم الراحمين . أرحم بعباده من الوالدة بولدها . والخير كله بيديه . والشر ليس إليه .

بل لا يفعل إلا خيرا . وما خلقه من ألم لبعض الحيوانات أو من أعمالهم المذمومة : فله فيها حكمة عظيمة ونعمة جسيمة - كان هذا حقا . وهو مدح للرب وثناء عليه . وأما إذا قيل : إنه يخلق الشر الذي لا خير فيه ولا منفعة لأحد . ولا له فيها حكمة ولا رحمة . ويعذب الناس بلا ذنب : لم يكن هذا مدحا للرب ولا ثناء عليه .

بل كان بالعكس . ومن هؤلاء من يقول : إن الله تعالى أضر على خلقه من إبليس . وبسط القول في بيان فساد قول هؤلاء له موضع آخر . وقد بينا بعض ما في خلق جهنم وإبليس والسيئات : من الحكمة [ ص: 301 ] والرحمة . وما لم نعلم أعظم مما علمناه . فتبارك الله أحسن الخالقين وأرحم الراحمين وخير الغافرين . ومالك يوم الدين . الأحد الصمد . الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد . الذي لا يحصي العباد ثناء عليه . بل هو كما أثنى على نفسه الذي له الحمد في الأولى والآخرة . وله الحكم وإليه ترجعون . الذي يستحق الحمد والحب والرضا لذاته ولإحسانه إلى عباده . سبحانه وتعالى . يستحق أن يحمد لما له في نفسه من المحامد والإحسان إلى عباده . هذا حمد شكر وذاك حمد مطلقا . وقد ذكرنا - في غير هذا الموضع - ما قيل : من أن كل ما خلقه الله فهو نعمة على عباده المؤمنين . يستحق أن يحمدوه ويشكروه عليه وهو من آلائه . ولهذا قال في آخر سورة النجم { فبأي آلاء ربك تتمارى } وفي سورة الرحمن يذكر { كل من عليها فان } ونحو ذلك .

ثم يقول عقب ذلك { فبأي آلاء ربكما تكذبان } . وقال آخرون : منهم الزجاج وأبو الفرج بن الجوزي { فبأي آلاء ربكما تكذبان } أي من هذه الأشياء المذكورة . لأنها كلها ينعم بها عليكم في دلالتها إياكم على وحدانيته وفي رزقه إياكم ما به قوامكم . وهذا قالوه في سورة الرحمن . [ ص: 302 ]

وقالوا في قوله { فبأي آلاء ربك تتمارى } فبأي نعم ربك التي تدل على وحدانيته تتشكك ؟ وقيل : تشك وتجادل ؟ قال ابن عباس : تكذب ؟ . قلت : قد ضمن { تتمارى } معنى تكذب . ولهذا عداه بالتاء . فإن التماري : تفاعل من المراء . يقال : تمارينا في الهلال . والمراء في القرآن كفر وهو يكون تكذيبا وتشكيكا .

وقد يقال : لما كان الخطاب لهم . قال { تتمارى } أي تتمارون . ولم يقل : تميرا . فإن التفاعل يكون بين اثنين تماريا . قالوا : والخطاب للإنسان . قيل للوليد بن المغيرة . فإنه قال { أم لم ينبأ بما في صحف موسى } { وإبراهيم الذي وفى } { ألا تزر وازرة وزر أخرى } ثم التفت إليه فقال { فبأي آلاء ربك تتمارى } تكذب . كما قال { خلق الإنسان من صلصال كالفخار } { وخلق الجان من مارج من نار } { فبأي آلاء ربكما تكذبان }

. ففي كل ما خلقه الله إحسان إلى عباده يحمد عليه حمد شكر وله فيه حكمة تعود إليه يستحق لأجلها أن يحمد عليه حمدا يستحقه لذاته . فجميع المخلوقات : فيها إنعام على العباد كالثقلين المخاطبين بقوله [ ص: 303 ] { فبأي آلاء ربكما تكذبان } من جهة أنها آيات للرب يحصل بها هدايتهم وإيمانهم الذي يسعدون به في الدنيا والآخرة .

فيدلهم عليه وعلى وحدانيته وقدرته وعلمه وحكمته ورحمته . والآيات التي بعث بها الأنبياء وأيدهم بها ونصرهم . وإهلاك عدوهم - كما ذكره في سورة النجم { وأنه أهلك عادا الأولى } { وثمود فما أبقى } { وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم وأطغى } { والمؤتفكة أهوى } { فغشاها ما غشى } - تدلهم على صدق الأنبياء فيما أخبروا به من الأمر والنهي والوعد والوعيد . ما بشروا به وأنذروا به .

ولهذا قال عقيب ذلك { هذا نذير من النذر الأولى } قيل : هو محمد . وقيل : هو القرآن . فإن الله سمى كلا منهما بشيرا ونذيرا . فقال في رسول الله { إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون } وقال تعالى { إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا } وقال تعالى في القرآن { كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون } { بشيرا ونذيرا } وهما متلازمان .

وكل من هذين المعنيين : مراد . يقال : هذا نذير أنذر بما أنذرت به الرسل والكتب الأولى . وقوله " من النذر " أي من جنسها . أي رسول من [ ص: 304 ] الرسل المرسلين . ففي المخلوقات : نعم من جهة حصول الهدى والإيمان والاعتبار والموعظة بها . وهذه أفضل النعم . فأفضل النعم : نعمة الإيمان . وكل مخلوق من المخلوقات : فهو الآيات التي يحصل بها ما يحصل من هذه النعمة .

قال تعالى { لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب } وقالي تعالى { تبصرة وذكرى لكل عبد منيب } . وما يصيب الإنسان إن كان يسره : فهو نعمة بينة . وإن كان يسوءه : فهو نعمة من جهة أنه يكفر خطاياه . ويثاب بالصبر عليه . ومن جهة أن فيه حكمة ورحمة لا يعلمها { وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون }

. وقد قال في الحديث { والله لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان [ ص: 305 ] خيرا له . إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له . وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له } . وإذا كان هذا وهذا : فكلاهما من نعم الله عليه . وكلتا النعمتين تحتاج مع الشكر إلى الصبر . أما نعمة الضراء : فاحتياجها إلى الصبر ظاهر . وأما نعمة السراء : فتحتاج إلى الصبر على الطاعة فيها .

فإن فتنة السراء أعظم من فتنة الضراء . كما قال بعض السلف : ابتلينا بالضراء فصبرنا . وابتلينا بالسراء فلم نصبر . وفي الحديث { أعوذ بك من فتنة الفقر . وشر فتنة الغنى } . والفقر : يصلح عليه خلق كثير . والغنى : لا يصلح عليه إلا أقل منهم . ولهذا كان أكثر من يدخل الجنة المساكين . لأن فتنة الفقر أهون وكلاهما يحتاج إلى الصبر والشكر . لكن لما كان في السراء : اللذة .

وفي الضراء : الألم . اشتهر ذكر الشكر في السراء والصبر في الضراء . قال تعالى { ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور } { ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور } { إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير } ولأن صاحب السراء : أحوج إلى الشكر وصاحب الضراء : أحوج إلى الصبر . فإن صبر هذا وشكر هذا : واجب . إذا تركه استحق العقاب . وأما صبر صاحب السراء : فقد يكون مستحبا إذا كان عن فضول الشهوات .

وقد يكون واجبا ولكن لإتيانه بالشكر - الذي هو حسنات - يغفر له ما يغفر من سيئاته . وكذلك صاحب الضراء : لا يكون الشكر في حقه مستحبا إذا كان شكرا يصير به من السابقين المقربين . وقد يكون تقصيره في الشكر : مما يغفر له لما يأتي به من الصبر . فإن اجتماع الشكر والصبر جميعا : يكون مع تألم النفس وتلذذها يصبر على الألم ويشكر على النعم .

وهذا حال يعسر على كثير من الناس . وبسط هذا له موضع آخر . والمقصود هنا : أن الله تعالى منعم بهذا كله وإن كان لا يظهر الإنعام به في الابتداء لأكثر الناس . فإن الله يعلم وأنتم لا تعلمون . فكل ما يفعله الله فهو نعمة منه .

التالي السابق


الخدمات العلمية