صفحة جزء
[ ص: 339 ] فصل الفرق السابع : من الحسنات والسيئات التي تتناول الأعمال والجزاء في كون هذه تضاف إلى النفس .

وتلك تضاف إلى الله : أن السيئات التي تصيب الإنسان - وهي مصائب الدنيا والآخرة - ليس لها سبب إلا ذنبه الذي هو من نفسه . فانحصرت في نفسه . وأما ما يصيبه من الخير والنعم : فإنه لا تنحصر أسبابه . لأن ذلك من فضل الله وإحسانه يحصل بعمله وبغير عمله .

وعمله نفسه من إنعام الله عليه . وهو سبحانه لا يجزي بقدر العمل بل يضاعفه له . ولا يقدر العبد على ضبط أسبابها لكن يعلم أنها من فضل الله وإنعامه . فيرجع فيها إلى الله .

فلا يرجو إلا الله . ولا يتوكل إلا عليه . ويعلم أن النعم كلها من الله . وأن كل ما خلقه فهو نعمة كما تقدم . فهو يستحق الشكر المطلق العام التام الذي لا يستحقه غيره . ومن الشكر : ما يكون جزاء على ما يسره على يديه من الخير [ ص: 340 ] كشكر الوالدين وشكر من أحسن إليك من غيرهما .

فإنه { من لا يشكر الناس لا يشكر الله } لكن لا يبلغ من حق أحد وإنعامه : أن يشكر بمعصية الله أو أن يطاع بمعصية الله . فإن الله هو المنعم بالنعم العظيمة التي لا يقدر عليها مخلوق . ونعمة المخلوق إنما هي منه أيضا . قال تعالى { وما بكم من نعمة فمن الله } وقال تعالى { وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه } وجزاؤه سبحانه على الطاعة والمعصية والكفر لا يقدر أحد على مثله .

فلهذا لم يجز أن يطاع مخلوق في معصية الخالق كما قال تعالى { ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما } وقال في الآية الأخرى { وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلي }

. وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح { على المرء المسلم : السمع والطاعة في عسره ويسره ومنشطه ومكرهه ما لم يؤمر بمعصية . فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة } . وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال { إنما الطاعة في المعروف } وقال { من أمركم بمعصية الله فلا تطيعوه } وقال { لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق }

. [ ص: 341 ] وهذا مبسوط في غير هذا الموضع . والمقصود هنا : أنه إذا عرف أن النعم كلها من الله وأنه لا مقدر أن يأتي بها إلا الله . فلا يأتي بالحسنات إلا هو ولا يذهب السيئات إلا هو . وأنه { ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده } صار توكله ورجاؤه ودعاؤه للخالق وحده . وكذلك إذا علم ما يستحقه الله من الشكر - الذي لا يستحقه غيره - صار علمه بأن الحسنات من الله : يوجب له الصدق في شكر الله والتوكل عليه . ولو قيل : إنها من نفسه لكان غلطا . لأن منها ما ليس لعمله فيه مدخل .

وما كان لعمله فيه مدخل : فإن الله هو المنعم به . فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله . ولا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه .

وعلم أن الشر قد انحصر سببه في النفس . فضبط ذلك وعلم من أين يؤتى . فاستغفر ربه مما فعل وتاب . واستعان الله واستعاذ به مما لم يعمل بعد كما قال من قال من السلف " لا يرجون عبد إلا ربه . ولا يخافن عبد إلا ذنبه " . [ ص: 342 ]

وهذا يخالف قول الجهمية ومن اتبعهم الذين يقولون : إن الله يعذب بلا ذنب ويعذب أطفال الكفار وغيرهم عذابا دائما أبدا بلا ذنب . فإن هؤلاء يقولون : يخاف الله خوفا مطلقا سواء كان له ذنب أو لم يكن له ذنب . ويشبهون خوفه بالخوف من الأسد ومن الملك القاهر الذي لا ينضبط فعله ولا سطوته بل قد يقهر ويعذب من لا ذنب له من رعيته .

فإذا صدق العبد بقوله تعالى { وما أصابك من سيئة فمن نفسك } علم بطلان هذا القول وأن الله لا يعذبه ويعاقبه إلا بذنوبه حتى المصائب التي تصيب العبد كلها بذنوبه . وقد تقدم قول السلف - ابن عباس وغيره - أن ما أصابهم يوم أحد من الغم والفشل : إنما كان بذنوبهم . لم يستثن من ذلك أحد .

وهذا من فوائد تخصيص الخطاب لئلا يظن أنه عام مخصوص . وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا هم ولا حزن ولا غم - حتى الشوكة يشاكها - إلا كفر الله بها من خطاياه } .

التالي السابق


الخدمات العلمية