صفحة جزء
[ ص: 343 ] فصل الفرق الثامن : أن السيئة إذا كانت من النفس .

والسيئة خبيثة مذمومة وصفها بالخبث في مثل قوله { الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات } . قال جمهور السلف : الكلمات الخبيثة للخبيثين ومن كلام بعضهم : الأقوال والأفعال الخبيثة للخبيثين . وقد قال تعالى { ضرب الله مثلا كلمة طيبة } { ومثل كلمة خبيثة } وقال الله { إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه } والأقوال والأفعال صفات القائل الفاعل .

فإذا كانت النفس متصفة بالسوء والخبث لم يكن محلها ينفعه إلا ما يناسبها . فمن أراد : أن يجعل الحيات والعقارب يعاشرون الناس كالسنانير : لم يصلح . [ ص: 344 ] ومن أراد : أن يجعل الذي يكذب شاهدا على الناس لم يصلح . وكذلك من أراد : أن يجعل الجاهل معلما للناس مفتيا لهم . أو يجعل العاجز الجبان مقاتلا عن الناس . أو يجعل الأحمق الذي لا يعرف شيئا سائسا للناس أو للدواب : فمثل هذا يوجب الفساد في العالم .

وقد يكون غير ممكن . مثل من أراد أن يجعل الحجارة تسبح على وجه الماء كالسفن أو تصعد إلى السماء كالريح ونحو ذلك . فالنفوس الخبيثة لا تصلح أن تكون في الجنة الطيبة التي ليس فيها من الخبث شيء . فإن ذلك موجب للفساد أو غير ممكن . بل إذا كان في النفس خبث طهرت وهذبت حتى تصلح لسكنى الجنة . كما في الصحيح من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم { إن المؤمنين إذا نجوا من النار - أي عبروا الصراط - وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار .

فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا . فإذا هذبوا ونقوا : أذن لهم في دخول الجنة
} . [ ص: 345 ] وهذا مما رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { يخلص المؤمنون من النار . فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار . فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا هذبوا ونقوا : أذن لهم في دخول الجنة .

فوالذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله كان في الدنيا
} . والتهذيب : التخليص كما يهذب الذهب . فيخلص من الغش . فتبين أن الجنة إنما يدخلها المؤمنون بعد التهذيب والتنقية من بقايا الذنوب فكيف بمن لم يكن له حسنات يعبر بها الصراط ؟ . وأيضا فإذا كان سببها ثابتا فالجزاء كذلك بخلاف الحسنة . فإنها من إنعام الحي القيوم الباقي الأول الآخر . فسببها دائم فيدوم بدوامه . وإذا علم الإنسان أن السيئة من نفسه : لم يطمع في السعادة التامة مع ما فيه من الشر بل علم تحقيق قوله تعالى { من يعمل سوءا يجز به } وقوله { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره } { ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره } . [ ص: 346 ] وعلم أن الرب عليم حليم رحيم عدل وأن أفعاله جارية على قانون العدل والإحسان . وكل نعمة منه فضل .

وكل نقمة منه عدل . وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { يمين الله ملأى . لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار . أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض ؟ فإنه لم يغض ما في يمينه . والقسط بيده الأخرى يخفض ويرفع } . وعلم فساد قول الجهمية الذين يجعلون الثواب والعقاب بلا حكمة ولا عدل ولا وضع للأشياء مواضعها .

فيصفون الرب بما يوجب الظلم والسفه . وهو سبحانه قد شهد { أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم } . ولهذا يقولون : لا ندري ما يفعل بمن فعل السيئات . بل يجوز عندهم : أن يعفو عن الجميع . ويجوز عندهم : أن يعذب الجميع . ويجوز أن يعذب ويغفر بلا موازنة . بل يعفو عن شر الناس ويعذب خير الناس على سيئة صغيرة ولا يغفرها له . وهم يقولون : السيئة لا تمحى لا بتوبة ولا حسنات ماحية ولا غير ذلك . وقد لا يفرقون به بين الصغائر والكبائر . [ ص: 347 ]

قالوا : لأن هذا كله إنما يعلم بالسمع والخبر خبر الله ورسوله . قالوا : وليس في الكتاب والسنة ما يبين ما يفعل الله بمن كسب السيئات إلا الكفر . وتأولوا قوله تعالى { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم } بأن المراد بالكبائر : قد يكون هو الكفر وحده .

كما قال تعالى { إن الله لا يغفر أن يشرك به } . وقد ذكر هذه الأمور القاضي أبو بكر ابن الباقلاني وغيره ممن يقول بمثل هذه الأقوال ممن سلك مسلك جهم بن صفوان في القدر وفي الوعيد . وهؤلاء قصدوا مناقضة المعتزلة في القدر والوعيد .

فأولئك لما قالوا : إن الله لم يخلق أفعال العباد وأنه يشاء ما لا يكون ويكون ما لا يشاء . وسلكوا مسلك نفاة القدر في هذا وقالوا في الوعيد بنحو قول الخوارج . قالوا : إن من دخل النار لا يخرج منها لا بشفاعة ولا غيرها . بل يكون عذابه مؤبدا .

فصاحب الكبيرة أو من رجحت سيئاته - عندهم - لا يرحمه الله أبدا . بل يخلده في النار . فخالفوا السنة المتواترة وإجماع الصحابة فيما قالوه في القدر . وناقضهم جهم في هذا وهذا . وسلك هؤلاء مسلك جهم . مع انتسابهم إلى أهل السنة والحديث [ ص: 348 ] وأتباع السلف . وكذلك سلكوا في الإيمان والوعيد مسلك المرجئة الغلاة كجهم وأتباعه .

وجهم اشتهر عنه نوعان من البدعة : نوع في الأسماء والصفات . فغلا في نفي الأسماء والصفات . ووافقه على ذلك ملاحدة الباطنية والفلاسفة ونحوهم . ووافقه المعتزلة في نفي الصفات دون الأسماء . والكلابية - ومن وافقهم من السالمية . ومن سلك مسلكهم من الفقهاء وأهل الحديث والصوفية - وافقوه على نفي الصفات الاختيارية دون نفي أصل الصفات .

والكرامية ونحوهم : وافقوه على أصل ذلك . وهو امتناع دوام ما لا يتناهى . وأنه يمتنع أن يكون الله لم يزل متكلما إذا شاء وفعالا لما يشاء إذا شاء . لامتناع حوادث لا أول لها . وهو عن هذا الأصل - الذي هو نفي وجود ما لا يتناهى في المستقبل - قال بفناء الجنة والنار .

وقد وافقه أبو الهذيل إمام المعتزلة على هذا لكن قال : بتناهي الحركات . فالمعتزلة في الصفات : مخانيث الجهمية . [ ص: 349 ] وأما الكلابية : فيثبتون الصفات في الجملة . وكذلك الأشعريون ولكنهم - كما قال الشيخ أبو إسماعيل الأنصاري - : الجهمية الإناث . وهم مخانيث المعتزلة . ومن الناس من يقول : المعتزلة مخانيث الفلاسفة .

وقد ذكر الأشعري وغيره هذا . لأن قائله لم يعلم أن جهما سبق هؤلاء إلى هذا الأصل أو لأنهم مخانيثهم من بعض الوجوه . وإلا فإن مخالفتهم للفلاسفة كبيرة جدا . والشهرستاني يذكر عن شيوخهم : أنهم أخذوا ما أخذوا عن الفلاسفة . لأن الشهرستاني إنما يرى مناظرة أصحابه الأشعرية في الصفات ونحوها مع المعتزلة بخلاف أئمة السنة والحديث . فإن مناظرتهم إنما كانت مع الجهمية . وهم المشهورون عند السلف والأمة بنفي الصفات . وأهل النفي للصفات والتعطيل لها : هم عند السلف يقال لهم : الجهمية . وبهذا تميزوا عند السلف عن سائر الطوائف .

وأما المعتزلة : فامتازوا بقولهم بالمنزلة بين المنزلتين لما أحدث ذلك عمرو بن عبيد . وكان هو وأصحابه يجلسون معتزلين للجماعة فيقول قتادة وغيره : أولئك المعتزلة وكان ذلك بعد موت الحسن البصري في أوائل المائة الثانية . [ ص: 350 ] وبعدهم حدثت الجهمية . وكان القدر : قد حدث أهله قبل ذلك في خلافة عبد الله بن الزبير بعد موت معاوية ولهذا تكلم فيهم ابن عمر وابن عباس - رضي الله عنهم - وغيرهما . وابن عباس مات قبل ابن الزبير . وابن عمر مات عقب موته وعقب ذلك تولى الحجاج العراق سنة بضع وسبعين .

فبقي الناس يخوضون في القدر بالحجاز والشام والعراق وأكثره : كان بالشام والعراق بالبصرة وأقله : كان بالحجاز . ثم لما حدثت المعتزلة - بعد موت الحسن وتكلم في المنزلة بين المنزلتين وقالوا بإنفاذ الوعيد وخلود أهل التوحيد في النار وأن النار لا يخرج منها من دخلها . وهذا تغليظ على أهل الذنوب - ضموا إلى ذلك القدر . فإن به يتم التغليظ على أهل الذنوب . ولم يكن الناس إذ ذاك قد أحدثوا شيئا من نفي الصفات . إلى أن ظهر الجعد بن درهم وهو أولهم فضحى به خالد بن عبد الله القسري وقال " أيها الناس ضحوا . تقبل الله ضحاياكم . فإني مضح بالجعد بن درهم . إنه زعم : أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا [ ص: 351 ] ولم يكلم موسى تكليما . تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرا " ثم نزل فذبحه .

وهذا كان بالعراق . ثم ظهر جهم بن صفوان من ناحية المشرق من ترمذ . ومنها ظهر رأي جهم . ولهذا كان علماء السنة والحديث بالمشرق : أكثر كلاما في رد مذهب جهم من أهل الحجاز والشام والعراق مثل إبراهيم بن طهمان وخارجة بن مصعب ومثل عبد الله بن المبارك وأمثالهم - وقد تكلم في ذمهم - وابن الماجشون وغيرهما وكذلك الأوزاعي وحماد بن زيد وغيرهم . وإنما اشتهرت مقالتهم من حين محنة الإمام أحمد بن حنبل وغيره من علماء السنة . فإنهم في إمارة المأمون قووا وكثروا . فإنه كان قد أقام بخراسان مدة . واجتمع بهم . ثم كتب بالمحنة من طرسوس سنة ثماني عشرة ومائتين . وفيها مات . وردوا أحمد بن حنبل إلى الحبس ببغداد إلى سنة عشرين . وفيها كانت محنته مع المعتصم ومناظرته لهم في الكلام . فلما رد عليهم ما احتجوا به عليه وبين أن لا حجة لهم في شيء من ذلك وأن طلبهم من الناس أن يوافقوهم وامتحانهم إياهم : جهل وظلم . وأراد المعتصم إطلاقه . فأشار عليه من أشار بأن المصلحة [ ص: 352 ] ضربه حتى لا تنكسر حرمة الخلافة مرة بعد مرة . فلما ضربوه قامت الشناعة عليهم في العامة وخافوا الفتنة . فأطلقوه . وكان أحمد بن أبي دؤاد قد جمع له نفاة الصفات القائلين بخلق القرآن من جميع الطوائف . فجمع له مثل أبي عيسى محمد بن عيسى برغوث ومن أكابر النجارية أصحاب حسين النجار . وأئمة السنة - كابن المبارك وأحمد بن إسحاق والبخاري وغيرهم - يسمون جميع هؤلاء : جهمية . وصار كثير من المتأخرين - من أصحاب أحمد وغيرهم - يظنون أن خصومه كانوا المعتزلة . ويظنون أن بشر بن غياث المريسي - وإن كان قد مات قبل محنة أحمد وابن أبي دؤاد ونحوهما - كانوا معتزلة . وليس كذلك . بل المعتزلة كانوا نوعا من جملة من يقول القرآن مخلوق .

وكانت الجهمية أتباع جهم والنجارية أتباع حسين النجار والضرارية أتباع ضرار بن عمرو والمعتزلة هؤلاء يقولون : القرآن مخلوق . وبسط هذا له موضع آخر . والمقصود هنا : أن جهما اشتهر عنه نوعان من البدعة . أحدهما : [ ص: 353 ] نفي الصفات . والثاني : الغلو في القدر والإرجاء . فجعل الإيمان مجرد معرفة القلب . وجعل العباد لا فعل لهم ولا قدرة .

وهذان مما غلت المعتزلة في خلافه فيهما . وأما الأشعري : فوافقه على أصل قوله ولكن قد ينازعه منازعات لفظية .

وجهم لم يثبت شيئا من الصفات - لا الإرادة ولا غيرها - فهو إذا قال : إن الله يحب الطاعات ويبغض المعاصي . فمعنى ذلك عنده : الثواب والعقاب . وأما الأشعري : فهو يثبت الصفات - كالإرادة - فاحتاج حينئذ أن يتكلم في الإرادة : هل هي المحبة أم لا ؟ وأن المعاصي : هل يحبها الله أم لا ؟ فقال : إن المعاصي يحبها الله ويرضاها كما يريدها .

وذكر أبو المعالي الجويني : أنه أول من قال ذلك وأن أهل السنة قبله كانوا يقولون : إن الله لا يحب المعاصي . وذكر الأشعري في الموجز : أنه قد قال ذلك قبله طائفة سماهم . أشك في بعضهم . [ ص: 354 ] وشاع هذا القول في كثير من الصوفية ومشايخ المعرفة والحقيقة فصاروا يوافقون جهما في مسائل الأفعال والقدر وإن كانوا مكفرين له في مسائل الصفات كأبي إسماعيل الأنصاري الهروي صاحب كتاب " ذم الكلام " فإنه من المبالغين في ذم الجهمية لنفيهم الصفات .

وله كتاب " تكفير الجهمية " ويبالغ في ذم الأشعرية مع أنهم من أقرب هذه الطوائف إلى السنة والحديث . وربما كان يلعنهم . وقد قال له بعض الناس - بحضرة نظام الملك - أتلعن الأشعرية ؟ فقال : ألعن من يقول : ليس في السموات إله ولا في المصحف قرآن ولا في القبر نبي . وقام من عنده مغضبا . ومع هذا فهو في مسألة إرادة الكائنات وخلق الأفعال : أبلغ من الأشعرية .

لا يثبت سببا ولا حكمة بل يقول : إن مشاهدة العارف الحكم لا تبقى له استحسان حسنة ولا استقباح سيئة . والحكم عنده : هي المشيئة . لأن العارف المحقق - عنده - هو من يصل إلى مقام الفناء . فيفنى عن جميع مراداته بمراد الحق . وجميع الكائنات مرادة له . وهذا هو الحكم عنده .

التالي السابق


الخدمات العلمية