صفحة جزء
[ ص: 369 ] فصل ولما كان الأمر كما أخبر الله به في قوله { ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك } أوجب هذا : أن لا يطلب العبد الحسنات - والحسنات تدخل فيها كل نعمة - إلا من الله . وأن يعلم أنها من الله وحده فيستحق الله عليها الشكر الذي لا يستحقه غيره . ويعلم أنه لا إله إلا هو . كما قال تعالى { وما بكم من نعمة فمن الله } . فهذا يوجب على العبد شكره وعبادته وحده . ثم قال { ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون } وهذا إخبار عن حالهم والجؤار : يتضمن رفع الصوت .

والإنسان إنما يجأر إذا أصابه الضر . وأما في حال النعمة : فهو ساكن إما شاكرا وإما كفورا { ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون } { ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون } . [ ص: 370 ] وهذا المعنى قد ذكره الله في غير موضع يذم من يشرك به بعد كشف البلاء عنه وإسباغ النعماء عليه فيضيف العبد - بعد ذلك - الإنعام إلى غيره . ويعبد غيره تعالى . ويجعل المشكور غيره على النعم كما قال تعالى { وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون } { ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون } وقال تعالى { قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين } { قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون } وقال تعالى { وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار } . وقوله { نسي ما كان يدعو إليه } أي نسي الضر الذي كان يدعو الله لدفعه عنه كما قال في سورة الأنعام { قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين } { بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون } . فذم الله سبحانه حزبين : حزبا لا يدعونه في الضراء . ولا يتوبون إليه . وحزبا يدعونه ويتضرعون إليه ويتوبون إليه .

فإذا [ ص: 371 ] كشف الضر عنهم : أعرضوا عنه وأشركوا به ما اتخذوهم من الأنداد من دونه . فهذا الحزب نوعان - كالمعطلة والمشركة - حزب إذا نزل بهم الضر لم يدعوا الله ولم يتضرعوا إليه ولم يتوبوا إليه كما قال { ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون } { فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون } وقال تعالى { ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون } وقال تعالى { أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون } وقال تعالى { ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون } وحزب يتضرعون إليه في حال الضراء .

ويتوبون إليه . فإذا كشفها عنهم : أعرضوا عنه كما قال تعالى { وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون } وقال تعالى { وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض } وقال تعالى { وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا } وقال في المشركين ما تقدم { ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون } { ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون } .

والممدوح : هو القسم الثالث . وهم الذين يدعونه ويتوبون إليه . ويثبتون على عبادته والتوبة إليه في حال السراء . فيعبدونه ويطيعونه في السراء والضراء . وهم أهل الصبر والشكر كما ذكر ذلك عن أنبيائه عليهم السلام . فقال تعالى { وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين } { فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين } وقال تعالى { ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب } { قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب } وقال تعالى { وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب } { إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط } { إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب } { قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب } { فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب } وقال تعالى عن آدم وحواء { فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين } { قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين } وقال : { فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم }

. وقال تعالى عن المؤمنين الذين قتل نبيهم { وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين } { وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين } { فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين } . وقوله " قتل " أي النبي قتل . هذا أصح القولين . وقوله { معه ربيون كثير } جملة في موضع الخبر صفة للنبي - صفة بعد صفة - أي كم من نبي معه ربيون كثير قتل ولم يقتلوا معه . فإنه كان يكون المعنى : أنه قتل وهم معه . والمقصود : أنه كان معه ربيون كثير وقتل في الجملة . وأولئك الربيون ما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا

. [ ص: 374 ] و " الربيون " الجموع الكثيرة . وهم الألوف الكثيرة . وهذا المعنى : هو الذي يناسب سبب النزول وهو ما أصابهم يوم أحد لما قيل : " إن محمدا قد قتل " وقد قال قبل ذلك { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين } وهي التي تلاها أبو بكر الصديق رضي الله عنه يوم مات النبي صلى الله عليه وسلم

. وقال " من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات . ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت " . فإنه عند قتل النبي وموته : تحصل فتنة عظيمة للناس - المؤمنين والكافرين - وتحصل ردة ونفاق لضعف قلوب أتباعه لموته ولما يلقيه الشيطان في قلوب الكافرين : إن هذا قد انقضى أمره وما بقي يقوم دينه . وأنه لو كان نبيا لما قتل وغلب . ونحو ذلك . فأخبر الله تعالى : أنه كم من نبي قتل ؟ . فإن بني إسرائيل قتلوا كثيرا من الأنبياء .

والنبي معه ربيون كثير أتباع له . وقد يكون قتله في غير حرب ولا قتال . بل يقتل وقد اتبعه ربيون كثير . فما وهن المؤمنون لما أصابهم بقتله وما ضعفوا . وما استكانوا . والله يحب الصابرين . ولكن استغفروا لذنوبهم التي بها [ ص: 375 ] تحصل المصائب - فما أصابهم من سيئة فمن أنفسهم - وسألوا الله أن يغفر لهم وأن يثبت أقدامهم فيثبتهم على الإيمان والجهاد لئلا يرتابوا . ولا ينكلوا عن الجهاد .

قال تعالى { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون } وسألوه أن ينصرهم على القوم الكافرين . سألوا ربهم ما يفعل لهم في أنفسهم من التثبيت وما يعطيهم من عنده من النصر . فإنه هو الناصر وحده . وما النصر إلا من عند الله .

وكذا أنزل الملائكة عونا لهم . قال تعالى لما أنزل الملائكة { وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم } وقال تعالى { فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين } وهذا مبسوط في موضع آخر .

والمقصود هنا : أنه لما كانت الحسنة من إحسانه تعالى والمصائب من نفس الإنسان - وإن كانت بقضاء الله وقدره - وجب على العبد أن يشكر ربه سبحانه وأن يستغفره من ذنوبه . وألا يتوكل إلا عليه وحده . فلا يأتي بالحسنات إلا هو . فأوجب ذلك للعبد : توحيده والتوكل عليه وحده والشكر له وحده والاستغفار من الذنوب . [ ص: 376 ]

وهذه الأمور كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمعها في الصلاة . كما ثبت عنه في الصحيح { أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من الركوع يقول : ربنا ولك الحمد ملء السماء وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد أهل الثناء والمجد . أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد } فهذا حمد وهو شكر لله تعالى . وبيان أن حمده أحق ما قاله العبد . ثم يقول بعد ذلك { اللهم لا مانع لما أعطيت . ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد } . وهذا تحقيق لوحدانيته : لتوحيد الربوبية . خلقا وقدرا وبداية وهداية . هو المعطي المانع . لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع ولتوحيد الإلهية - شرعا وأمرا ونهيا - وهو أن العباد وإن كانوا يعطون ملكا وعظمة وبختا ورياسة في الظاهر أو في الباطن كأصحاب المكاشفات والتصرفات الخارقة { فلا ينفع ذا الجد منك الجد } أي لا ينجيه ولا يخلصه من سؤالك وحسابك حظه وعظمته وغناه .

ولهذا قال { لا ينفعه منك } ولم يقل " لا ينفعه عندك " فإنه لو قيل ذلك : أوهم أنه لا يتقرب به إليك لكن قد لا يضره . فيقول صاحب الجد : إذا سلمت من العذاب في الآخرة فما أبالي كالذين [ ص: 377 ] أوتوا النبوة والملك لهم ملك في الدنيا وهم من السعداء فقد يظن ذو الجد - الذي لم يعمل بطاعة الله من بعده - أنه كذلك .

فقال { ولا ينفع ذا الجد منك } ضمن " ينفع " معنى " ينجي ويخلص " فبين أن جده لا ينجيه من العذاب . بل يستحق بذنوبه ما يستحقه أمثاله ولا ينفعه جده منك . فلا ينجيه ولا يخلصه . فتضمن هذا الكلام تحقيق التوحيد وتحقيق قوله { إياك نعبد وإياك نستعين } وقوله { فاعبده وتوكل عليه } وقوله { عليه توكلت وإليه أنيب } وقوله { واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا } { رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا } .

فقوله { لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت } توحيد الربوبية الذي يقتضي : أنه سبحانه : هو الذي يسأل ويدعى ويتوكل عليه . وهو سبب لتوحيد الإلهية ودليل عليه . كما يحتج به في القرآن على المشركين . فإن المشركين كانوا يقرون بهذا التوحيد - توحيد الربوبية - ومع هذا يشركون بالله .

فيجعلون له أندادا يحبونهم كحب الله . ويقولون : إنهم شفعاؤنا عنده وإنهم يتقربون بهم إليه . فيتخذونهم شفعاء وقربانا كما قال تعالى { ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله } وقال تعالى { والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } وقال تعالى { ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون } { فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة بل ضلوا عنهم وذلك إفكهم وما كانوا يفترون } .

التالي السابق


الخدمات العلمية