فصل وقد ظن بعض المتأخرين : أن معنى قوله { 
فمن نفسك  } أي أفمن نفسك ؟ وأنه استفهام على سبيل الإنكار ومعنى كلامه : أن الحسنات والسيئات كلها من الله لا من نفسك . وهذا القول يباين معنى الآية . فإن الآية بينت أن 
السيئات من نفس الإنسان . أي بذنوبه  . وهؤلاء يقولون : ليست السيئات من نفسه .  
[ ص: 422 ] 
وممن ذكر ذلك : 
أبو بكر بن فورك   . فإنه قال : معناه : أفمن نفسك ؟ يدل عليه قول الشاعر : 
ثم قالوا : تحبها ؟ قلت : بهرا عدد الرمل والحصى والتراب 
قلت : 
وإضمار الاستفهام - إذا دل عليه الكلام  - لا يقتضي جواز إضماره في الخبر المخصوص من غير دلالة . فإن هذا يناقض المقصود . ويستلزم أن كل من أراد أن ينفي ما أخبر الله به يقدر أن ينفيه بأن يقدر في خبره استفهاما . ويجعله استفهام إنكار . وهذا من جهة العربية نظير ما زعمه بعضهم في قول 
إبراهيم  عليه السلام " هذا ربي " أهذا ربي ؟ قال 
ابن الأنباري   : هذا القول شاذ . لأن حرف الاستفهام لا يضمر إذا كان فارقا بين الإخبار والاستخبار . 
وهؤلاء استشهدوا بقوله { 
أفإن مت فهم الخالدون  } . وهذا لا حجة فيه . لأنه قد تقدم الاستفهام في أول الجملة في الجملة الشرطية { 
وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد  } فلم يحتج إلى ذكره ثانية . بل ذكره يفسد الكلام . ومثله قوله { 
أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم  } وقوله { 
أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم  } وقوله { 
أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم  } وهذا من فصيح الكلام وبليغه . واستشهدوا بقوله : 
لعمرك لا أدري وإن كنت داريا     بسبع رمين الجمر أم بثمان ؟ 
وقوله : 
كذبتك عينك أم رأيت بواسط     غلس الظلام من الرباب خيالا ؟ 
تقديره : أكذبتك عينك ؟ . وهذا لا حجة فيه . لأن قوله فيما بعد " أم بثمان " و " أم رأيت " يدل على الألف المحذوفة في البيت الأول . 
وأما الثاني : فإن كانت " أم " هي المتصلة فكذلك . وإن كانت هي المنفصلة . فالخبر على بابه . وهؤلاء مقصودهم : أن النفس لا تأثير لها في وجود السيئات .  
[ ص: 424 ] 
وليست سببا فيها . بل قد يقولون : إن المعاصي علامة محضة على العقوبة لاقترانها بها . لا أنها سبب لها . وهذا مخالف للكتاب والسنة وإجماع 
السلف  وللعقل . والقرآن يبين في غير موضع : أن 
الله لم يهلك أحدا ولم يعذبه إلا بذنب  . 
فقال هنا { 
وما أصابك من سيئة فمن نفسك  } وقال لهم في شأن أحد { 
أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم  } وقال تعالى { 
وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير  } وقال تعالى في سورة الشورى أيضا { 
وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور  } . 
وقال تعالى { 
قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون  } وقال تعالى { 
وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون  } { 
ذكرى وما كنا ظالمين  } وقال تعالى { 
وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون  } وقال تعالى { 
ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون  } وقال تعالى { 
ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون  } وقال تعالى { 
أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير  } وقال تعالى في سورة القلم عن أهل الجنة الذين ضرب بهم المثل لما أهلكها بذلك  
[ ص: 425 ] العذاب { 
ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون  } وقال تعالى { 
مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون  } . 
وقال تعالى عن أهل 
سبأ   { 
فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم  } - إلى قوله - { 
ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور  } وقال تعالى { 
وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد  } وقال تعالى { 
وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا  } وفي الحديث الصحيح الإلهي { 
nindex.php?page=hadith&LINKID=47429يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها . فمن وجد خيرا : فليحمد الله . ومن وجد غير ذلك : فلا يلومن إلا نفسه  } . وفي سيد الاستغفار { 
nindex.php?page=hadith&LINKID=129أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي  } وقال تعالى { 
وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك ولكن أكثرهم لا يعلمون  } . والحمد لله وحده وصلى الله على عبد الله ورسوله 
محمد  وآله وصحبه وسلم . ورضي الله عن 
الصحابة  أجمعين وعن 
التابعين  وتابعي التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين .