صفحة جزء
[ ص: 160 ] فصل

فهذا أحد أصلي ابن عربي . وأما الأصل الآخر فقولهم إن وجود الأعيان نفس وجود الحق وعينه وهذا انفردوا به عن جميع مثبتة الصانع من المسلمين واليهود والنصارى والمجوس والمشركين وإنما هو حقيقة قول فرعون والقرامطة المنكرين لوجود الصانع كما سنبينه إن شاء الله .

فمن فهم هذا فهم جميع كلام ابن عربي نظمه ونثره وما يدعيه من أن الحق يغتذي بالخلق لأن وجود الأعيان مغتذ بالأعيان الثابتة في العدم ولهذا يقول بالجمع من حيث الوجود وبالفرق من حيث الماهية والأعيان ويزعم أن هذا هو سر القدر لأن الماهيات لا تقبل إلا ما هو ثابت لها في العدم في أنفسها فهي التي أحسنت وأساءت وحمدت وذمت والحق لم يعطها شيئا إلا ما كانت عليه في حال العدم .

فتدبر كلامه كيف انتظم شيئين : إنكار وجود الحق وإنكار خلقه لمخلوقاته فهو منكر للرب الذي خلق فلا يقر برب ولا بخلق ومنكر لرب العالمين فلا رب ولا عالمون مربوبون إذ ليس إلا أعيان ثابتة ووجود قائم بها فلا الأعيان مربوبة ولا الوجود مربوب ولا الأعيان مخلوقة ولا الوجود مخلوق .

وهذا يفرق بين المظاهر والظاهر والمجلي والمتجلي ; لأن المظاهر عنده هي الأعيان الثابتة في العدم وأما الظاهر فهو وجود الخلق .

[ ص: 161 ] فصل

وأما صاحبه الصدر الفخر الرومي فإنه لا يقول إن الوجود زائد على الماهية فإنه كان أدخل في النظر والكلام من شيخه لكنه أكفر وأقل علما وإيمانا وأقل معرفة بالإسلام وكلام المشايخ ; ولما كان مذهبهم كفرا كان كل من حذق فيه كان أكفر فلما رأى أن التفريق بين وجود الأشياء وأعيانها لا يستقيم وعنده أن الله هو الوجود ولا بد من فرق بين هذا وهذا فرق بين المطلق والمعين فعنده أن الله هو الوجود المطلق الذي لا يتعين ولا يتميز وأنه إذا تعين وتميز فهو الخلق سواء تعين في مرتبة الإلهية أو غيرها .

وهذا القول قد صرح فيه بالكفر أكثر من الأول وهو حقيقة مذهب فرعون والقرامطة وإن كان الأول أفسد من جهة تفرقته بين وجود الأشياء وثبوتها وذلك أنه على القول الأول يمكن أن يجعل للحق وجودا خارجا عن أعيان الممكنات وأنه فاض عليها فيكون فيه اعتراف بوجود الرب القائم بنفسه الغني عن خلقه وإن كان فيه كفر من جهة أنه جعل المخلوق هو الخالق والمربوب هو الرب بل لم يثبت خلقا أصلا ومع هذا فما رأيته صرح بوجود الرب متميزا عن الوجود القائم بأعيان الممكنات .

[ ص: 162 ] وأما هذا فقد صرح بأنه ما ثم سوى الوجود المطلق الساري في الموجودات المعينة ; والمطلق ليس له وجود مطلق فما في الخارج جسم مطلق بشرط الإطلاق ولا إنسان مطلق ولا حيوان مطلق بشرط الإطلاق بل لا يوجد إلا في شيء معين .

والحقائق لها ثلاث اعتبارات : اعتبار العموم والخصوص والإطلاق فإذا قلنا : حيوان عام أو إنسان عام أو جسم عام أو وجود عام فهذا لا يكون إلا في العلم واللسان وأما الخارج عن ذلك فما ثم شيء موجود في الخارج يعم شيئين ; ولهذا كان العموم من عوارض صفات الحي . فيقال : علم عام وإرادة عامة وغضب عام وخبر عام وأمر عام .

ويوصف صاحب الصفة بالعموم أيضا كما في الحديث الذي في سنن أبي داود { أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بعلي وهو يدعو فقال : يا علي عم فإن فضل العموم على الخصوص كفضل السماء على الأرض } وفي الحديث أنه { لما نزل قوله : { وأنذر عشيرتك الأقربين } عم وخص } . رواه مسلم من حديث موسى بن طلحة عن أبي هريرة .

وتوصف الصفة بالعموم كما في حديث التشهد : { السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين . فإذا قلتم ذلك فقد أصابت كل عبد صالح لله في السماء والأرض } .

وأما إطلاق من أطلق أن العموم من عوارض الألفاظ فقط فليس كذلك إذ معاني الألفاظ القائمة بالقلب أحق بالعموم من الألفاظ ; وسائر [ ص: 163 ] الصفات كالإرادة ; والحب ; والبغض ; والغضب ; والرضا يعرض لها من العموم والخصوص ما يعرض للقول وإنما المعاني الخارجة عن الذهن هي الموجودة في الخارج كقولهم : مطر عام وخصب عام ; هذه التي تنازع الناس : هل وصفها بالعموم حقيقة أو مجازا ؟ على قولين : -

( أحدهما مجاز لأن كل جزء من أجزاء المطر والخصب لا يقع إلا حيث يقع الآخر فليس هناك عموم وقيل بل حقيقة لأن المطر المطلق قد عم .

وأما الخصوص فيعرض لها إذا كانت موجودة في الخارج فإن كل شيء له ذات وعين تختص به ويمتاز بها عن غيره : أعني الحقيقة العينية الشخصية التي لا اشتراك فيها مثل : هذا الرجل وهذه الحبة وهذا الدرهم وما عرض لها في الخارج فإنه يعرض لها في الذهن . فإن تصور الذهنية أوسع من الحقائق الخارجية فإنها تشمل الموجود والمعدوم والممتنع والمقدرات .

وأما الإطلاق فيعرض لها إذا كانت في الذهن بلا ريب فإن العقل يتصور إنسانا مطلقا ووجودا مطلقا .

وأما في الخارج فهل يتصور شيء مطلق ؟ هذا فيه قولان قيل : المطلق له وجود في الخارج فإنه جزء من المعين وقيل لا وجود له في الخارج إذ ليس في الخارج إلا معين مقيد والمطلق الذي يشترك فيه العدد لا يكون جزءا من المعين الذي لا يشركه فيه .

والتحقيق : أن المطلق بلا شرط أصلا يدخل فيه المقيد المعين وأما المطلق [ ص: 164 ] بشرط الإطلاق فلا يدخل فيه المعين المقيد وهذا كما يقول الفقهاء : الماء المطلق فإنه بشرط الإطلاق فلا يدخل فيه المضاف وأما المطلق لا بشرط فيدخل فيه المضاف .

فإذا قلنا : الماء ينقسم إلى ثلاثة أقسام : طهور وطاهر ونجس فالثلاثة أقسام الماء : الطهور هو الماء المطلق الذي لا يدخل فيه ما ليس بطهور كالعصارات والمياه النجسة فالماء المقسوم هو المطلق لا بشرط والماء الذي هو قسيم للماءين هو المطلق بشرط الإطلاق .

لكن هذا الإطلاق والتقييد الذي قاله الفقهاء في اسم الماء إنما هو في الإطلاق والتقييد اللفظي وهو ما دخل في اللفظ المطلق كلفظ ماء أو في اللفظ المقيد كلفظ ماء نجس أو ماء ورد .

وأما ما كان كلامنا فيه أولا فإنه الإطلاق والتقييد في معاني اللفظ ففرق بين النوعين فإن الناس يغلطون لعدم التفريق بين هذين غلطا كثيرا جدا وذلك أن كل اسم فإما أن يكون مسماه معينا لا يقبل الشركة كأنا وهذا وزيد ويقال له المعين والجزء وإما أن يقبل الشركة فهذا الذي يقبل الشركة هو المعنى الكلي المطلق وله ثلاث اعتبارات كما تقدم .

وأما اللفظ المطلق والمقيد فمثال تحرير رقبة ولم تجدوا ماء وذلك أن المعنى قد يدخل في مطلق اللفظ ولا يدخل في اللفظ المطلق أي يدخل في اللفظ لا بشرط الإطلاق ولا يدخل في اللفظ بشرط الإطلاق كما قلنا [ ص: 165 ] في لفظ الماء ; فإن الماء يطلق على المني وغيره كما قال : { من ماء دافق } ويقال : ماء الورد لكن هذا لا يدخل في الماء عند الإطلاق لكن عند التقييد ; فإذا أخذ القدر المشترك بين لفظ الماء المطلق ولفظ الماء المقيد فهو المطلق بلا شرط الإطلاق فيقال : الماء ينقسم إلى مطلق ومضاف ومورد التقسيم ليس له اسم مطلق لكن بالقرينة يقتضي الشمول والعموم وهو قولنا الماء ثلاثة أقسام . فهنا أيضا ثلاثة أشياء : مورد التقسيم وهو الماء العام وهو المطلق بلا شرط لكن ليس له لفظ مفرد إلا لفظ مؤلف والقسم المطلق وهو اللفظ بشرط إطلاقه والثاني اللفظ المقيد وهو اللفظ بشرط تقييده .

وإنما كان كذلك لأن المتكلم باللفظ إما أن يطلقه أو يقيده ليس له حال ثالثة فإذا أطلقه كان له مفهوم وإذا قيده كان له مفهوم ثم إذا قيده إما أن يقيده بقيد العموم أو بقيد الخصوص ; فقيد العموم كقوله : الماء ثلاثة أقسام وقيد الخصوص كقوله : ماء الورد .

وإذا عرف الفرق بين تقييد اللفظ وإطلاقه وبين تقييد المعنى وإطلاقه عرف أن المعنى له ثلاثة أحوال : إما أن يكون أيضا مطلقا أو مقيدا بقيد العموم أو مقيدا بقيد الخصوص .

والمطلق من المعاني نوعان : مطلق بشرط الإطلاق ومطلق لا بشرط .

وكذلك الألفاظ المطلق منها قد يكون مطلقا بشرط الإطلاق كقولنا الماء المطلق [ ص: 166 ] والرقبة المطلقة وقد يكون مطلقا لا بشرط الإطلاق كقولنا إنسان .

فالمطلق المقيد بالإطلاق لا يدخل فيه المقيد بما ينافي الإطلاق فلا يدخل ماء الورد في الماء المطلق وأما المطلق لا بقيد فيدخل فيه المقيد كما يدخل الإنسان الناقص في اسم الإنسان .

فقد تبين أن المطلق بشرط الإطلاق من المعاني ليس له وجود في الخارج فليس في الخارج إنسان مطلق بل لا بد أن يتعين بهذا أو ذاك وليس فيه حيوان مطلق وليس فيه مطر مطلق بشرط الإطلاق .

وأما المطلق بشرط الإطلاق من الألفاظ كالماء المطلق فمسماه موجود في الخارج لأن شرط الإطلاق هنا في اللفظ فلا يمنع أن يكون معناه معينا وبشرط الإطلاق هناك في المعنى والمسمى المطلق بشرط الإطلاق لا يتصور إذ لكل موجود حقيقة يتميز بها وما لا حقيقة له يتميز بها ليس بشيء وإذا كان له حقيقة يتميز بها فتمييزه يمنع أن يكون مطلقا من كل وجه فإن المطلق من كل وجه لا تمييز له فليس لنا موجود هو مطلق بشرط الإطلاق ولكن العدم المحض قد يقال : هو مطلق بشرط الإطلاق إذ ليس هناك حقيقة تتميز ولا ذات تتحقق ; حتى يقال تلك الحقيقة تمنع غيرها بحدها أن تكون إياها .

[ ص: 167 ] وأما المطلق من المعاني لا بشرط : فهذا إذا قيل بوجوده في الخارج فإنما يوجد معينا متميزا مخصوصا والمعين المخصوص يدخل في المطلق لا بشرط ولا يدخل في المطلق بشرط الإطلاق إذ المطلق لا بشرط أعم ولا يلزم إذا كان المطلق بلا شرط موجودا في الخارج : أن يكون المطلق المشروط بالإطلاق موجودا في الخارج ; لأن هذا أخص منه .

فإذا قلنا : حيوان أو إنسان أو جسم أو وجود مطلق فإن عنينا به المطلق بشرط الإطلاق فلا وجود له في الخارج وإن عنينا المطلق لا بشرط فلا يوجد إلا معينا مخصوصا فليس في الخارج شيء إلا معين متميز منفصل عما سواه بحده وحقيقته .

فمن قال : إن وجود الحق هو الوجود المطلق دون المعين : فحقيقة قوله إنه ليس للحق وجود أصلا ولا ثبوت إلا نفس الأشياء المعينة المتميزة والأشياء المعينة ليست إياه فليس شيئا أصلا .

وتلخيص النكتة : أنه لو عنى به المطلق بشرط الإطلاق فلا وجود له في الخارج فلا يكون للحق وجود أصلا وإن عنى به المطلق بلا شرط فإن قيل بعدم وجوده في الخارج فلا كلام وإن قيل بوجوده فلا يوجد إلا معينا فلا يكون للحق وجود إلا وجود الأعيان . فيلزم محذوران .

( أحدهما أنه ليس للحق وجود سوى وجود المخلوقات .

( والثاني التناقض وهو قوله إنه الوجود المطلق دون المعين .

[ ص: 168 ] فتدبر قول هذا ; فإنه يجعل الحق في الكائنات : بمنزلة الكلي في جزئياته وبمنزلة الجنس والنوع والخاصة والفصل في سائر أعيانه الموجودة الثابتة في العدم .

وصاحب هذا القول : يجعل المظاهر والمراتب في المتعينات كما جعلها الأول في الأعيان الثابتة في العدم .

[ ص: 169 ] فصل

وأما التلمساني ونحوه : فلا يفرق بين ماهية ووجود ولا بين مطلق ومعين بل عنده ما ثم سوى . ولا غير بوجه من الوجوه وإنما الكائنات أجزاء منه وأبعاض له بمنزلة أمواج البحر في البحر وأجزاء البيت من البيت فمن شعرهم : -

البحر لا شك عندي في توحده وإن تعدد بالأمواج والزبد     فلا يغرنك ما شاهدت من صور
فالواحد الرب ساري العين في العدد

ومنه : -

فما البحر إلا الموج لا شيء غيره     وإن فرقته كثرة المتعدد

ولا ريب أن هذا القول : هو أحذق في الكفر والزندقة فإن التمييز بين الوجود والماهية وجعل المعدوم شيئا أو التمييز في الخارج بين المطلق والمعين وجعل المطلق شيئا وراء المعينات في الذهن قولان ضعيفان باطلان .

وقد عرف من حدد النظر : أن من جعل في هذه الأمور الموجودة في الخارج شيئين : -

( أحدهما ) وجودها .

[ ص: 170 ] ( والثاني ) ذواتها أو جعل لها حقيقة مطلقة موجودة زائدة على عينها الموجودة فقد غلط غلطا قويا واشتبه عليه ما يأخذه من العقل من المعاني المجردة المطلقة عن التعيين ومن الماهيات المجردة عن الوجود الخارجي بما هو موجود في الخارج من ذلك ولم يدر أن متصورات العقل ومقدراته أوسع مما هو موجود حاصل بذاته كما يتصور المعدومات والممتنعات والمشروطات ويقدر ما لا وجود له ألبتة مما يمكن أو لا يمكن ويأخذ من المعينات صفات مطلقة فيه ومن الموجودات ذوات متصورة فيه .

لكن هذا القول أشد جهلا وكفرا بالله تعالى ; فإن صاحبه لا يفرق بين المظاهر والظاهر ولا يجعل الكثرة والتفرقة إلا في ذهن الإنسان لما كان محجوبا عن شهود الحقيقة فلما انكشف غطاؤه عاين أنه لم يكن غير وأن الرائي عين المرئي والشاهد عين المشهود .

[ ص: 171 ] فصل

واعلم أن هذه المقالات : لا أعرفها لأحد من أمة قبل هؤلاء على هذا الوجه ; ولكن رأيت في بعض كتب الفلسفة المنقولة عن أرسطو أنه حكى عن بعض الفلاسفة قوله : إن الوجود واحد ورد ذلك وحسبك بمذهب لا يرضاه متكلمة الصابئين .

وإنما حدثت هذه المقالات بحدوث دولة التتار وإنما كان الكفر الحلول العام أو الاتحاد أو الحلول الخاص ; وذلك أن القسمة رباعية لأن من جعل الرب هو العبد حقيقة ; فإما أن يقول بحلوله فيه ; أو اتحاده به وعلى التقديرين فإما أن يجعل ذلك مختصا ببعض الخلق كالمسيح أو يجعله عاما لجميع الخلق . فهذه أربعة أقسام : -

( الأول ) هو الحلول الخاص وهو قول النسطورية من النصارى ونحوهم ممن يقول إن اللاهوت حل في الناسوت وتدرع به كحول الماء في الإناء وهؤلاء حققوا كفر النصارى ; بسبب مخالطتهم للمسلمين وكان أولهم في زمن المأمون ; وهذا قول من وافق هؤلاء النصارى من غالية هذه الأمة كغالية الرافضة الذين يقولون : إنه حل بعلي بن أبي طالب وأئمة أهل بيته وغالية النساك [ ص: 172 ] الذين يقولون بالحلول في الأولياء ومن يعتقدون في الولاية أو في بعضهم : كالحلاج ويونس والحاكم ونحو هؤلاء .

( والثاني ) هو الاتحاد الخاص وهو قول يعقوبية النصارى وهم أخبث قولا وهم السودان والقبط يقولون : إن اللاهوت والناسوت اختلطا وامتزجا كاختلاط اللبن بالماء وهو قول من وافق هؤلاء من غالية . المنتسبين إلى الإسلام .

( والثالث ) هو الحلول العام وهو القول الذي ذكره أئمة أهل السنة والحديث عن طائفة من الجهمية المتقدمين وهو قول غالب متعبدة الجهمية ; الذين يقولون : إن الله بذاته في كل مكان ; ويتمسكون بمتشابه من القرآن كقوله : { وهو الله في السماوات وفي الأرض } وقوله : { وهو معكم } والرد على هؤلاء كثير مشهور في كلام أئمة السنة وأهل المعرفة وعلماء الحديث .

( الرابع ) الاتحاد العام وهو قول هؤلاء الملاحدة الذين يزعمون أنه عين وجود الكائنات وهؤلاء أكفر مناليهود والنصارى من وجهين : من جهة أن أولئك قالوا إن الرب يتحد بعبده الذي قربه واصطفاه بعد أن لم يكونا متحدين وهؤلاء يقولون : ما زال الرب هو العبد وغيره من المخلوقات ليس هو غيره .

( والثاني ) من جهة أن أولئك خصوا ذلك بمن عظموه كالمسيح وهؤلاء [ ص: 173 ] جعلوا ذلك ساريا في الكلاب والخنازير والأقذار والأوساخ وإذا كان الله تعالى قد قال : { لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم } الآية . فكيف بمن قال : إن الله هو الكفار والمنافقون والصبيان والمجانين والأنجاس والأنتان وكل شيء

وإذا كان الله قد رد قول اليهود والنصارى لما قالوا : { نحن أبناء الله وأحباؤه } وقال لهم : { قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق } الآية فكيف بمن يزعم أن اليهود والنصارى هم أعيان وجود الرب الخالق ليسوا غيره ولا سواه ؟ ولا يتصور أن يعذب الله إلا نفسه ؟ وأن كل ناطق في الكون فهو عين السامع ؟ كما في قوله صلى الله عليه وسلم { إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها } وأن الناكح عين المنكوح حتى قال شاعرهم : -

وتلتذ إن مرت على جسدي يدي     لأني في التحقيق لست سواكم

واعلم أن هؤلاء لما كان كفرهم - في قولهم : إن الله هو مخلوقاته كلها - أعظم من كفر النصارى بقولهم : { إن الله هو المسيح ابن مريم } وكان النصارى ضلالا أكثرهم لا يعقلون مذهبهم في التوحيد إذ هو شيء متخيل لا يعلم ولا يعقل حيث يجعلون الرب جوهرا واحدا ثم يجعلونه ثلاثة جواهر ويتأولون ذلك بتعدد الخواص والأشخاص التي هي الأقانيم والخواص عندهم ليست جواهر فيتناقضون مع كفرهم .

كذلك هؤلاء الملاحدة الاتحادية ضلال أكثرهم لا يعقلون قول [ ص: 174 ] رءوسهم ولا يفقهونه وهم في ذلك كالنصارى كلما كان الشيخ أحمق وأجهل كان بالله أعرف وعندهم أعظم .

ولهم حظ من عبادة الرب الذي كفروا به كالنصارى هذا ما دام أحدهم في الحجاب فإذا ارتفع الحجاب عن قلبه وعرف أنه هو : فهو بالخيار بين أن يسقط عن نفسه الأمر والنهي ويبقى سدى يفعل ما أحب وبين أن يقوم بمرتبة الأمر والنهي لحفظ المراتب ; وليقتدي به الناس المحجوبون وهم غالب الخلق ويزعمون أن الأنبياء كانوا كذلك إذ عدوهم كاملين .

التالي السابق


الخدمات العلمية