صفحة جزء
وإذا اشتهر عن شخص الفاحشة بين الناس لم يرجم ; لما ثبت في الصحيح عن ابن عباس أنه لما ذكر حديث الملاعنة وقول النبي صلى الله عليه وسلم { إن جاءت به يشبه الزوج فقد كذب عليها وإن جاءت به يشبه الرجل الذي رماها به فقد صدق عليها } فجاءت به على النعت المكروه فقال النبي صلى الله عليه وسلم { لولا الأيمان لكان لي ولها شأن } فقيل لابن عباس : أهذه التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم { لو كنت راجما أحدا بغير بينة لرجمتها } ؟ فقال : لا تلك امرأة كانت تعلن السوء في الإسلام : فقد أخبر أنه لا يرجم أحدا إلا ببينة ولو ظهر عن الشخص السوء .

ودل هذا الحديث على أن الشبه له تأثير في ذلك وإن لم يكن بينة وكذلك ثبت عنه أنه لما مر عليه بتلك الجنازة فأثنوا عليها خيرا إلى آخره قال : { أنتم شهداء الله في أرضه } وفي المسند عنه أنه قال { يوشك أن تعلموا أهل الجنة من أهل النار قيل : يا رسول الله وبم ذلك ؟ قال : بالثناء الحسن والثناء السيئ } . فقد جعل الاستفاضة [ ص: 306 ] حجة وبينة في هذه الأحكام ولم يجعلها حجة في الرجم . وكذلك تقبل شهادة أهل الكتاب على المسلمين في الوصية في السفر عند أحمد وكذلك شهادة الصبيان في الجراح إذا أدوها قبل التفرق في إحدى الروايتين وإذا شهد شاهد أنه رأى الرجل والمرأة والصبي في لحاف أو في بيت مرحاض أو رآهما مجردين أو محلولي السراويل ويوجد مع ذلك ما يدل على ذلك . من وجود اللحاف قد خرج عن العادة إلى مكانهما أو يكون مع أحدهما أو معهما ضوء قد أظهره فرآه فأطفأه فإن إطفاءه دليل على استخفائه بما يفعل فإذا لم يكن ما يستخفى به إلا ما شهد به الشاهد كان ذلك من أعظم البيان على ما شهد به .

فهذا الباب باب عظيم النفع في الدين وهو مما جاءت به الشريعة التي أهملها كثير من القضاة والمتفقهة زاعمين أنه لا يعاقب أحد إلا بشهود عاينوا أو إقرار مسموع وهذا خلاف ما تواترت به السنة وسنة الخلفاء الراشدين وخلاف ما فطرت عليه القلوب التي تعرف المعروف وتنكر المنكر ويعلم العقلاء أن مثل هذا لا تأباه سياسة عادلة ; فضلا عن الشريعة الكاملة ويدل عليه قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة } .

ففي الآية دلالات .

[ ص: 307 ] أحدها قوله : { إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا } فأمر بالتبين عند مجيء كل فاسق بكل نبأ ; بل من الأنباء ما ينهى فيه عن التبين ومنها ما يباح فيه ترك التبين ومن الأنباء ما يتضمن العقوبة لبعض الناس ; لأنه علل الأمر بأنه إذا جاءنا فاسق بنبأ خشية أن نصيب قوما بجهالة فلو كان كل من أصيب بنبأ كذلك لم يحصل الفرق بين العدل والفاسق بل هذه دلالة واضحة على أن الإصابة بنبأ العدل الواحد لا ينهى عنها مطلقا وذلك يدل على قبول شهادة العدل الواحد في جنس العقوبات فإن سبب نزول الآية يدل على ذلك فإنها نزلت في إخبار واحد بأن قوما قد حاربوا بالردة أو نقض العهد .

وفيه أيضا أنه متى اقترن بخبر الفاسق دليل آخر يدل على صدقه فقد استبان الأمر وزال الأمر بالتثبت فتجوز إصابة القوم وعقوبتهم بخبر الفاسق مع قرينة إذا تبين بهما الأمور فكيف خبر الواحد العدل مع دلالة أخرى ; ولهذا كان أصح القولين أن مثل هذا لوث في باب القسامة فإذا انضاف إيمان المقسمين صار ذلك بينة تبيح دم المقسم عليه . وقوله : { أن تصيبوا قوما بجهالة } فجعل المحذور هو الإصابة لقوم بلا علم فمتى أصيبوا بعلم زال المحذور وهذا هو المناط الذي دل عليه القرآن كما قال : { إلا من شهد بالحق وهم يعلمون } وقال : { ولا تقف ما ليس لك به علم } .

[ ص: 308 ] وأيضا فإنه علل ذلك بخوف الندم والندم إنما يحصل على عقوبة البريء من الذنب كما في سنن أبي داود : { ادرءوا الحدود بالشبهات فإن الإمام إن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة } فإذا دار الأمر بين أن يخطئ فيعاقب بريئا أو يخطئ فيعفو عن مذنب كان هذا الخطأ خير الخطأين . أما إذا حصل عنده علم أنه لم يعاقب إلا مذنبا فإنه لا يندم ولا يكون فيه خطأ والله أعلم .

وقد ذكر الشافعي وأحمد أن التغريب جاء في السنة في موضعين " أحدهما " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الزاني إذا لم يحصن : { جلد مائة وتغريب عام } والثاني نفي المخنثين فيما روته أم سلمة { أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها مخنث وهو يقول لعبد الله أخيها : إن فتح الله لك الطائف غدا أدلك على ابنة غيلان فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان . فقال النبي صلى الله عليه وسلم أخرجوهم من بيوتكم } رواه الجماعة إلا الترمذي . وفي رواية في الصحيح { لا يدخلن هؤلاء عليكم } وفي رواية { أرى هذا يعرف مثل هذا لا يدخلن عليكم بعد اليوم } .

قال ابن جريج : المخنث هو هيت وهكذا ذكره غيره . وقد قيل : إنه هنب وزعم بعضهم أنه ماتع وقيل هوان . وروى الجماعة إلا مسلما { أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن المخنثين من الرجال [ ص: 309 ] والمترجلات من النساء وقال : أخرجوهم من بيوتكم وأخرجوا فلانا وفلانا : يعني المخنثين } وقد ذكر بعضهم أنهم كانوا ثلاثة : - بهم وهيت وماتع - على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكونوا يرمون بالفاحشة الكبرى إنما كان تخنيثهم وتأنيثهم لينا في القول وخضابا في الأيدي والأرجل كخضاب النساء ولعبا كلعبهن .

وفي سنن أبي داود عن أبي يسار القرشي عن أبي هاشم عن أبي هريرة . { أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بمخنث وقد خضب رجليه ويديه بالحناء فقال : ما بال هذا ؟ فقيل : يا رسول الله يتشبه بالنساء فأمر به فنفي إلى النقيع فقيل : يا رسول الله ألا نقتله فقال : إني نهيت عن قتل المصلين } قال أبو أسامة حماد بن أسامة : والنقيع ناحية عن المدينة وليس بالبقيع وقيل : إنه الذي حماه النبي صلى الله عليه وسلم لإبل الصدقة ثم حماه عمر وهو على عشرين فرسخا من المدينة وقيل : عشرين ميلا . ونقيع الخضمات موضع آخر قرب المدينة وقيل : هو الذي حماه عمر . والنقيع موضع يستنقع فيه الماء كما في الحديث : { أول جمعة جمعت بالمدينة في نقيع الخضمات } .

فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بإخراج مثل هؤلاء من البيوت فمعلوم أن الذي يمكن الرجال من نفسه والاستمتاع به وبما يشاهدونه من محاسنه وفعل الفاحشة الكبرى به شر من هؤلاء وهو [ ص: 310 ] أحق بالنفي من بين أظهر المسلمين وإخراجه عنهم ; فإن المخنث فيه إفساد للرجال والنساء ; لأنه إذا تشبه بالنساء فقد تعاشره النساء ويتعلمن منه وهو رجل فيفسدهن ولأن الرجال إذا مالوا إليه فقد يعرضون عن النساء ; ولأن المرأة إذا رأت الرجل يتخنث فقد تترجل هي وتتشبه بالرجال فتعاشر الصنفين وقد تختار هي مجامعة النساء كما يختار هو مجامعة الرجال .

وأما إفساده للرجال فهو أن يمكنهم من الفعل به - كما يفعل بالنساء - بمشاهدته ومباشرته وعشقه فإذا أخرج من بين الناس وسافر إلى بلد آخر ساكن فيه الناس ووجد هناك من يفعل به الفاحشة فهنا يكون نفيه بحبسه في مكان واحد ليس معه فيه غيره وإن خيف خروجه فإنه يقيد إذ هذا هو معنى نفيه وإخراجه من بين الناس .

التالي السابق


الخدمات العلمية