صفحة جزء
فصل من قال من أن السراح والفراق صريح في الطلاق ; لأن القرآن ورد بذلك وجعل الصريح ما استعمله القرآن فيه كما يقوله : الشافعي والقاضي وغيرهما من الأصحاب : فقوله ضعيف لوجهين .

" أحدهما " أن هذا الأصل لا دليل عليه بل هو فاسد ; فإن الواقع أن الناس ينطقون بلغاتهم التي توافق لغةالعرب أو تخالفها من عربية أخرى عربا مقررة أو مغيرة لفظا أو معنى أو من عربية مولدة أو عربية معربة تلقيت عن العجم أو عن عجمية ; فإن الطلاق ونحوه يثبت بجميع هذه الأنواع من اللغات : إذ المدار على المعنى ولم يحرم ذلك عليهم أو حرم عليهم فلم يلتزموه ; فإن ذلك لا يوجب وقوع ما لم يوقعوه . وأيضا فاستعمال القرآن لفظا في معنى [ ص: 450 ] لا يقتضي أن ذلك اللفظ لا يحتمل غير ذلك المعنى .

" الوجه الثاني " وهو القاصم أن هذه الألفاظ أكثر ما جاءت في القرآن في غير الطلاق ; مثل قوله : { إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن } فهذا بعد التطليق البائن الذي لا عدة فيه أمر بتسريحهن مع التمتيع ولم يرد به إيقاع طلاق ثان ; فإنه لا يقع ولا يؤمر به وفاقا وإنما أراد التخلية بالفعل وهو رفع الحبس عنها حيث كان النكاح فيه الجمع ملكا وحكما والجمع حسا وفعلا بالحبس وكلاهما موجبه وهما متلازمان ; فإذا زال الملك أمر بإزالة اليد : كما يقال في الأموال الملك والحيازة فالقبض في الموضعين تابع للعقد فإذا رفع العقد إما بإزالة اليد التي هي القبض .

وقوله : { فتعالين أمتعكن وأسرحكن } لا يستدل به على أن التسريح هو التطليق ; فإنه قد يريد به التخلية الفعلية : حيث قرنه بالمتاع ; لكن التخلية الفعلية مستلزمة للتطليق أو يريد به الأمرين ولم يرد به الطلاق وحده لأن ذلك لا يفيدهن بل يضرهن وكذلك قوله : { فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف } وقوله : { أو فارقوهن بمعروف } كذلك . فإن الرجعية إذا قاربت انقضاء العدة لا يؤمر فيها بتطليق ثان : إذا لم يرتجعها وإنما يؤمر [ ص: 451 ] بتخلية سبيلها وهو التسريح والفراق بالأبدان ; بحيث لا يحبسهن ولا يستولي عليهن كرفع اليد عن الأموال .

قوله : { ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم } نص في أنه لا حرج فيما أخطأ به من دعاء الرجل إلى غير أبيه أو إلى غير مولاه .

ثم قد يستدل به على رفع الجناح في جميع ما أخطأ به الإنسان من قول أو عمل : إما بالعموم لفظا ويقال : ورود اللفظ العام على سبب مقارن له في الخطاب لا يوجب قصره عليه وإما بالعموم المعنوي بالجامع المشترك من أن الأخطاء لا تأثير له في القلب ; فيكون عمل جارحة بلا عمد قلب والقلب هو الأصل كما قال : { إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد } وإذا كان الأصل لم يعمل شيئا لم يضر عمل الفروع دونه لأنه صالح لا فساد فيه فيكون الجسد كله صالحا فلا يكون فاسدا : فلا يكون في ذلك إثم إذ الإثم لا يكون إلا عن فساد في الجسد وتكون هذه الآية ردفا لقوله : { لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } قال قد فعلت .

ويؤيده قوله في الإيمان : { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم } { ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان } فإنه [ ص: 452 ] إذا كان اليمين بالله - وفيها ما فيها - لا يؤاخذ فيها إلا بما كسب القلب فغيرها من الأقوال كذلك وأولى وإذا كان ما حلف عليه من اليمين يظنه كما حلف عليه فتبين بخلافه هو من الخطأ الذي هو اللغو ; لأن قلبه لم يكسب مخالفة كما لو أنه أخبر بذلك من غير يمين لم يكن عليه إثم الكاذب كما لو دعا الرجل لغير أبيه ومولاه خطأ وإذا لم يكن بلا يمين عليه إثم الكاذب لم يكن مع اليمين عليه حكم الحالف المخالف ; إذ اليمين على الماضي حين يؤكد بالقسم فكذلك ما حلف عليه من المستقبل وفعل المحلوف عليه ناسيا ليمينه أو مخطئا جاهلا بأنه المحلوف عليه لم يكسب قلبه مخالفة ولا حنثا كما أنه لو وعد بذلك من غير يمين لم يكن مخالفا ولو أمر به فتركه كذلك لم يكن عاصيا .

وهذا دليل يتناول الطلاق وغيره إما من جهة العموم المعنوي أو المعنوي واللفظي وأي فرق بين أن يقارن اللغو عقد اليمين أو يقارن الحنث فيها وقوله : { ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان } أي هذا سبب المؤاخذة ; لا أنه موجب لها بالاتفاق فيوجد الخطأ في سببها وشرطها ومن قال : لا لغو في الطلاق فلا حجة معه ; بل عليه لأنه لو سبق لسانه بذكر الطلاق من غير عمد القلب لم يقع به وفاقا وأما إذا قصد اللفظ به هازلا فقد عمد قلبه ذكره كما لو عمد ذكر اليمين به .

التالي السابق


الخدمات العلمية