صفحة جزء
وعلى هذا فقوله في قصة فرعون { لعله يتذكر أو يخشى } جعل ذلك نوعين لما في ذلك من الفوائد .

أحدها : أنه إذا تذكر أنه مخلوق وأن الله خالقه وليس هو إلها وربا كما ذكر وذكر إحسان الله إليه . فهذا التذكر يدعوه إلى اعترافه بربوبية الله وتوحيده وإنعامه عليه . فيقتضي الإيمان والشكر وإن قدر أن الله لا يعذبه .

فإن مجرد كون الشيء حقا ونافعا يقتضي طلبه وإن لم يخف ضررا [ ص: 180 ] بعدمه . كما يسارع المؤمنون إلى فعل التطوعات والنوافل لما فيها من النفع وإن كان لا عقوبة في تركها . كما يحب الإنسان علوما نافعة وإن لم يتضرر بتركها .

وكما قد يحب محاسن الأخلاق ومعالي الأمور لما فيها من المنفعة واللذة في الدنيا والآخرة وإن لم يخف ضررا بتركها . فهو إذا تذكر آلاء الله وتذكر إحسانه إليه فهذا قد يوجب اعترافه بحق الله وتوحيده وإحسانه إليه ويقتضي شكره لله وتسليم قوم موسى إليه وإن لم يخف عذابا . فهذا قد حصل بمجرد التذكر .

قال { أو يخشى } . ونفس الخشية إذا ذكر له موسى ما توعده الله به من عذاب الدنيا والآخرة فإن هذا الخوف قد يحمله على الطاعة والانقياد ولو لم يتذكر .

وقد يحصل تذكر بلا خشية وقد يحصل خشية بلا تذكر وقد يحصلان جميعا وهو الأغلب . قال تعالى : { لعله يتذكر أو يخشى } .

وأيضا فذكر الإنسان يحصل بما عرفه من العلوم قبل هذا فيحصل بمجرد عقله وخشيته تكون بما سمعه من الوعيد . فبالأول يكون ممن له قلب يعقل به والثاني يكون ممن له أذن يسمع بها .

[ ص: 181 ] وقد تحصل الذكرى الموجبة للخير بهذا وبهذا كما قال تعالى : { وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا فنقبوا في البلاد هل من محيص } { إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد } .

الفائدة الثانية : أن التذكر سبب الخشية والخشية حاصلة عن التذكر . فذكر التذكر الذي هو السبب وذكر الخشية التي هي النتيجة وإن كان أحدهما مستلزما للآخر كما قال { إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد } وكما قال أهل النار : { لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير } وقال : { أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور } فكل من النوعين يحصل به النجاة لأنه مستلزم للآخر .

فالذي يسمع ما جاءت به الرسل سمعا يعقل به ما قالوه ينجو . وإلا فالسمع بلا عقل لا ينفعه كما قال : { ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا أولئك الذين طبع الله على قلوبهم } وقال : { ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون } وقال : { إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون } .

[ ص: 182 ] وكذلك العقل بلا سمع لما جاءت به الرسل لا ينفع . وقد اعترف أهل النار بمجيء الرسل فقالوا : { بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء } .

وكذلك المعتبرين بآثار المعذبين الذين قال فيهم : { أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها } . إنما ينتفعون إذا سمعوا أخبار المعذبين المكذبين للرسل والناجين الذين صدقوهم فسمعوا قول الرسل وصدقوهم .

الفائدة الثالثة : أن الخشية أيضا سبب للتذكر كما تقدم . فكل منهما قد يكون سببا للآخر . فقد يخاف الإنسان فيتذكر وقد يتذكر الأمور المخوفة فيطلب النجاة منها ويتذكر ما يرجو به النجاة منها فيفعله .

فإن قيل : مجرد ظن الخوف قد يوجب الخوف فكيف قال : { إنما يخشى الله من عباده العلماء } ؟ .

قيل : النفس لها هوى غالب قاهر لا يصرفه مجرد الظن وإنما يصرفه العلم بأن العذاب واقع لا محالة . وأما من كان يظن أن العذاب يقع ولا يوقن بذلك فلا يترك هواه . ولهذا قال : { وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى } .

[ ص: 183 ] وقال تعالى في ذم الكفار : { وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين } ووصف المتقين بأنهم بالآخرة يوقنون .

ولهذا أقسم الرب على وقوع العذاب والساعة .

وأمر نبيه أن يقسم على وقوع الساعة وعلى أن القرآن حق فقال : { زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن } وقال : { وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم } وقال : { ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق } .

التالي السابق


الخدمات العلمية