فصل 
جمع الله سبحانه بين إبراهيم  وموسى  صلى الله عليهما وعلى سائر المرسلين في أمور مثل قوله : { 
إن هذا لفي الصحف الأولى  } { 
صحف إبراهيم وموسى  } .  
[ ص: 198 ] وفي حديث { 
 nindex.php?page=showalam&ids=1584أبي ذر  الطويل قلت : يا رسول الله كم كتابا أنزل الله ؟ قال : مائة كتاب وأربعة كتب : ثلاثين صحيفة على شيث  وخمسين على إدريس  وعشر على إبراهيم   . وعشر على موسى  قبل التوراة . وأنزل التوراة والإنجيل والزبور والفرقان . وقال في الحديث : فهل عندنا شيء مما في صحف إبراهيم  ؟ فقال : نعم وقرأ قوله : { قد أفلح من تزكى  } { وذكر اسم ربه فصلى  } { بل تؤثرون الحياة الدنيا  } { والآخرة خير وأبقى  } { إن هذا لفي الصحف الأولى  } { صحف إبراهيم وموسى  }  } . 
فإن 
التزكي هو التطهر والتبرك بترك السيئات الموجب زكاة النفس كما قال : { 
قد أفلح من زكاها  } ولهذا تفسر الزكاة تارة بالنماء والزيادة وتارة بالنظافة والإماطة . والتحقيق أن الزكاة تجمع بين الأمرين إزالة الشر وزيادة الخير . وهذا هو العمل الصالح وهو الإحسان . 
وذلك لا ينفع إلا بالإخلاص لله وعبادته وحده لا شريك له الذي هو أصل الإيمان . وهو قول { 
وذكر اسم ربه فصلى  } . 
فهذه الثلاث قد يقال تشبه الثلاث التي يجمع الله بينها في القرآن في مواضع مثل قوله في أول البقرة { 
هدى للمتقين  } { 
الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون  } . ومثل قوله :  
[ ص: 199 ]  { 
فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم  } { 
فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين  } . 
وقد يقال : تشبه الثنتين المذكورتين في قوله { 
من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا  } الآية وقوله : { 
ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن  } . 
لكن هنا التزكي في الآية أعم من الإنفاق . فإنه ترك السيئات الذي أصله بترك الشرك . 
فأول التزكي التزكي من الشرك كما قال : { 
وويل للمشركين  } { 
الذين لا يؤتون الزكاة  } وقال : { 
يتلو عليهم آياته ويزكيهم  } . 
والتزكي من الكبائر الذي هو تمام التقوى كما قال { 
فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى  } وقال : { 
ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا  } . فعلم أن التزكية هو الإخبار بالتقوى . 
ومنه التزكي بالطهارة وبالصدقة والإحسان كما قال { 
خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها  } . 
{ 
وذكر اسم ربه  } قد يعني به الإيمان بالله و " الصلاة " :  
[ ص: 200 ] العمل . فقد يذكر اسم ربه من لا يصلي . 
ومن الفقهاء من يقول : هو ذكر اسمه في أول الصلاة . ولهذا والله أعلم قدم التزكي في هذه الآية . 
وكان طائفة من 
السلف  إذا أدوا صدقة الفطر قبل صلاة العيد يتأولون بهذه الآية . وكان بعض 
السلف  أظنه 
يزيد بن أبي حبيب  يستحب أن يتصدق أمام كل صلاة لهذا المعنى . 
ولما قدم الله الصلاة على النحر في قوله : { 
فصل لربك وانحر  } وقدم التزكي على الصلاة في قوله : { 
قد أفلح من تزكى  } { 
وذكر اسم ربه فصلى  } كانت السنة أن 
الصدقة قبل الصلاة في عيد الفطر وأن 
الذبح بعد الصلاة في عيد النحر  . 
ويشبه والله أعلم أن يكون الصوم من التزكي المذكور في الآية . فإن الله يقول { 
كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون  } . فمقصود الصوم التقوى وهو من معنى التزكي . 
وفي حديث 
ابن عباس   : { 
nindex.php?page=hadith&LINKID=118153فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين  } .  
[ ص: 201 ] فالصدقة من تمام طهرة الصوم . وكلاهما تزك متقدم على صلاة العيد . 
فجمعت هاتان الكلمتان الترغيب فيما أمر الله به من الإيمان والعمل الصالح . وفي قوله : { 
بل تؤثرون الحياة الدنيا  } { 
والآخرة خير وأبقى  } الإيمان باليوم الآخر . 
وهذه الأصول المذكورة في قوله : { 
إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون  } . 
وقال : { 
إن هذا لفي الصحف الأولى  } { 
صحف إبراهيم وموسى  } . 
وقال : أيضا { 
أفرأيت الذي تولى  } { 
وأعطى قليلا وأكدى  } { 
أعنده علم الغيب فهو يرى  } { 
أم لم ينبأ بما في صحف موسى  } { 
وإبراهيم الذي وفى  } { 
ألا تزر وازرة وزر أخرى  } { 
وأن ليس للإنسان إلا ما سعى  } { 
وأن سعيه سوف يرى  } { 
ثم يجزاه الجزاء الأوفى  } وأيضا فإن 
إبراهيم  صاحب الملة وإمام الأمة . قال الله تعالى : { 
ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين  } وقال : { 
ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه  } . وقال : { 
ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا  } وقال : { 
إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا  } وقال { 
إني جاعلك للناس إماما  } . 
وموسى  صاحب الكتاب والكلام والشريعة الذي لم ينزل من السماء كتاب أهدى منه ومن القرآن . 
ولهذا قرن بينهما في مواضع كقوله : { 
قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا  } إلى قوله { 
وهذا كتاب أنزلناه مبارك  } وقوله { 
قالوا سحران  } إلى قوله { 
قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه  } وقول الجن : { 
إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه  } وقوله : { 
قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله  } وقول 
النجاشي   " إن هذا والذي جاء به 
موسى  ليخرج من مشكاة واحدة " . 
وقيل في 
موسى   : { 
وكلم الله موسى تكليما  } وفي 
إبراهيم   { 
واتخذ الله إبراهيم خليلا  } وأصل الخلة عبادة الله وحده والعبادة غاية الحب والذل . 
وموسى  صاحب الكتاب والكلام . 
ولهذا كان الكفار بالرسل ينكرون 
حقيقة خلة إبراهيم  وتكليم موسى   . 
ولما نبغت البدع الشركية في هذه الأمة أنكر ذلك 
 nindex.php?page=showalam&ids=14005الجعد بن درهم   [ ص: 203 ] فقتله المسلمون لما ضحى به أمير 
العراق   nindex.php?page=showalam&ids=15800خالد بن عبد الله  وقال : " ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضح 
 nindex.php?page=showalam&ids=14005بالجعد بن درهم  إنه زعم أن الله لم يتخذ 
إبراهيم  خليلا ولم يكلم 
موسى  تكليما " . ثم نزل فذبحه . 
ولما بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم بعثه إلى أهل الأرض . وهم في الأصل صنفان - أميون وكتابيون . والأميون كانوا ينتسبون إلى 
إبراهيم  فإنهم ذريته وخزان بيته وعلى بقايا من شعائره . والكتابيون أصلهم كتاب 
موسى   . وكلا الطائفتين قد بدلت وغيرت . 
فأقام ملة 
إبراهيم  بعد اعوجاجها وجاء بالكتاب المهيمن المصدق لما بين يديه المبين لما اختلف فيه وما حرف وكتم من الكتاب الأول .