صفحة جزء
[ ص: 306 ] والقرآن والسنة تثبت القدر وتقدير الأمور قبل أن يخلقها وأن ذلك في كتاب وهذا أصل عظيم يثبت العلم والإرادة لكل ما سيكون ويزيل إشكالات كثيرة ضل بسببها طوائف في هذا المكان في مسائل العلم والإرادة .

فالإيمان بالقدر من أصول الإيمان كما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل قال : { الإيمان أن تؤمن بالله . وملائكته وكتبه ورسله وبالبعث بعد الموت . وتؤمن بالقدر خيره وشره } وقد تبرأ ابن عمر وغيره من الصحابة من المكذبين بالقدر .

ومع هذا فطائفة من أهل الكلام وغيرهم لا تثبت القدر إلا علما أزليا وإرادة أزلية فقط . وإذا أثبتوا الكتابة قالوا إنها كتابة لبعض ذاك .

وأما من يقول إنه قدرها حينئذ كما في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء } فقد بسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع .

[ ص: 307 ] وهو كقوله { وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب } وقوله { لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين } وقوله { ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى } وقوله { ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين } { إنهم لهم المنصورون } { وإن جندنا لهم الغالبون } وقوله { لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم } .

والكتاب في نفسه لا يكون أزليا . وفي حديث رواه حماد بن سلمة عن الأشعث بن عبد الرحمن الجرمي [ عن أبي قلابة ] عن أبي الأشعث الصنعاني عن شداد بن أوس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { إن الله كتب كتابا قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي سنة أنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة } رواه الترمذي وقال غريب .

وهو سبحانه أنزل القرآن ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا .

وكثير من الكتب المصنفة في أصول الدين والكلام يوجد فيها الأقوال المبتدعة دون القول الذي جاء به الكتاب والسنة .

فالشهرستاني مع تصنيفه في الملل والنحل يذكر في مسألة الكلام [ ص: 308 ] والإرادة وغيرهما أقوالا ليس فيها القول الذي دل عليه الكتاب والسنة وإن كان بعضها أقرب .

وقبله أبو الحسن كتابه في اختلاف المصلين من أجمع الكتب وقد استقصى فيه أقاويل أهل البدع . ولما ذكر قول أهل السنة والحديث ذكره مجملا غير مفصل . وتصرف في بعضه فذكره بما اعتقده هو أنه قولهم من غير أن يكون ذلك منقولا عن أحد منهم . وأقرب الأقوال إليه قول ابن كلاب .

فأما ابن كلاب فقوله مشوب بقول الجهمية وهو مركب من قول أهل السنة وقول الجهمية وكذلك مذهب الأشعري في الصفات . وأما في القدر والإيمان فقوله قول جهم .

وأما ما حكاه عن أهل السنة والحديث وقال " وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول وإليه نذهب " فهو أقرب ما ذكره .

وبعضه ذكره عنهم على وجهه وبعضه تصرف فيه وخلطه بما هو من أقوال جهم في الصفات والقدر إذ كان هو نفسه يعتقد صحة تلك الأصول .

وهو يحب الانتصار لأهل السنة والحديث وموافقتهم فأراد أن [ ص: 309 ] يجمع بين ما رآه من رأي أولئك وبين ما نقله عن هؤلاء . ولهذا يقول فيه طائفة إنه خرج من التصريح إلى التمويه . كما يقوله طائفة : إنهم الجهمية الإناث وأولئك الجهمية الذكور .

وأتباعه الذين عرفوا رأيه في تلك الأصول ووافقوه أظهروا من مخالفة أهل السنة والحديث ما هو لازم لقولهم ولم يهابوا أهل السنة والحديث ويعظموا ويعتقدوا صحة مذاهبهم كما كان هو يرى ذلك .

والطائفتان أهل السنة والجهمية يقولون إنه تناقض لكن السني يحمد موافقته لأهل الحديث ويذم موافقته للجهمية والجهمي يذم موافقته لأهل الحديث ويحمد موافقته للجهمية .

ولهذا كان متأخرو أصحابه كأبي المعالي ونحوه أظهر تجهما وتعطيلا من متقدميهم . وهي مواضع دقيقة يغفر الله لمن أخطأ فيها بعد اجتهاده .

لكن الصواب ما أخبر به الرسول فلا يكون الحق في خلاف ذلك قط والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية