صفحة جزء
ومن أعظم الأصول التي دل عليها القرآن في مواضع كثيرة جدا وكذلك الأحاديث وسائر كتب الله وكلام السلف وعليها تدل [ ص: 310 ] المعقولات الصريحة هو إثبات الصفات الاختيارية مثل أنه يتكلم بمشيئته وقدرته كلاما يقوم بذاته وكذلك يقوم بذاته فعله الذي يفعله بمشيئته .

فإثبات هذا الأصل يمنع ضلال الطوائف الذين كذبوا به والقرآن والحديث مملوء وكلام السلف والأئمة مملوء من إثباته .

فالحق المحض ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يكون الحق في خلاف ذلك . لكن الهدى التام يحصل بمعرفة ذلك وتصوره . فإن الاختلاف تارة ينشأ من سوء الفهم ونقص العلم وتارة من سوء القصد .

والناس يختلفون في العلم والإرادة في تعدد ذلك وإيجاده .

ومعلوم أن ما يقوم بالنفس من إرادة الأمور لا يمكن أن يقال فيه . العلم بهذا هو العلم بهذا ولا إرادة هذا هو إرادة هذا . فإن هذا مكابرة وعناد .

وليس تمييز العلم عن العلم والإرادة عن الإرادة تمييزا مع انفصال أحدهما عن الآخر . بل نفس الصفات المتنوعة كالعلم [ ص: 311 ] والقدرة والإرادة إذا قامت بمحل واحد لم ينفصل بعضها عن بعض بل محل هذا هو محل هذا كالطعم واللون والرائحة القائمة بالأترجة الواحدة وأمثالها من الفاكهة وغيرها .

فإذا قيل " هي علوم وإرادات " لم ينفصل هذا عن هذا بفصل حسي بل هو نوع واحد قائم بالنفس . وإذا علم هذا بعد علمه بذلك فقد زاد هذا النوع وكثر وإن شئت قلت : عظم . فلا يزيد فيه زيادة الكمية عن زيادة الكيفية .

بل يقال " علم كثير وعلم عظيم " بأن تكون العظمة ترجع إلى قوته وشرف معلومه . ونحو ذلك . كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بن كعب : { أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم ؟ قال : { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } . فقال : ليهنك العلم أبا المنذر } وكتب سلمان إلى أبي الدرداء : ليس الخير أن يكثر مالك وولدك ولكن الخير أن يكثر علمك ويعظم حلمك .

وانضمام العلم إلى العلم والإرادة إلى الإرادة والقدرة إلى القدرة هو شبيه بانضمام الأجسام المتصلة كالماء إذا زيد فيه ماء فإنه يكثر قدره . لكن هو كم متصل لا منفصل بخلاف الدراهم .

[ ص: 312 ] فإذا قيل " تعددت العلوم والإرادات " فهو إخبار عن كثرة قدرها وأنها أكثر وأعظم مما كانت لا أن هناك معدودات منفصلة كما قد يفهم بعض الناس .

ولهذا كان العلم اسم جنس . فلا يكاد يجمع في القرآن بل يقال { فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم } فيذكر الجنس .

وكذلك الماء ليس في القرآن ذكر مياه بل إنما يذكر جنس الماء : { وأنزلنا من السماء ماء طهورا } ونحو ذلك .

والعلم يشبه بالماء كقوله صلى الله عليه وسلم { إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا . . . الحديث } . وقد قال : { أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها } إلى قوله { كذلك يضرب الله الأمثال } .

وما خلقه الرب تعالى فإنه يراه ويسمع أصوات عباده . والمعدوم لا يرى باتفاق العقلاء .

والسالمية كأبي طالب المكي وغيره لم يقولوا : إنه يرى قائما بنفسه وإنما قالوا : يراه الرب في نفسه وإن كان هو معدوما في ذات الشيء المعدوم . فهم يجعلون الرؤية لما يقوم بنفس العالم من صورته العلمية [ ص: 313 ] ما هو عدم محض . وهم وإن كانوا غلطوا في بعض ما قالوه فلم يقولوا : إن العدم المحض الذي ليس بشيء يرى فإن هذا لا يقوله عاقل . وفي الحقيقة إذا رئي شيء فإنما رئي مثاله العلمي لا عينه .

وأبو الشيخ الأصبهاني لما ذكرت هذه المسألة أمر بالإمساك عنها .

فقبل أن يوجد لم يكن يرى وبعد أن يعدم لا يرى وإنما يرى حال وجوده . وهذا هو الكمال في الرؤية .

وكذلك سمع أصوات العباد هو عند وجودها لا بعد فنائها . ولا قبل حدوثها . قال تعالى { وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون } وقال { ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون } .

التالي السابق


الخدمات العلمية