صفحة جزء
فصل قوله { الذي خلق } { خلق الإنسان من علق } بيان لتعريفه بما قد عرف من الخلق عموما وخلق الإنسان خصوصا وإن هذا مما تعرف به الفطرة كما تقدم .

ثم إذا عرف أنه الخالق فمن المعلوم بالضرورة أن الخالق لا يكون إلا قادرا . بل كل فعل يفعله فاعل لا يكون إلا بقوة وقدرة حتى أفعال الجمادات . كهبوط الحجر والماء وحركة النار هو بقوة فيها . وكذلك حركة النبات هي بقوة فيه . وكذلك فعل كل حي من الدواب وغيرها هو بقوة فيها . وكذلك الإنسان وغيره .

والخلق أعظم الأفعال فإنه لا يقدر عليه إلا الله . فالقدرة عليه أعظم من كل قدرة وليس لها نظير من قدر المخلوقين .

وأيضا فالتعليم بالقلم يستلزم القدرة .

فكل من الخلق والتعليم يستلزم القدرة . [ ص: 354 ] وكذلك كل منهما يستلزم العلم . فإن المعلم لغيره يجب أن يكون هو عالما بما علمه إياه وإلا فمن الممتنع أن يعلم غيره ما لا يعلمه هو . فمن علم كل شيء الإنسان وغيره ما لم يعلم أولى أن يكون عالما بما علمه . والخلق أيضا يستلزم العلم كما قال تعالى { ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير } . وذلك من جهة أن الخلق يستلزم الإرادة . فإن فعل الشيء على صفة مخصوصة ومقدار مخصوص دون ما هو خلاف ذلك لا يكون إلا بإرادة تخصص هذا عن ذاك . والإرادة تستلزم العلم . فلا يريد المريد إلا ما شعر به وتصور في نفسه والإرادة بدون الشعور ممتنعة .

وأيضا فنفس الخلق خلق الإنسان هو فعل لهذا الإنسان الذي هو من عجائب المخلوقات . وفيه من الإحكام والإتقان ما قد بهر العقول . والفعل المحكم المتقن لا يكون إلا من عالم بما فعل . وهذا معلوم بالضرورة .

فالخلق يدل على العلم من هذا الوجه ومن هذا الوجه .

وقد قال في سورة الملك { وهو اللطيف الخبير } . وهو بيان ما في المخلوقات من لطف الحكمة التي تتضمن إيصال الأمور إلى غاياتها بألطف الوجوه كما قال يوسف عليه السلام { إن ربي لطيف لما يشاء } . وهذا يستلزم العلم بالغاية المقصودة والعلم بالطريق الموصل . وكذلك الخبرة .

وبسط هذا يطول إذ المقصود هنا التنبيه على ما في الآيات التي هي أول ما أنزل .

ثم إذا ثبت أنه قادر عالم فذلك يستلزم كونه حيا . وكذلك الإرادة تستلزم الحياة .

والحي إذا لم يكن سميعا بصيرا متكلما كان متصفا بضد ذلك من العمى والصمم والخرس وهذا ممتنع في حق الرب تعالى . فيجب أن يتصف بكونه سميعا بصيرا متكلما .

والإرادة إما أن تكون لغاية حكيمة أو لا . فإن لم تكن لغاية حكيمة كانت سفها وهو منزه عن ذلك فيجب أن يكون حكيما .

وهو إما أن يقصد نفع الخلق والإحسان إليهم أو يقصد مجرد ضررهم وتعذيبهم أو لا يقصد واحدا منهما بل يريد ما يريد سواء كان كذا وكذا . والثاني شرير ظالم يتنزه الرب عنه والثالث سفيه عابث . فتعين أنه تعالى رحيم كما أنه حكيم كما قد بسط في مواضع .

التالي السابق


الخدمات العلمية