صفحة جزء
[ ص: 511 ] فصل وقوله { وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة } .

قال طائفة من المفسرين : هو تفرقهم في محمد بعد أن كانوا مجتمعين على الإيمان به .

ثم من هؤلاء من جعل تفرقهم إيمان بعضهم وكفر بعض .

قال البغوي : ثم ذكر من لم يؤمن من أهل الكتاب فقال { وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة } أي البيان في كتبهم أنه نبي مرسل . قال المفسرون : لم يزل أهل الكتاب مجتمعين في تصديق محمد حتى بعثه الله . فلما بعث تفرقوا في أمره واختلفوا . فآمن به بعضهم وكفر به بعضهم . وهكذا ذكر طائفة في قوله { ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق ورزقناهم من الطيبات فما اختلفوا حتى جاءهم العلم } قال أبو الفرج قال ابن عباس : ما اختلفوا في أمر محمد لم يزالوا به مصدقين حتى جاءهم العلم يعني القرآن . وروي عنه : حتى جاءهم العلم يعني محمدا . فعلى هذا يكون العلم هنا عبارة عن المعلوم . وبيان هذا أنه لما جاءهم [ ص: 512 ] اختلفوا في تصديقه فكفر به أكثرهم بغيا وحسدا بعد أن كانوا مجتمعين على تصديقه بغيا وحسدا .

ومنهم من جعل المتفرقين كلهم كفارا . قال ابن عطية : ثم ذكر تعالى مذمة من لم يؤمن من أهل الكتاب من بني إسرائيل من أنهم لم يتفرقوا في أمر محمد إلا من بعد أن رأوا الآيات الواضحة وكانوا من قبل متفقين على نبوته وصفته . فلما جاء من العرب حسدوه .

وكذلك قال الثعلبي : ما تفرق الذين أوتوا الكتاب في أمر محمد فكذبوه إلا من بعد ما جاءتهم البينة البيان في كتبهم أنه نبي مرسل قال العلماء : من أول هذه السورة إلى قوله { فيها كتب قيمة } حكمها فيمن آمن من أهل الكتاب والمشركين { وما تفرق } حكمه فيمن لم يؤمن من أهل الكتاب بعد قيام الحجة عليه .

وكذلك قال أبو الفرج . قال : { وما تفرق الذين أوتوا الكتاب } يعني من لم يؤمن . { إلا من بعد ما جاءتهم البينة } وفيها ثلاثة أقوال : أحدها أنه محمد والمعنى لم يزالوا مجتمعين على الإيمان به حتى بعث قاله الأكثرون ; [ ص: 513 ] والثاني : القرآن قاله أبو العالية .

والثالث : ما في كتبهم من بيان نبوته ذكره الماوردي .

( قلت : هذا هو الذي قطع به أكثر المفسرين ولم يذكر الثعلبي والبغوي وغيرهما سواه .

وأبو العالية إنما قال : الكتاب لم يقل : القرآن . هكذا رواه ابن أبي حاتم بالإسناد المعروف عن الربيع بن أنس : { إلا من بعد ما جاءتهم البينة } قال : قال أبو العالية : الكتاب . ومراد أبي العالية جنس الكتاب . فيتناول الكتاب الأول كما قال { ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه } في موضعين من القرآن وقال تعالى { فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه } ثم قال { وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه } .

وهذا التفسير معروف عن أبي العالية ورواه عن أبي بن كعب .

ورواه ابن أبي حاتم وغيره عن الربيع عن أبي العالية عن أبي بن كعب أنه كان يقرؤها { كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين } .

وأن الله إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب عند الاختلاف { وأنزل معهم الكتاب بالحق } قال أنزل الكتاب عند الاختلاف . { وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه } يعني بني إسرائيل . أوتوا الكتاب والعلم { من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم } يقول بغيا على الدنيا وطلب ملكها وزخرفها وزينتها أيهم يكون له الملك والمهابة في الناس فبغى بعضهم على بعض وضرب بعضهم رقاب بعض { فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه } يقول : فهداهم الله عند الاختلاف أنهم أقاموا على ما جاءت به الرسل قبل الاختلاف أقاموا على الإخلاص لله وحده وعبادته لا شريك له وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة . وأقاموا على الأمر الأول الذي كان قبل الاختلاف واعتزلوا الاختلاف . فكانوا شهداء على الناس يوم القيامة كانوا شهداء على قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم شعيب وآل فرعون أن رسلهم قد بلغتهم وأنهم كذبوا رسلهم .

قلت : الاختلاف في كتاب الله نوعان . أحدهما يذم فيه المختلفين كلهم كقوله { وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد } وقوله { ولا يزالون مختلفين } { إلا من رحم ربك } والثاني يمدح المؤمنين ويذم الكافرين كقوله { ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد } وقوله { هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار } إلى قوله : { إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات } وقوله : { إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد } .

وإذا كان كذلك فالذي ذمه من تفرق أهل الكتاب واختلافهم ذم فيه الجميع ونهى عن التشبه بهم فقال { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات } وقال : { وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم } .

وذلك بأن تؤمن طائفة ببعض حق وتكفر بما عند الأخرى من الحق وتزيد في الحق باطلا كما اختلف اليهود والنصارى في المسيح وغير ذلك .

وحينئذ نقول : من قال إن أهل الكتاب ما تفرقوا في محمد إلا من بعد ما بعث إرادة إيمان بعضهم وكفر بعضهم كما قاله طائفة فالمذموم هنا من كفر لا من آمن . فلا يذم كل المختلفين ولكن يذم من كان يعرف أنه رسول فلما جاء كفر به حسدا أو بغيا كما قال تعالى { ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين } .

وإن أريد بالتفرق فيه أنهم كلهم كفروا به وتفرقت أقوالهم فيه فليس الأمر كذلك . وقد بين القرآن في غير موضع أنهم تفرقوا واختلفوا قبل إرسال محمد صلى الله عليه وسلم . فاختلاف هؤلاء وتفرقهم في محمد صلى الله عليه وسلم هو من جملة ما تفرقوا واختلفوا فيه . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية