صفحة جزء
وقوله : { قل يا أيها الكافرون } يتناول كل كافر . فهو لا يعبد ما يعبده أحد من الكفار ولا مشركي العرب ولا غيرهم من المشركين [ ص: 562 ] والكفار أهل الكتاب لا اليهود ولا النصارى ولا غيرهم من أصناف الكفار . وذلك أنه قال { لا أعبد ما تعبدون } . فذكر لفظ " ما " ولم يقل " من تعبدون " . و " ما " تدل على الصفة كما تقدم وما ذكره المهدوي وغيره من أنه قال : { ما أعبد } ولم يقل " من أعبد " يقابل به { ولا أنا عابد ما عبدتم } الذي يراد به الأصنام فضعيف جدا يغير اللغة ويخص عموم القرآن وهو عموم مقصود ويزيل المعنى الذي به تعلقت هذه البراءة .

فإن " ما " في اللغة إما لما لا يعلم ( أ و لصفات ما يعلم كما في قوله { فانكحوا ما طاب } { وما سواها } { وما خلق الذكر والأنثى } وفي التسبيح المأثور أنه يقال عند سماع الرعد : " سبحان ما سبحت له " ومثله كثير . فقوله : { ولا أنتم عابدون ما أعبد } جار على أصل اللغة . وأيضا فقوله : { لا أعبد ما تعبدون } خطاب للكفار مطلقا فهو لا يعبد الملائكة ولا غير ذلك مما عبد من دون الله وإن كان ما عبد أهل العلم والعقل فعبر عن ذواتهم بـ " من " فتخصيص البراءة من الشرك بشرك مشركي العرب غلط عظيم وإنما هي براءة من كل شرك .

وكون الرب يتصف بما تتصف به الأصنام من عدم العلم ما لا [ ص: 563 ] يجوز عليه ولا تصح المقابلة في مثل ذلك . بل المقصود ذكر الصفات والإخبار بمعبود الرسول والمؤمنين ليتبرأ من معبودهم ويبرئهم من معبوده .

وإذا قال اليهود : نحن نقصد عبادة الله . كانوا كاذبين سواء عرفوا أنهم كاذبون أو لم يعرفوا كما يقول النصارى : إنا نعبد الله وحده وما نحن بمشركين وهم كاذبون . لأنهم لو أرادوا عبادته لعبدوه بما أمر به وهو الشرع لا بالمنسوخ المبدل .

وأيضا فالرب الذي يزعمون أنهم يقصدون عبادته هو عندهم رب لم ينزل الإنجيل ولا القرآن ولا أرسل المسيح ولا محمدا . بل هو عند بعضهم فقير وعند بعضهم بخيل وعند بعضهم عاجز وعند بعضهم لا يقدر أن يغير ما شرعه . وعند جميعهم أنه أيد الكاذبين المفترين عليه الذين يزعمون أنهم رسله وليسوا رسله بل هم كاذبون سحرة . قد أيدهم ونصرهم : ونصر أتباعهم على أوليائه المؤمنين لأنهم عند أنفسهم أولياؤه دون الناس . فالرب الذي يعبدونه هو دائما ينصر أعداءه .

فهم يعبدون هذا الرب والرسول والمؤمنون لا يعبدون هذا المعبود الذي تعبده اليهود . فهو منزه عما وصفت به اليهود معبودها [ ص: 564 ] من جهة كونه معبودا لهم منزه عن هذه الإضافة . فليس هو معبودا لليهود وإنما في جبلاتهم صفات ليست هي صفاته زينها لهم الشيطان .

فهم يقصدون عبادة المتصف بتلك الصفات وإنما هو الشيطان . فالرسول والمؤمنون لا يعبدون شيئا تعبده اليهود وإن كانوا يعبدون من يعبدونه . وهذا مما يظهر به فائدة ما ذكرنا .

وعلى هذا فقوله : { لكم دينكم ولي دين } خطاب لجميع الكفار كما دلت عليه الآية . وبهذا يظهر خطأ من قال إنه خطاب للمشركين والنصارى دون اليهود كما في قول ابن زيد : { لكم دينكم ولي دين } قال للمشركين والنصارى واليهود لا يعبدون إلا الله ولا يشركون إلا أنهم يكفرون ببعض الأنبياء بما جاءوا به من عند الله ويكفرون " برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما جاء به وقتلوا طوائف الأنبياء ظلما وعدوانا . قال : إلا العصابة التي تقول حيث خرج بخت نصر وقيل : من سموا عزيرا " ابن الله " ولم يعبدوه . ولم يفعلوا كما فعلت النصارى قالت : المسيح ابن الله وعبدته .

فهذا الذي ذكره من أن اليهود لا تشرك كما أشركت العرب والنصارى صحيح لكنهم مع هذا لا يعبدون الله . بل يستكبرون عن عبادته ويعبدون الشيطان لا يعبدون الله . ومن قال إن اليهود [ ص: 565 ] تعبد الله فقد غلط غلطا قبيحا . فكل من عبد الله كان سعيدا من أهل الجنة وكان من عباد الله الصالحين . قال تعالى { ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين } { وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم } وفي الصحيحين { أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن : إنك تأتي قوما هم أهل كتاب فأول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله } وفي رواية : { فادعهم إلى عبادة الله فإذا عرفوا الله فأعلمهم . . . } " فلا يعبد إلا الله بعد أن أرسل محمدا وعرفت رسالته وبلغت . ولهذا اتفق العلماء على أن أعمالهم حابطة . ولو عبدوا الله لم تحبط أعمالهم . فإن الله لا يظلم أحدا .

وقبل إرسال محمد إنما كان يعبد الله من عبده بما أمر به . فأما من ترك عبادته بما أمر به واتبع هواه فهو لا يعبد الله إنما يعبد الشيطان ويعبد الطاغوت . وقد أخبر الله عن اليهود بأنهم عبدوا الطاغوت وأنه لعنهم وغضب عليهم وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت .

وهو اسم جنس يدخل فيه الشيطان والوثن والكهان [ ص: 566 ] والدرهم والدينار وغير ذلك . وقال تعالى . { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت } وقال { نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون } { واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان } الآية وهم أشد عداوة للمؤمنين من النصارى وكفرهم أغلظ وهم مغضوب عليهم . ولهذا قيل : إنهم تحت النصارى في النار . واليهود إن لم يعبدوا المسيح فقد افتروا عليه وعلى أمه بما هو أعظم من كفر النصارى . ولهذا جعل الله النصارى فوقهم إلى يوم القيامة .

فالنصارى مشركون يعبدون الله ويشركون به . وأما اليهود فلا يعبدون الله بل هم معطلون لعبادته مستكبرون عنها كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم استكبروا ففريقا كذبوا وفريقا يقتلون . بل هم متبعون أهواءهم عابدون للشيطان .

فالنبي والمؤمنون لا يعبدون ما تعبده اليهود . وهم وإن وصفوا الله ببعض ما يستحقه فهم يصفونه بما هو منزه عنه . وليس في قلوبهم عبادة له وحده . فإن ذلك لا يكون إلا لمن عبده بما أمره به .

والسورة لم يقل فيها : " يا أيها المشركون " حتى يقال فيها إنها [ ص: 567 ] إنما تناولت من أشرك . بل قال { يا أيها الكافرون } فتناولت كل كافر سواء كان ممن يظهر الشرك أو كان فيه تعطيل لما يستحقه الله واستكبار عن عبادته . والتعطيل شر من الشرك وكل معطل فلا بد أن يكون مشركا .

والنصارى مع شركهم لهم عبادات كثيرة واليهود من أقل الأمم عبادة وأبعدهم عن العبادة لله وحده . لكن قد يعرفون ما لا تعرفه النصارى لكن بلا عبادة وعمل بالعلم . فهم مغصوب عليهم وأولئك ضالون . وكلاهما قد برأ الله منهم رسوله والمؤمنين .

وفي هذه الأمة من يعرف ما لا تعرفه اليهود والنصارى بلا عمل بالعلم . ففيهم شبه كما قال سفيان بن عيينة : من فسد من علمائنا كان فيه شبه من اليهود ومن فسد من عبادنا كان فيه شبه من النصارى . بل قد قال أبو هريرة : ما أقرب الليلة من البارحة أنتم أشبه الناس ببني إسرائيل . بل في الحديث الصحيح : { لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه . قالوا : اليهود والنصارى . قال : فمن ؟ وفي رواية : فارس والروم ؟ قال : ومن الناس إلا أولئك } ؟ "

. وقال : " { افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة وافترقت [ ص: 568 ] النصارى على ثنتين وسبعين فرقة وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة } " .

وقد بسط هذا في غير هذا الموضع وبين فيه حال الفرقة الناجية الذين هم على مثل ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه .

ومما يوضح ما تقدم أن قوله { لا أعبد ما تعبدون } { ولا أنتم عابدون ما أعبد } معناه المعبود . ولكن هو لفظ مطلق يتناول الواحد والكثير والمذكر والمؤنث . فهو يتناول كل معبود لهم .

والمعبود هو الإله فكأنه قال : لا أعبد إلهكم ولا تعبدون إلهي كما ذكر الله في قصة يعقوب . قال تعالى { أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون } واسم الإله والمعبود يتضمن إضافة إلى العابد . وقال : { وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق } هو الذي يعبده هؤلاء صلوات الله وسلامه عليهم ويؤلهونه . وإنما يعبده من كان على ملتهم كما قال يوسف { إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون } { واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس } إلى قوله { ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون } . فتبين أن ملة آبائه هي عبادة الله . وهي ملة إبراهيم . وقد قال تعالى { ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه } إلى قوله { فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون } .

وإذا كان كذلك فاليهود والنصارى ليسوا على ملة إبراهيم وإذا لم يكونوا على ملته لم يكونوا يعبدون إله إبراهيم . فإن من عبد إله إبراهيم كان على ملته قال تعالى { وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين } إلى قوله { وهو السميع العليم } فقوله : { قل بل ملة إبراهيم } يبين أن ما عليه اليهود والنصارى ينافي ملة إبراهيم .

وهذا بعد مبعث محمد مما لا ريب فيه فإنه هو الذي بعث بملة إبراهيم . والطائفتان كانتا خارجتين عنها بما وقع منهم من التبديل . قال تعالى { إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا } وقال { قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم } الآية .

وقال { ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا } .

التالي السابق


الخدمات العلمية